في سورية: للموت طقس آخر!
فراس أبو هلال
بطقوس بسيطة ولكنها تليق بمقامهم الرفيع، يشيع السوريون شهداءهم يشيعون سادةَ الكلمة التي كسرت حاجز الصمت بكلام وأهازيج تخفي أكثر مما تقول.
يشيعونهم.. بعد أن يجمعوا ما تبقى من أجسادهم الغضة المقطعة على مذبح الحرية بطقوس تجمع بين المتناقضات، تحمل المعنى وما يعاكسه، وتحتفظ بالموروث دون أن تقدسه، بل تضفي عليه معاني جديدة ستصبح يوما ما موروثا لجيل قادم، حتما سيكون حرا بما يكفي ليتحدث عنها بوافر من الهالة والقداسة والحنين.
يحملون شهداءهم بتوابيت يرددون حولها كلمات من ‘ إلياذتهم ‘ التي كتبوها بأنفسهم، دون أن ينتظروا ‘هوميروسهم’، فالدم المسال على مذبح الحرية أبلغ من كل ما كتبته الأساطير، وما عجزت حتى عن كتابته.
يكرمون ميتهم بدفنه كما تقول تعاليمهم الدينية وموروثهم الاجتماعي، ولكنهم قبل ذلك يكرمون أنفسهم بإلقاء النظرة الأخيرة على الميت وهو يرقَّص بين الجموع.
تحمل التوابيت … خمسة أو ستة أو عشرة أو يزيد… تحملها الأكف التي ربما كانت ستأخذ مكانها في النعش، لو ساقها القدر إلى مرمى الرصاص البغيض.
مطرب الحي يحمل، هو الآخر، فوق الأكف، ويحمل سماعة لم تستطع أجهزة الأمن أن تلقي القبض على بطارياتها بعد، ويرفع صوته بالمواويل… يرفع أكثر أكثر، ربما رغبة في الانتقام من قاتل سيذبحه يوما، إن استطاع الوصول إليه!
يجتمع في الهتافات الدين والتراث والأساطير والتمنيات:
لا إله إلا الله
سكابا يا دموع العين سكابا
الموت ولا المذلة
سورية بدها حرية
حرية للأبد
تصرخ الجموع بصوت يزلزل الأرض:
هي لله هي لله
والله والله والله … ما بنركع إلا ل الله
هم السوريون، إذن، يصنعون تجربتهم الفريدة مع الموت، …. ففي سورية فقط يركض المشيعون بطريقة احتفالية مليئة بالزهو وهم يحملون شهداءهم، وكأن الشهداء يحثونهم على الركض مستعجلين إلى ربهم …. ‘وعجلت إليك رب لترضى’.
وفي سورية فقط، يعرض الشهداء بحركة دائرية، تجعل من طقس الموت فرصة للانتقام من القاتل ألذي اراد لهذه الجنازات أن تدفن على عجل وبحزن عادي بسيط.
وفي سورية فقط، يوضع ‘عقال’ الشهيد و’حطته ‘ فوق تابوته، في لحظة تتركز فيها الحياة على الرغم من وطأة الموت الثقيلة.
هل يتعب الشهداء حين يدورون على أكف أحبابهم بكل هذه الحماسة والفرح والحزن والانتشاء؟ هل يسمع الشهداء التراث الشامي الذي يردده أحبتهم حول جثامينهم بكل ما احتوت الأهازيج الدمشقية والحموية والحمصية والحورانية والباب عمرية والإدلبية.. إلى آخر الاسماء التي بتنا نحفظها كما تحفظ هي أسماء شهدائها عن قلبِ قلب؟ وأي المشاعر تلك التي تنتاب المشاركين بحفل زفاف الشهيد؟ وهل من فسحة في زحمة كل هذه التفاصيل لأهل الشهيد، الذي توزع فخاره على كل أهل المدينة فبات ‘ملكا’ لهم أجمعين؟ ربما، ربما يسمح المشهد أن تضاف إلى خلفيتة بين غناء المشيعين وتكبيراتهم، صورة لابنة فقدت أباها الفقير…أو إمرأة ترملت على حين غرة، أو فتى جعله الرصاص ‘القومي’ يتيما لمجرد أنه ولد في حمص.فبين كل تفاصيل هذا الفرح المضمخ بروح شعبية جمعية لا تلين، يبقى للبكاء، وإن كان خجولا، مكانه في العيون. يبدأ المشيعون بالتفرق بين القبور، يلقي الشيخ غير الرسمي خطبته ودعاءه بالرحمة والنصر المبين، تهدأ بطارية السماعات اليدوية التي كان يحملها المغنون، يجتهد شباب الحي أن يختاروا ‘أنعم’ الرمل وأجمله ليغطي قبر الشهيد، يهزج شاب لرفيقيه بعض الهتافات التي نسيها قائد الحفل لئلا يغضب الشهداء منهمتتسلل بعض الدموع إلى عيني إمرأة كانت قد دفنت ابنها قبل أيام في ظروف تشبه هذه الظروف، يتلفت رجل عجوز يمنة ويسرة ليتأكد أن ابنه الوحيد لم يمت بعد ولم تلمحه رصاصات ‘حماة الديار’ يبعث الله غيمة، يستبشر السائرون، فلعل حبيبات المطر ترطب رمل القبور وتجلي هموم القلوب،يسمع الشهداء صوت أقدام أحبتهم راحلين، فيعودون إلى ربهم، ويعود اليتامي والثكالى إلى غرفهم الباردة ليحظوا بلحظة من بكاء أصرت مراسيم العرس على إخفائها!
تتبلل ‘وسائدهم’ بالدمع، يفقدون رغبتهم بالنوم، يطلع الصبح، يصرخون مع المؤذن الذي يرفع صوته من بقايا مئذنة لم يسقطها القصف: الله أكبر… الموت ولا المذلة.
‘ كاتب عربي
القدس العربي