في سورية: مثقف يخاف، مثقف ضد الخوف
حمود حمود
منذ فترة كتب د. مصطفى السباعي الإسلامي «السني»، مقالاً عنونه «ماذا تريدون يا أبناء الأقليات في سورية حتى تطمئنوا؟؟!!». هذا الكاتب وإن بدا متسامحاً، إلا أن العنوان بحد ذاته يترجم «طائفية» الكاتب المستندة إلى دعوى الأغلبية السنية وحضها للأقليات بمشاركتهم لمسار التغيير في سورية، بدليل أن الأغلبية ستضمن حقوق الأقليات في حال زوال النظام، ولكن بشرط أن يحكموا هم! (كما يقال عن تحرير المرأة ولكن من منطلق ذكوري، وكون أن الشوكة بيد صاحب القضيب، فهو يقود مسيرة التحرير!)؛ حتى مؤتمر اسطنبول الأخير الذي عقد بمباركة ورعاية الإخوان المسلمين، لم يكن بعيداً عن هذه الرؤية حينما طالب بحكم يتناسب و«خصوصية المجتمع السوري»، الأمر الذي أعاد الصورة للوراء، إلى ثلاثين سنة في دعوة الإخوان المسلمين لقيام حكم إسلامي «سني» في سورية، وذلك في بيانهم الشهير «بيان الثورة الإسلامية في سورية ومنهاجها» بتاريخ 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1980.
لكن ما الذي يقابل هذه الدعوات للاستبداد السني بالحكم؟ الذي يقابله هو «الخوف» منهم ومن دعواتهم، من أسنانهم الحادة حينما يستولون على الحكم في البلد. هذا الخوف عبر عنه كاتب آخر بعنوان مخيف و«مقلق» بنفس الوقت «حق الخوف في سورية» للأستاذ عمار سليمان علي الذي نشره على صفحات الأوان.
وإذا كان كاتب المقال يسجل اعتراضاً على الأستاذ عمار ديوب في مقاله «عن خوف الأقليات في سورية» بحكم أنه يسكن في «برجه العاجي» ولا يرى الوقائع ولا يسمعها كما تجري على أرض البلد السوري، وإذا كانت كلمات عمار علي قد تنفست في مقاله من خلال نافذة «الخوف»، فإن مقاله بمجمله يترجم هوية الكاتب المتمترس داخلها، والتي دعته أن يقرأ أحداث سورية طبق الصورة التي قدمها، الخوف مما يحدث، الخوف مما سيأتي.
نحن في الواقع أمام مثقَفين سوريين اثنين، أمام رؤيتين، هاجس كل منهما يتعلق حول معركة تتعلق مباشرة بحق الوجود: الأول يدعو الأقليات أن لا تخاف على وجودها، وقد وصلت الدرجة بمثقف سوري –عمار ديوب- يقول أنه ضد الخوف، أن يستشهد على هذا بالإخوان المسلمين! فربما هم لا يمتلكون أسناناً حادة تخاف منها قطاعات كبيرة من الشعب السوري: «الحقيقة، أنّه ليس في سورية، مشكلة طائفية أصيلة، بل ولدينا تاريخ مشرّف، على مدار القرن العشرين من الوعي التنويري والعلماني ومن الأحزاب الحداثية، وحتى الأخوان المسلمين كانوا حزباً سياسياً يؤمن بالعملية الديمقراطية في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم.». هذه الدرجة التي وصل إليها مثقفون سوريون تترجم حجم مأساة عقلية يعيشها قطاع واسع.
بينما الثاني مثقف «يخاف» وقد دافع عن خوفه: «ولكن ما أدريه يقيناً هو أنني، كإنسان مجرد من كل معرفة ومن كل ثقافة، وربما من كل عقل، أشعر بالخوف، وعندما أشعر بالخوف أنسى كل حقوق الإنسان، ولا أتذكر إلا حقاً واحداً هو حقي بالأمان والسلام والاستقرار والاطمئنان».
إذا كتُب المقالان انطلاقاً من هذه الأرضيات «القلقة»، فإننا ندرك حجم التوتر المبتعد عن تحليل عقلاني لمجريات الأحداث. المسألة لم تعد تتعلق بمجرد صحة أو عدم صحة أخبار ما أو فبركة بعض الصور… إنها أبعد من ذلك، إنها معركة وجود.
قبل مناقشة بعض النقاط أود أن أرسم صورة سريعة لخلفية ما يجري الآن على صعيد واقع المثقفين السوريين ونظرتهم للأحداث التي تعصف في سورية، ولكن من ناحية النظر إلى البعد الطائفي.
في السابق قبل حركة الاحتجاجات، كان المثقفون السورين (وخاصة من اليسار) والنظام السياسي يشتركون في نقطة واحدة هي التنديد بالطائفية، ولكن كل على طريقته؛ حتى أنه من المستحيل أن تجد مثقفاً سورية يسأل آخراً عن هويته الطائفية. لماذا؟ لأنه يعتبر نفسه فوق الطائفية، والطائفية تحت قدميه، وفي أحسن الأحوال يقول: أنا لا يهمني دينه أو طائفته ما دام حر التفكير وعلمانياً، حتى أنه تصل الدرجة إلى الحرج لذكر أسماء الطوائف.
فإذا كان مفهوماً أن النظام السياسي في سورية كان ينأى بنفسه عن الحديث في الطوائف، لأنه كما يقول أنه يستند في حكمه إلى إيديولوجيا قومية مترفعة على الطوائف، وتنتمي لتراث حزب البعث، فإن المثقفين السوريين شاركوا السلطة ببعض هذه الرؤية، لكنهم كانوا يستندون إلى أداليج أخرى غير البعث، ومحتكمين بنفس الوقت إلى براديغيمات ذهنية واحدة يشتركون فيها مع السلطة.
هذا هو السبب الرئيسي لغياب إحصائية دقيقة تحدد نسبة الطوائف في سورية، (فضلاً عن الإحجام في درسها ونقدها) سوى ما يصدر من مقاربات تبتعد أو تقترب من واقع حجم الطوائف في سورية (الغياب هذا، تشترك فيه تركيا أيضاً). إن تجاهل المثقفين السوريين للطائفية ودرسها بنحو نقدي، هو ما نجد نتائجه المرعبة اليوم.
ماذا كانت النتيجة؟ هي بقاء المجتمع السوري منفصلاً عن كلا الخطابين، الخطاب السلطوي والخطاب الثقافوي، وترك هذا المجتمع ليعتمل داخل كونتوناته الإلهية، ويحتقن رويداً رويداً في العمق بخطاباته الطائفية التي لم يكن ليتجرأ على البوح بها. والأنكى أنه إذا قام مثقف ودافع عن العلمانية كسلوك وكثقافة اجتماعية (وليس سياسياً من فوق فقط)، وانتقد أقنوماً مقدساً تحتمي به أبناء طائفة ما (كـ محمد والله مثلاً) يصعد مثقف آخر ويقول لا يجوز المساس بمقدسات المجتمع…!
لا يجوز المساس بمقدسات المجتمع!!؟، وبنفس الوقت، المجتمع السوري مجتمع غير طائفي؛ هذه كانت إحدى مفارقات بعض المثقفين السوريين. المشكلة لم تكن لتقف عند هذا الحد، بل كان هذا المجتمع على الدوم يتلقى الإدانات من السلطة والمثقفين إذا تجرأ وتحدث بالطائفية.
هذا الحال بابتعاد المثقفين عن الخطاب الاجتماعي، أنتج ما يمكن أن نسميه «طائفية الثقافويين» الذين كانت لهم أيضاً كونتونات خاصة بهم، لا علاقة لهم بالمجتمع. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على إعفاء المثقف نفسه من حمل عبء النهوض بمجتمعه واجتثاث براثين الدين والطائفية.
لم يكن ليستطع المثقف السوري أن يقدم لمجتمعه سوى إنكار واقع وجود الطائفية، أما إذا حدث وتحدث بها أي عن طوائفه وأحوالهم، فمباشرة تُوجه التهم والإدانات ضده، لأنه طائفي، لأنه متعدد الطوائف، لأن خطاب المجتمع لم يرتق لمستوى خطاب حضرة المثقف…الخ. وأحد أهم الأسباب في ذلك، هو حالة الفصام التاريخي بين المثقف وبين المجتمع، هذا فضلاً عن الثغرات المبنية بالأصل بين النظام السياسي ومجتمعه.
لكن هل كانت كونتونات المثقفين مجرد هياكل يسارية وهمية، بحيث لمجرد أدنى صدمة حتى يتصدع الهيكل كله؟ لقد برزت مؤخراً مشكلة نتيجة ذلك السلوك الثقافوي ونتيجة ما تمر به سورية الآن، لايستطيع المثقفون التحدث بها، لا بل يستعلون عليها، هو حدوث بعض الارتدادات النكوصية عند بعض المثقفين (وأركز على كلمة بعض) إلى الوراء إلى اللاوعي القبلي، أي الاحتماء بالولاءات الدينية والإثنية.
المثقفون السوريون أنفسهم الذين كانوا في السابق يعترضون على ذكر ولو حتى أسماء الطوائف، أصبحوا الآن يشيرون إلى بعضهم: مثقف درزي أو علوي أو إسماعيلي أو سني… إلا أنه مثقف يساري!! مثقف ينتمي إلى تلك الطائفة إلا أنه ماركسي….الخ: مثقف ذو بنية طائفية إلا أنه مهيكل بهيكل يساري. وأصبح بكل بساطة هذا المثقف اليساري يتحدث عن الطوائف (التي كان في السابق يستنكرها) ويدافع عن طائفته الدينية، الأمر الذي انعكس على رؤيتهم للأحداث التي تجري على أرض الواقع السوري: كل (من هؤلاء البعض) يرى ويقرأ الأحداث ليس بمنطق وطني سوري وإنما بعيون طائفته؛ إلا أنهم على السطح لا يعلنون هذا، ويلجئون للمداورة وتأويل الأحداث كما تشتهيها «أركان الطائفية» الجاثمة في اللاوعي، ما أدى تالياً إلى شروخات وانقسامات بين المثقفين، وأصبح مفهوماً عندهم لماذا ذلك المثقف بالذات يقف ضد الاحتجاجات الشعبية، ولماذا ذاك الآخر يقف معها؛ وكل واحد منهما يسحب البساط لتحت قدميه. وبنفس الوقت الدماء تسيل على الأرض. ولا نستغرب والحال هذه من مثقف يساري كبير (بغض النظر عن الأسماء)، -إلا أنه سني!- له تاريخ في النضال أن يتكلم بحكم الأغلبية، وحقوق الأقليات.
«الخوف» الذي عبر عنه الأستاذ عمار علي في مقاله، من المهم أن نتفهمه، وهو لا يعبر عن ذاته فقط بل هو يمثل نسبة كبيرة من الشعب السوري وخاصة في المناطق التي تحتدم فيها الاحتقانات الطائفية. وهو بنفس الوقت النتيجة الطبيعية لذلك الاحتقان الطائفي الطويل الذي اعتمل داخل المجتمع السوري، وتجاهلته أيادي السلطة السياسية والمثقفين السوريين: الآن بدأ الدود يطلع على السطح، كما يقال.
الأستاذ عمار ديوب من جهته ينكر الطائفية في سورية جملة وتفصيلاً في مقاله «عن خوف الأقليات في سورية». وبماذا يستدل على هذا؟ يستدل بالإخوان المسلمين! أقل ما يقال عن تأصيل وجود المشكلة الطائفية في سورية هو مقال الأستاذ عمار ديوب نفسه، والردود عليه، والمقال الذي تلاه في الرد عليه معبراً عن مخاوف تعيشها بعض المناطق السورية. لكن ثمة نسبة كبيرة من هؤلاء المثقفين لا تحب سماع أحاديث عن بعض الحوادث الطائفية التي من الممكن أن تشعل الأخضر واليابس إذا استمر إنكارهم لها، وإن صدقوها على مضض يقولون أنها حوادث «فردية»، وربما لا يمكنهم رؤيتها إلا حينما يشتعل البلد.
هذه الرؤى في الواقع تعكس واقع المثقفين السوريين. والمفارقة الأكثر دراماتيكية، أن المثقفين الذين ينكرون الطائفية في سورية، هم أنفسهم وقبل انطلاق الأحداث أمضوا وقتاً لا بأس به وبذلوا جهداً مضنياً في التنديد بالطائفية في سورية وإنشاء صفحات على الفيسبوك ترفع شعارات (فقط شعارات كالعادة) «لا للطائفية» وغيرها. لكن ما بدا لاحقاً للعيان أن الواقع كان متجاوزاً لهم بأميال. وبالرغم من ذلك يستمرون إلى الآن في إنكار وجود الطائفية.
إن عدم رؤية وقراءة الواقع كما هو، هو ما يدفع الأستاذ عمار علي لأن لا يرى في حركة الاحتجاجات منذ خمسة أشهر إلى الآن سوى بعض العنفصات السنية من قتل وتمثيل…لكنه ربما غير قادر على قراءة صورة الاحتجاجات بنحو كامل كما يقدمها المزاج السوري العام، فهو مصر على أن يعيش في كونتونة الخوف، لأنه ربما يرتعب من العرعور وبعض الأحاديث التي يسمعها أو يشاهدها في بعض الصور، والمتداولة فقط عند من «يخافون». الآن في الواقع هناك مثقفون لا ينظرون للمستقبل من خلال انتمائهم إلى سورية كبلد لكل السوريين، بقدر ما ينظرون من خلال الحواجز الوهمية المرتهنين داخلها. وثمة من يقول –ولست متأكداً من هذا- أن الذي يتابع العرعور ويشاهد مسرحياته الدونكيشوتية هم فقط من يخاف من التغيير، على الأقل ليقنع نفسه بأن «خوفه» على حق. لكن ما هو متأكد منه أن السوريين المنتفضين بوجه عام، لم ولن ينزلوا إلى هذا المستوى من الحضيض الديني.
إذا كان البلد الآن على كف عفريت، وهو مرشح للدخول في نفق مظلم أكثر، فإنه من الواجب قبل كل شيء رؤية هذا الواقع كما هو، والاعتراف به كما هو، لا أن نلجأ على الطريقة الإسلامية ونفتخر بتاريخ سورية الذهبي! إنّ المهزوم والمأزوم فكرياً هو الذي يلجأ إلى أحضان التاريخ، إلى السلف الصالح، لكي يبرهن على وجوده الآن. إذا استمر المثقفون بترديد نفس نغمة السياسيين، بإنكار وجود الطائفية، بحجة أن تاريخ سورية لم يشهد صراعاً طائفياً، فإن الأزمة السورية ستتفاقم أكثر.
نعم، إن التوازنات الديموغرافية للطوائف في سورية لا تسمح -من ناحية تحليل موضوعي- لقيام حرب طائفية على الطريقة اللبنانية أو العراقية، لكن ما يحدث الآن يخشى منه أن يمثل وقوداً لاحترابات مسلحة سواء احترابات أهلية، أو بين النظام وبعض شرائح المنتفضين. لكن بالتأكيد هذا لن يصب في مصلحة أي طرف في النهاية، ولن يكون في صالح سورية التي نرجوها وطناً لكل السوريين.
موقع الآوان