في شرف الكتابة ومخاطبها
وفيق سليطين
يبدو لي أن شرف الكتابة يتأتى، أولاً، من كونها تبني موقعاً للتفكير، يسمح بتناوب الأسئلة عليه، ويفعّل، من داخل بنيانه الخاص، المقدرة على صقل الحاسة النقدية وإذكاء عمل البصيرة، بحيث يكون هذا الموقع، بعيداً عن المؤالفة والمخالفة، منتجاً للحوار، وقادراً على تعميق شرطه، بما يحتفظ من فسحة ضرورية له في بنيته، التي تسفر، بذلك، عن كونها مرتعاً للخصوبة، ومولّداً لطاقات النفي والإثبات، في تفتيح مكامن الاعتراض والتحديد الإضافي، على النحو الذي يكون عائده إثراءً للأطروحة، واتساعاً بممكنها، وتركيباً لآحادها النظرية، بما يُحمل عليها من سلب وإيجاب يتلازمان في تركيز صور البرهان وحفز نشاط التعقّل.
يدعوني إلى مثل هذا التقديم بعض ما وقفتُ عليه من مقالات تخترم حياتنا الفكرية والثقافية باحتفالها احتفالاً خاصاً بآليات الهجوم والاتهام والتشفّي، فضلاً عن التنطّع إلى توزيع شهادات حُسن النظر والسلوك، وتخصيص أماكن القيمة، قياساً على مساطر ذاتية ينفرد بها أصحابها، ويُخيّل إليهم أنهم، بموجبها، باتوا مخولين بتبديل المواقع على إشاراتها الثابتة.
من خاصيات الكتابة البانية أنها تقترح مفاهيم تنطلق منها وتشتغل بها وعليها، لتعديل نسب الحقيقة، وكبح جماح الرغبة في الاستيلاء عليها وإفراغها، عملياً، من حقيقيتها بقصرها على منظور لا تبارحه في أفعال الحال والاستقبال.
ولا شك في أن هذه الكتابة القائمة على ركائز مفهومية تحوز ما يؤهّلها للانخراط في علاقة مع “الحقيقة”، هدفها الإسهام في رفع حجاب المباشرة عـن “المعطى”، والنفاذ إلى ما وراءه للكشف عن توضعات القوة وآثارها العاملة في عمقه المحتجب.
وهو ما يردّ حصيلته على مسؤولية الكتابة، بإعادة بناء موقعها، وتدقيق مفهوماتها، وضبط جهازها، وتوسيع أفقها الحواري على نحو ما يقتضيه انعكاسها على نفسها من ترشيد تبصراتها، وإعادة اختبار مقولاتها في أفق يكتنز عناصر الجدّة والتنامي والتغيير.
وعلى وفاق بنية هذه الكتابة، تنتقش في داخلها صورة مخاطبها، الذي تتوجّه إليه فاعلاً، ومشاركاً، ومعترضاً، ومفجّراً لأسئلتها المضمرة. إنها تبني صورته في داخلها على هذا النحو، في الوقت الذي تتوجّه إليه، وتدفع به إلى ممارسة إنتاجية، تجعل من المقروء أفقاً للتقاطع المعرفي، كما تجعل من القارئ بعداً من الأبعاد التي تنطوي عليها عملية القراءة في حركة الرفد والاستكشاف والمساءلة النوعية. وعلى أساس من ذلك تنادي هذه الكتابة مخاطبها، وترسم له في عمقها الذاتي، وفي صيغتها الداخلية موقعه المفترض. وإلا فما معنى أية كتابة تندُّ عن هذه المحددات، وتنكفئ عن هذه الآفاق؟ ما معناها إن لم تكن فأساً تشقّ البحر المتجمد فينا على حدّ تعبير “كافكا” الذي يتساءل، في سياق الإنكار، عن جدوى قراءة الكتاب الذي لا يوقظنا بقبضه على الجمجمة.
ربما كان بمقدورنا أن ندير السؤال نفسه في وجه كتابة مقابلة من سماتها الترخّص والاستسهال وملازمة النحو “التوتولوجي” في إعادة تحصيل الحاصل. ومن صور هذه الكتابة ما نطالعه بين وقت وآخر في شكل اندفاعات غريزية صمّاء، تستند إلى ذات استعلائية، لا ترى ما تشير به إلى علوّها المتوهم سوى تسفيه الآخرين، والقصد إلى خلق خصوم تنشئهم على مقياسها الذاتي، وترجمهم بظنونها وأوهامها المرفوعة إلى سقف المعرفة؛ ليكونوا مستحقين للتأثيم الذي يقضي بإسقاطهم من جنّة “نقاوتها” إلى جحيم شيطنتهم. ومرجع ذلك أنها كتابة لا تحتفل بالفرق، ولا تسكنها مفاصل الاختلاف، ولا تلتفت إلى التجاذبات الخاصة في حقل المفهوم. كتابة مرجعها الأعلى ذات فاعلها التي تستبدل بالمشاركة الاتهام، وبالنقد الشطب والتبخيس، وبالحوار الإلغاء، الذي تجهل أنه، في المؤدى الأخير، إلغاء لها، من حيث هو إلغاء لآخرها المفترض، وتعطيل لحقّه في الفعل والاختيار، على أساس انفرادها بدعوى الحقيقة وحيازة اليقين.
وهي، فضلاً عن ذلك، كتابة لا تحترم مخاطبها، إذْ تتوجّه إليه بنبرة تعليمية وثوقية تدعوه إلى الامتثال، وتسيطر عليه، غريزياً، بفعل التهييج والإثارة الانفعالية، فتكفّه عن التفكير، وتبنيه على هيئة قوالبها، ليكون حضوراً مكروراً لها، لا يتعدى الصورة المضروبة على مقياسها الخاص. ومما يفوت أصحابَ هذا النهج أن نتاجهم سينسحبُ عليهم، بالطريقة التي تبني بها هذه الكتابة موقع مخاطبها، ذلك أن هذا الأخير سيكون له دوره القادم في ممارسة الإلغاء الذي سينال به آباءه الفاعلين له. وبهذا يكون النقض احتفاظاً بجوهر الممارسة في تعاقب الحركة التي تجري على أطرافها، ويكون من نصيب هذا المخاطب أن يزداد عماؤه، فيوقع السحر على الساحر حين يشاء بشروط الاستسهال نفسها، تلك التي تبيح له إمكانات التصرّف والقلب والتقديم والتأخير دون أية ضوابط، لأن التقليد، الذي يصدر عنه وينهج على صراطه، لا يعضُّ على المفهوم، بل يعتاض عنه بآلة الإنشاء المجازي التي يمكن لمؤشرها أن ينقلب في اتجاهه بين النقيضين، وفق الحاجة، التي تسوّغ لآلة المجاز الانحراف بطرائق عملها، لمضاعفة أثر التخييل الذي تنال به مخاطبها. ومن هنا كان مخاطب هذه الكتابة المفترض يتنزّل على صورة فاعلها في قوالب بلاغتها الذاتية، التي تؤمّن ـ بما سلفت الإشارة إليه من خصائص فعلها ـ ضرباً من السريان لكتابة هي ضدّ الكتابة.
السفير