في صدد تحركات بشرية مرافقة للصراع السوري/ ياسين الحاج صالح
أول شكل يتبيّنه الملاحظ للتحركات البشرية في سنوات الثورة هو بالطبع التهجير الداخلي والخارجي لما قد يزيد على 40 في المئة من السكان. يحتمل أن تسعة ملايين ونصف المليون هُجّروا من ديارهم بفعل الحرب، مليونان ونصف مليون منهم على الأقل خارج البلد. هذا غير مسبوق في تاريخ سورية، ونظائره نادرة في المنطقة وعالمياً. وهو، في ما وراء معالجات فورية واجبة تهتم بها جهات غوث سورية وإقليمية، وهيئات الأمم المتحدة، يثير أسئلة عن التفاعلات المحتملة بين اللاجئين وبين بلدان مستقبلة مثل لبنان وتركيا، والأردن وكردستان العراق، ومَهاجر أبعد.
كثير من اللاجئين يتصرفون كأنهم عائدون بعد وقت قصير، لكن غير قليل منهم يبدأون حياة جديدة في البلدان المستقبلة، ومن غير المحتمل أن يقطعوا روابطهم الناشئة والنامية بمجرد أن ترتفع الأسباب المباشرة للجوء. هذا مألوف في تاريخ ظواهر اللجوء، ويؤدي في حالات كثيرة إلى إقامة دائمة في البلد التي قدم إليها اللاجئون اضطراراً أو إلى ترجّح بين بلدين. الجيل الأصغر الذي يكتسب بسهولة لغة البلد المستقبل ويعتاد حيـاتـه قد يفضل البقاء فيه، خلافاً للجيل الأكبر الذي يعرض مرونة أقل في هذا الشأن. لا يزال الشتات السوري صغير العمر، لكن كلما طال به الأمد فـرض استمرار الحياة الجديدة أوضاعاً خاصة لا تنعكس بمجرد ارتفاع الظروف العامة التي تسببت باللجوء.
هذا الشكل الظاهر من التحركات البشرية التاريخية يخفي شكلاً آخر أضيق نطاقاً، لكنه قوي الأثر، واتجاهه من الخارج إلى الداخل عكس سابقه. أعني الشكل المرتبط بالحرب على البر السوري. هناك تحركات الجهاديين السنيين التي ألفنا أنها مرتبطة بالأوضاع الصعبة في بلدان تنهار فيها الدولة. ظاهرة المجاهد الجوال وليدة تلاقي ما يتسبب به فشل الدولة في بلدان الاستقبال (انهيار مادي وسياسي) والمصدر (فشل فكري وسياسي) من اقتلاع نفسي واجتماعي لأعداد كبيرة من سكانها من جهة، مع شبح الإسلام الامبراطوري الهائم في آفاقنا من جهة ثانية. العولمة ساعدت على اكتساب الشبح أجنحة إلكترونية في الوقت الذي فاقمت فيه ضعف الدولة المادي والفكري.
يقول إعلام النظام السوري إن «إرهابيين» من 83 بلداً منخرطون في «المؤامرة الكونية» على سورية. بصرف النظر عن تهويل دعائي أكيد في كل ما يقوله النظام، فإن هذا يعطي فكرة عن تحركات بشرية واسعة من الخارج إلى الداخل هذه المرة.
ومن المفهوم جداً أن يغفل هذا الإعلام مشاركة ألوف وربما عشرات الألوف من الشيعة اللبنانيين في حرب النظام السوري تحت راية مجاهدي «حالش» اللبنانيين، ونظراء عراقيين لهم في لواء أبو الفضل العباس وعصائب الحق وغيرهما، فضلاً عن الحرس الثوري الإيراني وآخرين من بلدان قريبة وبعيدة، يحتمل أن بينهم «مجاهدين» مسيحيين يحتضنون قضية النظام. وهؤلاء في أكثرهم، الإيرانيون واللبنانيون والعراقيون خاصة، لم يأتوا ليرجعوا بعد القيام بـ «واجبهم الجهادي». بطبيعته، هذا الواجب لا يتوقف أياً تكن محصلة الجولة الحالية. هناك الكثير من الجهاد ينبغي النهوض به في بلد له تركيب سورية السكاني الديني، وهناك كثيرون ممن ينبغي قتلهم أو هدايتهم أو القيام بالأمرين معاً. ومن يدين لهم النظام برقبته من غير المحتمل أن يكون هو صاحب القرار في شأن بقائهم أو ذهابهم.
أياً يكن، يحتمل أن نرى تغيرات ضخمة في الجيولوجيا الاجتماعية والدينية السورية، يصعب تقدير مداها.
هناك تحركات أضيق من خارج إلى داخل ليست جهادية، سوريون كانوا ملاحقين سياسيين من قبل النظام وعادوا إلى مناطق خرجت عن سلطته، لكن الظاهرة لم تأخذ مدى واسعاً بسبب السيطرة الجوية للنظام والسيطرة الأرضية لـ «داعش» وأشباهها في غير منطقة، فضلاً عن أن المعنيين مدوا جذوراً في بلدان الشتات بفعل طول المقام فيها.
هناك شكل ثالث أقل ظهوراً بعد من التحركات البشرية، ليس من الداخل إلى الخارج على غرار اللاجئين، ولا من الخارج إلى الداخل من صنف المجاهدين الجوالين، بل هو داخلي داخلي مبدئياً. يتعلق الأمر هنا بتحركات باكرة للسوريين نحو مواطنهم الأصلية، بعيداً من مراكز جذب مدينية اختاروا أو اضطروا إلى الإقامة فيها. الحركة هنا من العاصمة باتجاه مدن البلد الأخرى وأريافه، ومن المدن إلى الأرياف عامة. تحركات الجنود المنشقين كلها سارت على هذا النحو. وقبل أكثر من نصف عام وجدت نفسي مندرجاً في هذا الصنف من التحركات، وكانت مدينتي الرقة خياري الطبيعي. كان أكثر شركائي في الرحلة منشقين عن جيش النظام عائدين إلى بلداتهم وقراهم في الشمال والشمال الشرقي.
ومن هذا الصنف أيضاً الهجرة من مناطق خارجة عن سيطرة النظام إلى مناطق خاضعة له في دمشق والساحل من قبل منتفعين كبار كانوا أدوات للنظام في مناطقهم.
يبدو أن هذا الضرب الأعمق والأقدم من التحركات ينضبط بميل عام: يعود الناس إلى قواعدهم في أوقات المخاطر والتحولات الكبرى السريعة غير المسيطر عليها، بحثاً عن أمان أو عن أرض صلبة يعاودون الانطلاق منها. تعاكس هذا الميل العام، «الطبيعي»، قوى أخرى مرتبطة بما بقي من منطق الدولة الصنعي (الجيش، الجامعة، الوظيفة الحكومية…)، وبمنطق الدين الصنعي بدوره («الجهاد»)، وبمنطق النشاطية السياسية، الصنعي أيضاً. في غياب هذه الميول المعاكسة، تسير الأمور في اتجاه نابذ عن المركز/ المراكز، باتجاه الأطراف. وهذا ميل معاكس لسير الأمور طوال عقود منذ استقلال سورية، بل منذ تكوّن كيانها الحديث قبل أقل من قرن. وهو تحول تاريخي بهذا المعنى، وقد يكون باب تشكل ديموغرافي جديد.
الشكل الأخير من التحركات البشرية، الداخلي الداخلي، هو الأقدم والأوسع. الشكل الأول، اللجوء الداخلي والخارجي، على رغم هوله واتساع نطاقه مُركّب فوقه، وهو مؤشر على عنف محطم للبيئات المحلية، أو على اندلاق العنف وانتقاله من نطاق السلطة والسياسة والمركز إلى نطاق المجتمع والبيئات المحلية والأطراف. أما الشكل الثاني، الجهادي، فله حركية خاصة، لا تنضبط حصراً بعوامل سورية محلية. وبما أن اتجاهه من الخارج إلى الداخل، فلعلنا لا نخطئ بوصف هذه التحركات بأنها من طبيعة احتلالية. في سورية احتلالان أجنبيان اليوم، يرمز إليهما «حالش» و «داعش».
الحياة