صفحات الرأي

في صناعة الوعي الغبي/ رشيد بوطيب

 

 

نقف اليوم أمام تراجع كبير لشكل معين من الرأي العام السياسي في دول غرب أوروبا، وقد تفاقم ذلك أكثر بفعل الهجمات الإرهابية، مما حول الجامعات مثلاً، التي كانت إلى وقت قريب مركزاً للمعارضة النقدية، إلى مراكز أبحاث ملحقة بأجهزة الاستخبارات، في شكل مباشر أو غير مباشر. إذ يكفي أن نتتبع عدد الأدبيات الصادرة حول قضايا لها علاقة بالإرهاب وعدد المشاريع التي تمولها الدولة في هذا المجال، لمعرفة هذا التحول الدراماتيكي الذي يعصف بأسس الثقافة الغربية.

لا ريب في أن للأمر علاقة بالسيطرة النيوليبرالية التي امتدت إلى المجال الثقافي والإعلامي، ولم تكتف بالسيطرة على الاقتصاد والسياسة، كما أن لذلك علاقة بضعفٍ ألمّ بالفكر الغربي، أو تطور أكبر باتجاه «العلم» على حساب «المجتمع»، وهو ما سيفتح الباب على مصراعيه لمختلف أشكال الغوغائيات التي أضحت تحتل البرامج التلفزيونية، ولوائح الكتب الأكثر مبيعاً.

سيخبرني الكاتب والأنثروبولجي الألماني ميشائيل روس بأن الكتب الأدبية والفكرية التي تحتل قائمة المبيعات اليوم في ألمانيا، لم تكن لتنشر أصلاً قبل ثلاثين سنة من الآن، ولم يكن لينظر إليها كأدب أو كفكر. لكن يبدو أن السوق ابتلعت في طريقها كل شيء وليس الأدب وحده، وتهدد اليوم بابتلاع النظام الديموقراطي نفسه. لأن السوق لم تعد مرادفاً للحرية، بل عقبة حقيقية أمامها، فهي ما يقف اليوم أمام ما سمّاه كانط بالاستخدام العمومي للعقل، وبلغة أخرى أمام التنوير، ولا عجب أن ترتفع أصوات ألمانية تنادي بمنع المسلمين من التحول إلى قوة ثقافية في ألمانيا، بدل أن ترتفع للمطالبة بحماية التعددية التي ميزت دائماً الفضاء العام.

إن الرأي العام الذي تحدث عنه دي توكفيل وستيوارت ميل كقوة نقدية، سيتحول اليوم، وبفعل الدور المقيت لوسائل الإعلام، إلى محرض على الأقليات، ومن خلالها على المبادئ الديموقراطية، في زمن تحول فيه الفضاء العمومي نفسه إلى سلعة. لقد اختفى منذ زمن مثقفون مثل ثيودور أدورنو، ممن كان لمحاضراتهم في الخمسينات والستينات وحضورهم في الإعلام وتجاوبهم مع رسائل الناس من مختلف الأطياف الاجتماعية، أثر فاعل في بناء رأي عام نقدي وجيل متنور، ضد أنصار فكرة أخرى عن ألمانيا. إن الدور الذي لعبه مثل هذا الفيلسوف لا يمكن مقارنته البتة بالدور الشاحب والملتبس لفلاسفة اليوم، وقد نقول الأمر نفسه عن فيلسوف مثل سارتر.

إن مدرسة فرانكفورت التي عرفت أفكارها في زمن أدورنو طريقها إلى مختلف المؤسسات التربوية، والأطياف الاجتماعية، ستختار الابتعاد عن الرأي العام والانحصار في مجال أكاديمي ضيق، هذا إذا استثنينا بعض التدخلات النادرة ليورغن هابرماس. وقد نقول الأمر نفسه عن السياق الفرنسي، الذي أضحى من الصعب فيه التفريق بين الفيلسوف والصحافي. فهل نحن أمام صناعة للوعي الغبي؟

لكن ما الغباء؟ إحدى الإجابات التي أجدها أكثر من مقنعة، هي التي عبر عنها عالم السياسة الألماني هنفريد مونكلر في مقابلة معه، قائلاً: «هناك قطاعات واسعة من الشعب، لا تتوافر على معرفة حقيقية، ولا تبذل جهداً لتحقيق ذلك، ومع ذلك تعتقد بأنها تعرف بالضبط، ما الذي يحدث؟». وطبعاً هناك ثقافة مهيمنة اليوم، تشجع على تكاثر هذه القطاعات الواسعة، وهي تدغدغ المشاعر البدائية للناس، حتى أن بعض المراقبين مثل بريجيته فينتسر في ألمانيا تتحدث، في كتاب يحمل العنوان نفسه، عن «ديكتاتورية الأغبياء». ومن خصائص هذه الديكتاتورية، برأيها، اختفاء قوى الاحتجاج، واكتفاء الأذكياء بالنواح.

إننا أمام صناعة للوعي الغبي، تمضي اليوم في كل مكان على قدم وساق، والغباء لا ريب أقصر الطرق إلى الشعبوية والحقد، وهو أقصر الطرق إلى التطرف في العالم العربي. فالمتطرف الديني، يعتقد أنه يمسك بحقيقة الدين، في حين أنه لا يعرفه، ولربما لا يملك حتى القدرة الفكرية اللازمة لدراسته ومعرفته وفهمه، ويبلغ هذا الغباء مستويات مرعبة في ظل أنظمة سياسية تؤسس للغباء في دساتيرها ومؤسساتها التربوية والدينية والحزبية.

* كاتب مغربي

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى