صفحات العالم

في ظل المعركة الكبرى.. المعارك الهامشية اطالة لعمر النظام السوري


باسل أبو حمدة

في صراعها الدموي ضد شعوبها، لا تعول أنظمة الاستبداد على شيء بقدر ما تعول على إدامة بقائها في سدة الحكم أطول فترة ممكنة وبأي ثمن، ليس لأنها مخبولة أو معتوهة أو أنها تؤمن بقدرتها على البقاء من خلال استخدام قوتها الخشنة، ولكن لأنها تدرك أنه كلما عمرت صراعاتها الدموية أكثر، تبدت، في المقابل، ملامح الفرقة والتشرذم والانقسام في صفوف معسكر الخصم بما فيه من قوى سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، بينما تبقى التيارات والشخصيات الثقافية، حتى لو كان بعضها مجرد تيارات وشخصيات مدعية، الأخطر من بينها جميعا، لأنها تمتلك قدرات تقنية خاصة ووسائل تعبير كفيلة بترجيح كفة الميزان لهذا الطرف أو ذاك من خلال استعدادها لحرف دفة الصراع باتجاه معاركها الجانبية البينية الداخلية عمدا أو سهوا، لا فرق كبير.

في الحالة السورية وفي ذروة الصراع السياسي الدائر هناك بين ثورة شعبية متنامية من جهة وبين طغمة تحكم بالحديد والنار من الجهة المقابلة، يبدو المشهد تراجيديا أكثر مما عداه من حالات التمرد على الاستبداد وتجارب تغيير الأنظمة السياسية المهترئة، فالتجارب الأخرى غالبا ما تشي بتفاقم الخلافات أولا بين القوى السياسية الراغبة في التغير السياسي نفسها، لا بين التيارات والشخصيات المثقفة، التي وجدت نفسها في هذه الحالة أمام حائط مسدود لا يسمح لها بالوقوف خلف حركة التاريخ التقدمية بطبيعتها، ولا يعطيها، في الوقت نفسه، فرصة لتغيير الذات المثقفة أو شبه المثقفة أو مدعية الثقافة والتخلي عن ما يشوبها من أمراض ظلت لصيقة بهذه الفئة عبر التاريخ مثل النرجسية والأنانية وحب الظهور وغواية ركوب أمواج قوة التغيير.

في الحالة السورية نفسها، وبينما تسعى القوى السياسية المشكلة للثورة توحيد صفوفها ورصها بغية تقصير عمر النظام الدموي في بلادها والتقليل من آلام الناس ومعاناتهم، لا يزال بعض المثقفين غير مدركين لحجم المأساة التي يتعرض لها شعبهم أو مترفعين عنها، معتقدين واهمين أنهم يملكون ترف مواصلة نقاشاتهم السفسطائية بعيدا عن الانخراط الفعلي في عجلة التغيير، طبعا ليس المطلوب منهم حمل السلاح أو الانخراط في صفوف هذا الفصيل السياسي أو ذاك، ولو أنه لا ضير في ذلك ، ولكن يتعين عليهم، وهذا أضعف الايمان، ألا يضعوا العصي في دواليب هذا التغيير المنشود عبر السماح لأصوات أعيرتهم الثقافية الخلبية بأن تعلو على أصوات أنات ضحايا آلة القمع والقتل المتزايدة ضحياها مع مرور كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم.

أحلى ما يحلو لهذه الفئة من المثقفين الوقوف على أطلال حركة التاريخ وانتقاء أهداف بعينها وتسديد أقلامهم عليها وقصفها من بعيد للايحاء بوجودهم في قلبها، متذرعين بأخطاء تشوبها أو اختلافات حولها أو حتى لوجود أشخاص لا يروقون لهم فيها، ليشهروا بعد كل هذا القصف التمهيدي مرادهم ويطالبوا بهدم هذه الكيانات والمساعي واستبدالها بأخرى قد تفتح لهم نافذة لممارستهم نرجسياتهم المقيتة، فقد باتت مشهورة قصة أحد الصحفيين السوريين، الذي نأى بنفسه عن الانخراط في رابطة الصحفيين السوريين الأحرار لا لشيء إلا لأن نرجسيته تلك لا تسمح بوجود المدونين الشباب في صفوف الرابطة العتيدة، متناسيا أن هذا التشكيل النقابي له بالضرورة بعد أخلاقي وانساني وحتى سياسي خاصة في لحظة حرجة يمر بها شعبه تسمح بعدم التقيد الحرفي بلوائح مثل هذه التشكيلات النقابية في ظروف استثنائية وعندما تدعو الحاجة إلى ذلك.

ثم أليس حريا بهذا الصحفي الجليل أو الكاتب الوقور أن يبقي أطروحاته وأفكاره مهما كانت طبيعتها وبغض النظر عن صحتها من خطئها في كنف الكيان الذي يفترض أنه يمثله ويلتزم بآليات العمل الداخلي فيه ويعمل على تغيير ما لا يعجبه انطلاقا من هذا الموقع ولو لحين؟ أخذا في الاعتبار سلم الأولويات المفروض عليه وعلى غيره من زملائه وأبناء جلدته في الوطن الكبير.

وليس مراعاة لمنظومة عمل سري مرفوضة جملة وتفصيلا في الظروف الطبيعية أصلا. أليس حريا به أن يحاول الاجابة على سؤال من هو المستفيد من بعثرة الجهود وتشتيت الأنظار وحرف المسار؟ لا ضير في هذه العجالة من التذكير بتلك المقولة الشهيرة التي تدعو إلى توجيه كل البنادق إلى صدر العدو، فما بالك بالأقلام، أليس حريا بأصحابها أن يوجهوا رصاص فكرهم إلى من يستحق، فعلا، أن توجه إليهم، عوضا عن الدخول في متاهات ومعارك وهمية المستفيد الأوحد منها هو الخصم دون غيره؟.

لا تستقيم تجربة سياسية أو نقابية في الدنيا بضربة واحدة أو من المحاولة الأولى ولا تتوقف على حال، دائما ثمة ما يستحق المعالجة ويحتاج إلى التصويب والتقويم، ودائما ثمة وقت للمراجعة وممارسة النقد، لكن الأهم من كل ذلك هو معرفة طبيعة الأرض التي يقف عليها المرء وتحديد موقعه في الخارطة المحيطة به وأن يتمتع بما يكفي من الجرأة ليقول ما يريد لا أن يتوارى خلف ما لا يريده كي يصل إلى ما يريد، ففي الساحة متسع للجميع، كما يقال، هذا بعد الاطمئنان إلى سلامة الإيمان وقوته في قضية التغيير ورفع الظلم واستعادة الحرية والكرامة التي تجمعه بغيره من الناس طبعا.

لكن أن يتم اللجوء إلى سياسة كرة الثلج ومحاولة دحرجتها على وقع معارك جانبية لا طائل منها إلا تضخيم ملفات شخصية وعمل هالة من حول الذات للعبور بها، في نهاية المطاف، إلى شواطئ غريبة عن مرامي حركة التغيير العامة، فذلك يخرج القضية برمتها عن سياقاتها العامة ويدخلها في أتون الشخصي، الذي لا يمكن الوقوف في وجهه أو الاعتراض عليه إلا عندما يشكل خطرا على الشأن العام، معطيا فرصة جديدة لنظام الاستبداد أن ينقض من جديد على محاولات تشكيل بدائله في وطن طفح بأبنائه الكيل ويتوقون إلى بلوغ لحظة الحسم بأسرع وقت ممكن وبأقل الخسائر الممكنة.

الخشية الحقيقية والأكبر تكمن في أن ميل بعض المثقفين السوريين إلى خوض معارك جانبية، أقل ما يقال فيهما أنها تأتي في غير أوانها، ربما يتماهى مع موقف شريحة أوسع منهم تتدعي أنها تقف ضد النظام وقوى المعارضة في آن، تلك الشريحة، التي أطلق عليها البعض اسم’ اللاكنيون’، الذين صبت اساليبهم ومفاهيمهم المعوجة ولا تزال في مصلحة النظام مباشرة، وإذا كان الأمر على هذا النحو فعلا، فمن المؤكد أن نظام الاستبداد سينعم بمزيد من الوقت في موقعه وسيمعن أكثر في غرس سكينه الدامية في قلوب مزيد من ضحاياه الأبرياء.

‘ كاتب فلسطيني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى