في عصر ‘المكارثية الجديدة’ وتنصت وكالة الأمن القومي: أيها الكتاب قاوموا قاوموا قاوموا!/ إبراهيم درويش
كتب الروائي والناشر الأمريكي ديف إيغرز في ملحق صحيفة ‘الغارديان’ ليوم السبت (12/12/2013) مقالا علق فيه على موقف الكتاب الأمريكيين من عمليات التجسس التي تقوم بها وكالة الأمن القومي الأمريكية على الدول والمسؤولين والمنظمات الطوعية. كما كشف الصحافة الأمريكية يوم الجمعة.
وعلق على دراسة مسحية قامت بها منظمة ‘القلم’ (بن) الأمريكية لأعضائها حول أثر هذه العمليات على حرية التعبير ومشاعرهم حول اليد الطويلة لوكالة الأمن القومي التي تقوم بالتجسس، وجاءت النتائج مثيرة للرعب، حيث أصدرت الجمعية تقريرا تحت عنوان آثار مثيرة للرعشة: عمليات الرقابة التي تقوم بها وكالة الأمن القومي تدفع الكتاب الأمريكيين للرقابة الذاتية. وأظهرت الدراسة أن 88 ‘ من الكتاب الذين شاركوا في الدراسة ينتابهم القلق من عملية التجسس وجمع المعلومات، فيما قالت نسبة 24 ‘ إنها تجنبت الحديث عن موضوعات معينة في رسائلها الألكترونية وأحاديثها على الهاتف، فيما قالت نسبة 16 إنها تجنبت مشاريع نظرا لحساسيتها. وتأتي دراسة منظمة ‘بن’ في وقت أظهر استطلاع نشرت نتائجه مع تسريبات إداورد سنودين، وأظهر التقرير إن نسبة 50 بالمئة من السكان الأمريكيين بمن فيهم نسبة عالية من الديمقراطيين ترى في التجسس أمرا مقبولا بشكل أقل أو اكثر (50 بالمئة من المستطلعين). ويرى إيغرز أن هذا المستوى من التجسس يثير الرعب وغير دستوري، ولن يقوم الرئيس باراك أوباما بالموافقة على هذه العملية من التجسس إلا إذا كانت دستورية، إن أخذنا بعين الاعتبار أن الرئيس نفسه متخصص بالقانون الدستوري. ولم تمنع مواقف الديمقراطيين أو بعضهم وهم يحاولون العثور على مبررات من سلسلة من القضايا التي تقدمت بها مؤسسات من مثل ‘ الاتحاد الأمريكي للحقوق المدنية’، و ‘مؤسسة الجبهة الإلكترونية’، وحزب الشاي. وفي تحرك مهم قام القاضي في المحكمة الفدرالية ريتشارد جي ليون والذي عينه جورج بوش الإبن بإصدار حكم من 68 صفحة شجب فيه عمليات التجسسس بأنها تذكر بالعالم الإوريلي’ (نسبة لأوريل الكاتب البريطاني)، وقال القاضي ‘ لا أستطيع تخيل اختراق للخصوصية بهذه الطريقة التي لا تميز والغزو العشوائي وهذه العملية المنظمة ذات التكنولوجيا العالية التي تقوم بجمع والإحتفاظ بالمعلومات الشخصية عن كل مواطن تقريبا لأغراض تصنيفها وتحليلها بدون إجراءات قضائية صحيحة’. وأكد القاضي أن هذا البرنامج ‘ينتهك ذلك المستوى من الخصوصية التي ضمنها الآباء المؤسسون في المادة الرابعة’. ويتساءل إيغرز إن كان قرار القاضي ليون سيغير الرأي العام، مجيبا، لا تأمل كثيرا لأن قرارات القاضي هذا غير ملزمة أولا ولا يستبعد قيام الحكومة بالاستئناف عليه.
دعوة للخنوع
وما يهم الكاتب هنا ويهمنا في هذا السياق هي دراسة منظمة ‘بن’ الأمريكية لأنا مثيرة للقلق من عدة جوانب، فمن المفزع قيام كتاب بالتخلي عن مواقفهم وأفكارهم بطريقة سهلة، أي استسلامه بدون أية مقاومة، ففي النهاية لم تؤد عمليات التنصت التي تقوم بها وكالة الأمن القومي إلى رمي أي من الكتاب في السجن أو التحقيق معه لانه قال في هذه المكالمة الهاتفية ما لم يجب أن يقوله، أو لأنه بحث على محرك ‘غوغل’ عن مواد قد تمس الأمن القومي، وفي الإطار نفسه لم يكشف عن قيام وكالة الأمن القومي بإعداد قائمة لمراقبة الكتاب. ويعلق إيغرز أن فكرة العيش في ظل الشك حيث يتساءل الكاتب ‘إذا’ قلت هذا أم لم أقل هذا فماذا سيحدث لي، ومتى ستقوم الوكالة باستخدام المادة التي جمعتها ضدي هي في حد ذاتها حالة من الإذعان. فمجرد التفكير في هذه الأسئلة يتناقض مع جوهر حرية التعبير في ديمقراطية صحية. وكانت العريضة التي وقع عليها أكثر من 500 كاتب من حول العالم قبل إسبوع وشاركت فيها أسماء مهمة وفيها شجب واحتجاج على المراقبة العامة تطورا دوليا مهما ويرى فيها أيغرز خطوة دولية مهمة نحو قانون دولي يضمن الحقوق على الوسائط الرقمية والإجتماعية. ووقع على العريضة كتاب من 81 دولة منهم مارغريت أتوود (كندا)، دون داليلو (أمريكا)، مريد البرغوثي ورجا شحادة وسعاد العامري من فلسطين، وعلاء الأسواني من مصر، وأرنداتي روي من الهند وأورهان باموك من تركيا وغونتر غراس من ألمانيا وجي ام كويتزي من جنوب إفريقيا وغيرهم. وإيغرز نفسه وطالبوا الرئيس أوباما باحترام حقوق الإنسان والحرية الشخصية وتشريعات تحمي مستخدمي العالم الإفتراضي.
منذ 12 عاما نحن مراقبون
وحتى يتم تحقق هذا يقول إيغرز سيظل الاف الملايين من الكتاب حول العالم يعيشون في ظل خوف من أن كل شيء يفعلونه، مكالمة، بحث أو تساؤل سيستخدم ضدهم. ويشير الكاتب إلى وجهت علي، وهو كاتب أمريكي من أصل باكستاني، كاتب مقالات ومسرحيات يتطرق فيها بشكل خاص لأوضاع المسلمين الأمريكيين، وعلق قراءته على تقرير أٌثار الرقابة لمنظمة ‘بن’ قائلا ‘عندما قرأته’ كان ‘رد فعلي هو أهلا بكم للعالم الحقيقي، فالمسلمون الأمريكيون يعيشون في ظل شبه علاقتهم بالإرهاب وأنهم مجرمون محتملون ومنذ 12 عاما، وكان علينا التصرف- الإفتراض أن كل مكالماتنا الهاتفية، رسائلنا الألكترونية والهاتفية مراقبة بطريقة أو بأخرى’. ويقول وجهت علي انه لا يمارس رقابة ذاتية على نفسه ولكنه واع لهذا الوضع ويفترض أن كل مكالمة أو رسالة يكتبها قد تتعرض للتدقيق. ويقول إيغرز ‘ماذا لو لم ترض الحكومة عن رسالة من الرسائل وتقوم بعملية بحث في المعلومات المتوفرة لديها، لتجد أنه تبرع يوما ما لجمعية إغاثة إسلامية تعتبر محل مراقبة أو غير مرغوب فيها؟ وسيكون لديهم ‘ ما يكفي من المعلومات كي يحولوا حياته جحيما’. ومن هنا كان على وجهت علي وغيره من الكتاب المسلمين الأمريكيين تبني موقف كوميدي عن وضعهم والحديث بسخرية سوداء، ويكتب علي أحيانا ساخرا ‘هالو ان أس إي’(وكالة الأمن القومي)، ومع ذلك ‘فلا يمكنني بناء حياتي على الخوف’ ولأنه لا يريد الخنوع قبل وظيفة في قناة ‘الجزيرة ـ أمريكا’.
البحث عن مشاكل
ويشير إيغرز إلى أن مهمة الكاتب ليست الإذعان او الخنوع أمام ما يراه غير صحيح، فـ ‘وظيفة الكاتب هي البحث عن المشاكل’ كما قال أحد
فيلم ‘الواجهة’ (ذا فرنت) (1976) والذي يتحدث عن الحقبة السوداء في تاريخ حرية التعبير في الولايات المتحدة، أي الحقبة المكارثية والقوائم السوداء للفنانين والكتاب والنقاد. ففي هذا الفيلم يلعب وودي آلن دور هاوارد برينس، وهو مقامر صغير، طلب منه صديق كاتب ومسرحي، كان اسمه على القائمة السوداء ان يكون واجهة حيث يوقع اسمه على النصوص التي يكتبها هو وكتاب يتهمون بالتعاطف مع الشيوعية، واوافق برينس على المهمة ولكن نشاطاته الكتابية المفترضة جذبت انتباه لجنة الكونغرس حول النشاطات اللا أمريكية. ويقول إيغرز إن مشاهدة الفيلم اليوم تتيح لنا اكتشاف نوع من الموازاة بين تلك الفترة والفترة التي نعيش فيها، من ناحية جو الشك العام، والشعور الشرير بكون الفرد أو الواحد منا مراقبا بدون أن يعرف متى سيوضع على قائمة المراقبين. فقد كان كاتب نص الفيلم وولتر بيرنستاين نفسه على قائمة المراقبين وحرم من العمل، وكان هاتفه مراقبا ويتبع حركاته عملاء مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي أي)، وتم التحرش بأصدقائه وحرم من الحصول على جواز السفر.
الوضع اليوم أسوأ
ويقول إيغرز إنه تحادث مع بيرنستاين (94 عاما) بالهاتف حيث يعيش اليوم في نيويورك وبعد الكشف الذي قدمه إدوارد سنودين عن تنصت وكالة الأمن القومي، وهو وإن لم يعبر عن دهشته بوجود رقابة من نوع ما ولكن دهشته تركزت على المدى الذي ذهب فيه العاملون في وكالة الأمن القومي ‘ مرة أخرى’ يقول ‘ لو كانت لديهم فرصة عمل كهذا لفعلوه’. وعندما سأله إن كان وضع المراقبة المحلية خطيرا مثل خطورة الزمن الذي عاشه أيام المكارثية أجاب ‘بطريقة ما فالوضع أسوأ اليوم، لان ‘ المراقبة تشمل كل واحد وستصبح أكثر سوءا، فالجرائم التي ارتكبت باسم الأمن القومي كبيرة ولا إجابة عليها’. ولكن برينستاين حصل على الجواب في نهاية فيلمه ‘الواجهة’ عندما قرر هوارد برينس عدم التعاون مع أتباع مكارثي الخلص. ففي لقاء خاص تم ترتيبه من أجل توقيع برينس على قسم الولاء للدولة وتقديم أسماء للمتعاطفين مع الشيوعية، يلتفت برينس والذي كان حتى هذه اللحظة غير مسيس ويصرخ بصوت هادر ‘ لا أعترف بحق اللجنة لتوجيه أسئلة لي ولو تماديت أكثر في الأسئلة فما عليك إلا أن تذهب.. للجحيم’، ويفضل الذهاب للسجن.
كنا نعرف وجوه من يلاحقوننا
ويلاحظ برينستاين أن الحقبة المكارثية كان فيها على الأقل وجوه لمن يتهمك، كان هناك مكارثي نفسه،عملاء الـ أف بي أي، النواب في مجلس الشيوخ، والمحاكم والمنافحون عن الدولة، واليوم من يراقبك هي وكالة ظل لا تخضع لمساءلة أحد. وليس بعيدا، يقول إيغرز قام الروائي ويليام تي فولمان باستخدام ‘قانون حرية المعلومات’ كي يكتشف ان أف بي أي لديه ملفا عنه وعن نشاطاته، ففي التسعينات من القرن الماضي اشتبه العملاء به بأنه ‘يونابومبر’ السفاح الأمريكي والذي قام بسلسلة تفجيرات في الفترة ما بين 1978 -1995 وعرف بأفكاره المعارضة للتصنيع واليسار. وكان فولمان محظوظا لأنه عرف ما كتب عنه مكتب التحقيقات الفدرالي ، أما الآن فأي شخص يريد معرفة ما جمعت عنه وكالة الأمن القومي فلن يحالفه الحظ.
مستحيل
وتقول راشيل ليفنسون وولدمان، الباحثة في دائرة القانون بجامعة نيويورك ‘ استطيع القول أن لا مجال أمامك’ لمعرفة ما جمع عنك. وكتبت وولدمان دراسة واسعة عن التنصت الذي قامت به وكالة الأمن القومي حيث أشارت إلى دراسة ‘بن’ المسحية وأثر التنصت على الكتاب قائلة إذا افترض الكتاب أنهم مراقبون فهذا سيجعلهم يتجنبون الكثير من الأمور، لأن الكاتب سيقول لنفسه ‘ليس جيدا أن يثير اسمي انتباه السلطات ولن يقوم بالتصدي للموضوعات الحساسة إلا الأشخاص الذي يعتقدون في أنفسهم الجرأة على تناولها وأنهم محصنون عن الرقابة’.
ويقول إيغرز ‘فكر في كل الرسائل التي أرسلتها والمكالمات التي عملتها وعمليات البحث التي عملتها على محرك غوغل وتساءل هل يمكن لواحد منها أن يساء تفسيره؟ وهل يمكن لأي منها استخدامه لتدميرك من مكارثي جديد، نيكسون جديد، أشكروفت (وزير العدل السابق) جديد، فهذا ملمح خبيث ومهلك للنفس للحالة التي وصلنا إليها’، فلا أحد يعرف طبيعة المعلومات التي جمعت، سجلت وخزنت وتم تحليل بعضها وهل ستستخدم في المستقبل.
سورية أيضا تستطيع
ويشير إيغرز لدراسة كتبها قبل مدة جون فيلاسينور من معهد ‘بروكينغز′، وهي دراسة مخيفة تحت عنوان ‘ تسجيل كل شيء: التخزين الرقمي كمساعد للحكومات الديكتاتورية’. وأظهرت الدراسة السهولة التي تقوم فيها الحكومة أي حكومة في العصر الرقمي بتسجيل كل المكالمات التي تدور في البلد. فالتكنولوجيا متوفرة ورخيصة الثمن بحيث يمكن لبلد مثل سورية أن تسجل الحكومة فيه المكالمات الهاتفية التي تعمل داخل البلد بكلفة لا تتجاوز مليون دولار أمريكي أو تسع سنتات للمواطن الواحد. ويرى الكاتب أن قيام الحكومة بجمع كل المكالمات الهاتفية أو ما يتم تناوله على الإنترنت ليس قفزة للأمام بقدر ما هو مثير للقلق، فلا معنى لما تقوله اليوم أو ما ستقوله وكالة الأمن القومي غدا من أنها لم تفعل أمرا خطيرا ولم يحدث ضرر لان أجهزة الكمبيوتر تقوم بعمل آلي وتسجل كل شيء، وستقول إن الغالبية العظمى منا (الأمريكيون) في هذه الحالة ممن لا يرتكبون فعلا خطيرا فلا داعي لخوفهم. ومن هنا لا بد من الكفاح كما يقول إيغرز ‘المقاومة المقاومة والمقاومة’ فدراسة ‘بن’ الأمريكية ليست أهم باروميتر لما يفكر فيه المواطنون ولكن إن كان الكتاب يغيرون تصرفاتهم كي تتواءم مع فكرة التنصت فمعنى هذا قيام ملايين المواطنين بعمل نفس الأمر. وتقول وولدمان في هذا السياق ‘أبناء أي ديمقراطية يحتاجون لمحور يحفظ خصوصيتهم والسيطرة عليه’، وبدون هذا فمن الصعب المشاركة بشكل قوي في فعل معارضة أو نقاشات نقدية والتي تعتبر ضرورة للمجتمع. ويقول إيغرز إن أثر امتناع مواطنين بل أمة بكاملها عن كتابة رسالة إلكترونية، مكالمة هاتفية لخشيته او خشيتها من المراقبة وإمكانية استخدامها ضدهم في المستقبل تثير الرعشة في جسد الواحد منا بل وتضعنا في حالة من التجمد الثقافي’. ويختم بالقول إن برينستاين الذي نجا من مرحلة مكارثي التي كان أصدقاؤه يقطعون الشارع ويتجنبون الحديث معه خشية الإتهام، يشعر اليوم بالخوف أكثر من أي وقت مضى ينصح الكتاب قائلا ‘قاوموا قاوموا قاوموا قاوموا’.
من هو ديف أيغرز؟ كاتب وصحافي أمريكي معروف ولد عام 1972 في مدينة بوسطن ماساشوسيتس. وهو ناشر ومحرر صحافي وكاتب مذكرات ومعروف بكتابه الذي فاز بجائزة بوليتزر عام 2000 وأصبح كتابه ‘مذكرات تكسر القلب عن عبقري مذهل’ من أكثر الكتب مبيعا في قوائم الصحف الكبرى، وهو الكتاب الذي كتبه عن تجربته وهو يواجه المسؤولية عندما توفي والداه الواحد بعد الآخر بعد إصابتهما بمرض السرطان، الأب الرئة والأم سرطان المعدة، ولم يكن قد تجاوز الحادية والعشرين حيث ترك دراسته الجامعية وذهب مع شقيقه الصغير ‘تروف’. واثناء رعايته لشقيقه بدأ الكتابة في صحيفة محلية ‘مايت’وظهرت كتاباته فيما بعد في نيويوركر، وصالون. كوم، وسان فرانسيسكو ويكلي وغيرها من مواقع الإنترنت ويعيش في سان فرانسيسكو. في عام 2002 أصدر أولى رواياته ‘عليك أن تعرف سرعتنا’، واصدر مجموعة من القصص القصيرة ‘كيف نحن جوعى’ وغيرها.
القدس العربي