في غمار الحرب الإعلامية/ فرات الشامي
لا يمكن إدارة الصراعات في العالم من دونه في العصر الحديث، حيث يعتبر الموجه لرأي الناس واللاعب الأساسي في ذلك، مع أهمية دوره في الحرب النفسية. المقصود بالإعلام، هنا، وسائل الميديا المعروفة من مقروءة ومسموعة ومرئية، حكومية، وشبه حكومية، ومستقلة، ورقية، وإلكترونية، فضلاً عن مواقع التواصل الاجتماعي التي استُخدمت تقنياتها، وخصوصاً (يوتيوب) في دعم الحجج، وتوثيق (أرقام الحشود) زيادة ونقصاناً.
ومع انطلاق ثورات الربيع العربي، تبيّن وجود أزمة في الإعلام العربي، كشفت عن شرخ عميق في بنيته، وشككت الناس بنزاهته، بعدما فشل في امتحان الصدقية، وأعلن براءته من القيم المهنية والأخلاقية. الغريب أن الإعلام العربي، في غالبيته، وقع في فخ احتقار العقل، والهزء بذائقة الناس، وعدم التحلي بالحدود الدنيا من المعايير المهنية التي يتعين أن تحكم حركية الإعلام وتضبطها. ومن المفارقات أن القاعدة الذهبية، وسط هذه المعمعة، هي أن من يملك أكبر قدرة على تشويه الحقيقة لخدمة أغراضه ومآربه السياسية، هو المسيطر، وربما المنتصر، لكنه انتصار مشبع بروائح الهزيمة!
فتحوّل الصراع إلى صراع إعلامي إعلامي، اشتبكت فيه وتورطت وسائل إعلامية عريقة، ودخلت مربع الانحياز السياسي، وركنت الموضوعية جانباً. وارتفعت وتيرة الاشتباك مع تحولات المشهد المصري، وتحولات الثورة السورية والعراقية وظهور تنظيم داعش، إلا أنها وصلت إلى ذروتها غير المسبوقة في لحظة الانقلاب على الشرعية في مصر.
المشاهد العربي في خضم هذا الصراع الإعلامي، والذي أساسه صراع سياسي إقليمي وهمي مفتعل، لم يعد يحوز يقيناً صافياً يستطيع الركون إليه، وبالتالي، تشكيل رأي باتّ وقاطع في ما يجري، إن أراد أن يتحلى بقدر من الموضوعية والنزاهة.
خلط الأوراق هذا نحّى جانباً المعايير والضوابط المهنية والاعتبارات الأخلاقية التي باتت أشبه بالترف الفكري، وتفاقمت الحالة حتى “اتسع الفتق على الراتق”.
وإذا كان ثمة أصابع سياسية تحيط بالإعلام وتخضع صدقيته لضوابطه، فالخاسر الأكبر في لعبة الاستقطاب الفظيعة هذه كانت الحقيقة التي تمت التضحية بها، لمصلحة اصطفافات سياسية كان الإعلام مجالها الحيوي ومسرحها.
الإعلام العربي بحاجة، هو الآخر، لربيع إعلامي يعيد إلى الحقيقة شرفها المهدور، في غمرة التخبط العام، ويؤسس قيماً وضوابط لدوره الجديد باعتباره أداة أساسية من أدوات الإصلاح والتغيير، ومعبراً عن تطلعات الشعوب.
لا أعتقد إمكانية ذلك في ظل سيطرة عقلية الوصاية والهيمنة والإيعاز، التي تحرم الإعلام استقلاليته، وبالتالي، شلل قدرته على النقد والمراقبة والمحاسبة، وحماية المجتمع من الاستبداد، وتغوّل بعض الأطراف، أو تعمل لحسابٍ وأغراضٍ خاصة تسيء، في النهاية، إلى قضايا الأمة.
هذه الأزمة لا يمكن مقاومتها إلّا ببناء ثقافة ديمقراطية، تتولاها قوى مدنية حقيقية، تؤمن بالاختلاف والتعددية والشراكة الاجتماعية في صناعة القرار.
إذا ابتعدنا عن النزاع السياسي المحرك للإعلام، نجد انهياراً أعمق ينم عن معضلة ثقافية مركّبة، تحتاج إلى مزيد من الوعي والمعرفة، للسيطرة عليها. الظروف المتغيرة في العالم العربي عجلة سريعة، وحتى لا نقع في الفخ ثانية، نحتاج لإعلامٍ مستقل يوضح ويحلل بموضوعية، ويلقي الضوء على الأحداث بأمانة أخلاقية حقيقية، وبرؤية واضحة لا تجرّ المجتمع إلى التحزّبات الضيقة التي تبدّد الجهود، وتشيع أجواء الكراهية، وقد تفضي إلى الحروب.
العربي الجديد