مراجعات كتب

في فساد الأنظمة ومسؤولية المثقف/ كرم الحلو

 

 

منطقة الشرق الاوسط مع بداية الالفية الثانية لم تكن تتسم بالفقر والتخلف الاقتصادي والقصور التجاري، ولم تكن متخلفة تنظيمياً عن مثيلاتها من الامم التجارية، غربها وشمالها (اوروبا) او شرقها (الصين). اما مع بداية الالفية الثالثة، فقد اصبحت متخلفة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.

على هذه الخلفية، حاولت دراسات عدة استقصاء اسباب الفجوة المتسعة بين الغرب المتقدم والشرق الاوسط المتخلف. فهل يعزى هذا التخلف الى عدم تمكن المشرق من تطوير نظمه وتشريعاته وقوانينه، والى غياب العدالة والديموقراطية في الممارسة السياسية في ظل السلطنة العثمانية الممانعة للتطور؟ هل يرجع الى فشل المجتمعات العربية في بناء الدولة الحديثة، ما سهّل تمزيق الوحدة الاجتماعية وأبقى المجتمع على انتماءاته القبلية والطائفية والمذهبية؟ هل تقع مسؤولية التخلف على عاتق النخب المثقفة التي لم تتمكن من إرساء معالم التطور والتغيير في مجتمعاتنا؟ هل مرده الى إخفاق الإعلام العربي في ترسيخ الممارسة الديموقراطية في الحكم وتعزيزها؟

تصدى لهذه الأسئلة الإشكالية مجموعة باحثين في ندوة نظمتها «المنظمة العربية لمكافحة الفساد» العام 2014، وصدرت أبحاثها في «الفساد وإعاقة التغيير والتطور في العالم العربي» المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2015، حيث ركز الباحثون على الدور الذي يمارسه الفساد في الركود الاقتصادي والتخلف العلمي والسياسي وافتقار الرؤية المستقبلية للتنمية، فضلاً عن تهميش قيم الإنجاز والعمل.

الفساد كما حدده داود خير الله استناداً الى الاصل اللاتيني والى القواميس العربية، هو الانحلال والانحراف والتدهور او الشر ومخالفة الناموس الادبي، بل هو كل ما يمكن اعتباره ضد الصلاح وفق بطرس البستاني في «محيط المحيط». في هذا السياق، رأى خير الله ان الفساد داء ينهش النسيج الاجتماعي من جوانبه الثقافية والسياسية والاقتصادية، وتعده منظمة الشفافية العالمية من اكبر التحديات التي تواجه عالمنا الحديث، فهو يقوّض الحكم الصالح ويشوه السياسة العامة ويضر بالقطاع الخاص ويلحق الضرر بالفقراء.

اما شربل نحاس، فرأى ان الفساد إما هو سلوك فردي طارئ يشذ عن قواعد الانتظام العام او هو نتاج منظومة اجتماعية وسياسية واقتصادية مستقرة ومعترف بها. وفي كل الحالات، إنه شر يجب اجتثاثه بالإصرار على تثبيت قواعد الانتظام العام من خلال توعية الناس والضغط على القضاء للقيام بواجبه، واضطلاع المثقف بحشر مؤسسات النظام امام الرأي العام.

وجد الباحثون ان للفساد اثراً بليغاً في تزايد العنف، حيث اكدت استطلاعات الرأي ان الفساد يتصدر شكاوى المواطنين في الدول التي تعرضت لنزاعات مسلحة. ووفق «منظمة الشفافية العالمية» ومؤشراتها، ان احدى عشرة دولة من اصل العشرين الاكثر معاناة من الفساد، عانت من نزاعات مسلحة، وأن خمساً من هذه الدول اعضاء في جامعة الدول العربية. ولوحظ من خلال تطور مؤشرات الفساد في الدول العربية بين عامي 2008 و2013 ان الدول التي عرفت ما سمي «الربيع العربي» ـ اليمن ومصر وتونس وليبيا والمغرب ـ شهدت ارتفاعاً في مؤشرات الفساد.

مع ذلك، لا يوجد ما يدل إطلاقاً على ان هناك إدراكاً لدى المسؤولين او النخب المثقفة للمخاطر والاضرار التي يلحقها الفساد بالمجتمع، وما يشكله من إعاقة في سبل نموه وتطوره. في هذا الاطار، رسم الفضل شلق صورة قاتمة للامة العربية: «امة ارادت الانخراط في العالم في القرن التاسع عشر، فكان سايكس ـ بيكو لتقسيمها، ووعد بلفور لهزيمتها. امة ينتابها الشعور بالعار في حياتها اليومية والخجل في علاقتها بالخالق. خذلتها اصولية «الاخوان المسلمين» وقومية «البعث» وعقلانية مفترضة عند الليبرالية والشيوعية. امة قوض الاستبداد اركانها، ما عادت تؤمن بنفسها، وهذا هو الاساس في جعلها فاقدة الامن». ازاء هذه الصورة القاتمة التي تكاد تختصر رؤى الباحثين لواقع الامة وحال الفساد في العالم العربي، نرى ان الكتاب، على عكس ما كان يؤمل منه، لم يقدم تصورات واقعية جدية لكيفية تجاوز حال الفساد المستشري، ولا لأشكاله وأحجامه ومدى النهب الذي تمارسه القلة الحاكمة والثرية لموارد الامة العربية في مقابل اكثرية عربية تزداد فقراً وتهميشاً، حيث دلت كل التقارير الاقتصادية والاجتماعية الى ان احزمة الفقر المتعاظمة باتت السمة الابرز للمجتمعات العربية، المدينية والريفية، على السواء.

لكن الكتاب، وان لم يخرج بشكل عام من العموميات الايديولوجية المتداولة في الخطاب السياسي العربي المعاصر، يفتح باباً واسعاً للسجال ويثير قضايا جدالية عدة، لعل ابرزها ما يشبه الاجماع لدى اكثر المشاركين في الكتاب على إلقاء تبعة الواقع المزري للعالم العربي على عاتق النخب المثقفة، فضلاً عن تحميل هؤلاء مسؤولية القضاء على الفساد المستشري في كل مفاصل المجتمع، وتقاعسهم عن الاضطلاع بتنوير الجماهير وإصلاح حال الامة. فداود خير الله ذهب الى ان النخب المثقفة قصرت في ارساء مفهوم الحرية في الثقافة العربية المعاصرة، ولم تلعب دوراً فاعلاً في مجتمعاتها، وقد تهربت من تحمل المسؤولية، لنقص في الجرأة الادبية وميل الى الخضوع لإغراءات الفساد. وأناط الفضل شلق بالمثقفين العرب مهمة نسج سياقات فكرية بهدف انتشال العقل العربي من التشوش والضياع لتحقيق الامن الفكري ـ الاجتماعي والامن الفردي للمواطن. اما شربل نحاس، فقد اتهم النخب المثقفة التي تشكلت منذ نهاية القرن التاسع عشر بالقنوط واليأس والخجل من تاريخها وعدم الجرأة على مساءلته، كما حمّلها مسؤولية الدور الذي تخلفت المنظومة القضائية عن أدائه، اضافة الى مواجهة الاصولية التكفيرية، وصولاً الى وصمها بالخيانة وإخلالها بدورها وإخلائها الساحات.

تنطلق هذه الاتهامات من رؤية الى المثقفين تماهي بينهم وبين الرسل والأنبياء، مغفلة حقائق اساسية أولاها ان المثقفين لا يتأطرون في سياق واحد وفي اتجاه موحد، وأن ثمة تناقضات ايديولوجية بين هؤلاء، قد تفوق تلك القائمة بين الجماهير. وثانية هذه الحقائق ان المثقفين لا يعملون بالضرورة وفق اجندة ايديولوجية مفترضة وإلا اتهموا بالخيانة والخجل من الذات. وثالثتها ان المجتمع لا يسير بأفكار مثقفيه وحدهم، مهما كانت من الجدية، بل من خلال حراك تاريخي اقتصادي اجتماعي سياسي شامل ينخرط فيه المجتمع ككل. اما رابعة هذه الحقائق، فتتمثل في إغفال الدور الريادي الذي اضطلع به المثقفون والتضحيات الجسام التي تكبدها هؤلاء منذ القرن التاسع عشر اغتيالاً او اضطهاداً ونفياً وتشريداً من اجل الحرية والعدالة وفي سبيل إرساء قيم العقلانية والحداثة وحقوق الانسان. أليس من الظلم للمثقف تجاهل معاناته في تاريخنا الحديث والمعاصر، من اغتيال اسعد الشدياق وجبرائيل دلال وعبد الرحمن الكواكبي الى اغتيال انطون سعادة وفرج الله الحلو وكمال الحاج وفرج فودة وحسين مروة، ومن تشريد احمد فارس الشدياق الى تشريد رزق الله حسون ونصر حامد ابو زيد، ومن تكفير فرنسيس المراش الى تكفير نجيب محفوظ؟ ثمة تاريخ اذاً من الجهاد والاستشهاد لا يمكن شطبه في شطحة ايديولوجية متسرعة، كما انه من الواقعية والموضوعية كذلك الاعتراف بمحدودية الدور الذي يمكن ان يلعبه المثقفون في عالم عربي يعاني من القبلية والامية وضآلة الاقبال على المنشورات الثقافية ذات التوجه الحداثي، فكيف سيتمكن المثقف العربي من الاضطلاع بكل تلك الادوار الجذرية فيما تبقى مبيعات افضل الكتب الفكرية دون آلاف النسخ لمئات ملايين العرب، وفيما تحتل مقدمة الاستهلاك الثقافي مطبوعات «عصر الخراب»، بلغة ابن خلدون من كتب الخرافات والأساطير والتنجيم.

(]) المنظـــــمة العربية لمكافحة الفساد «الفــساد وإعاقة التغيير والتطور في العالم العربي» المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات 2015، 376 صفحة.

السفير

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى