في مئوية البير كامو: ‘السجلات الجزائرية’ تكشف مثالية المثقف الموزع بين ولائه وصمته/ ابراهيم درويش
احتفلت الجزائر في5 تموز (يوليو) 2012 العام الماضي، بمرور خمسين عاما على استقلالها بعد حرب دامية مع الفرنسيين واحتلالهم لها مدة 132 عاما، وهي اعوام كلفت الشعب الجزائري الدم والدمار والدموع والجوع والتشرد.
وظلت الحرب الجزائرية وخاصة حرب التحرير التي خاضتها حركة التحرير الجزائرية والاساليب التي استخدمتها محل جدل بين المثقفين الفرنسيين خاصة من ولد منهم في الجزائر، فهؤلاء او بعضهم وان دعم الحرية للجزائريين الا انهم لم يكونوا يتخيلون ان تتحرر الجزائر عن ‘فرنسا الام’، وكان في قلب نقاشهم مصير اكثر من مليون مستوطن جزائري عاشوا في هذا البلد وبنوا فيه حيواتهم على حساب الجزائريين الذين جاعوا واكلوا جذور الاشجار في زمن الجوع والخوف.
وتظل مواقف البير كامو (1913 -1960) من حرب التحرير من القضايا التي تلاحق سمعة الكاتب المولود في الجزائر والتي ادت الى انتقاده من كل اطراف المعادلة وقسمت المثقفين الفرنسيين. ومع اننا لا نجادل في تعلق كامو بأرض ميلاده الجزائر الا ان الخيارات التي ارادها لها تظل مثيرة للانقسام وتعبر عن مثالية،وهي نفس المثالية التي مثلتها ارضها الخصبة لراويته وتحرك فيها ابطاله. ولا نجادل ان الجزائر الارض الحبيبة اليه والتي اضطر للهجرة عنها لفرنسا بسبب مواقفه المؤيدة لقضية الجزائريين اهل البلاد، الا ان الخيارات التي كان يدعو اليها لم تكن متوائمة مع المرحلة، فهو من المثقفين الذين لم يكونوا يتصورون جزائر حرة وجزءا من سياقها الطبيعي وليس عبر المتوسط، وانشغل في هذا السياق بتقديم رؤيته عن المتوسطية والثقافة المتوسطية التي تمت اكثر الى تعاليم القديس اوغسطين الذي حول كما يقول كامو المسيحية من دين يدور حول العذاب الداخلي الى ‘ ترنيمة للطبيعة والفرح الساذج’ وبهذا فالثقافة هذه تختلف عن تلك الرؤية التي يحملها اليمين الفرنسي باعتبار الجزائر الجزء الاخر والتوأم النائم على الشاطىء الاخر من المتوسط. لم يحضر كامو الذي قتل في حادث تحطم سيارة في 4 كانون الثاني (يناير) 1960 استقلال الجزائر، فقد مات قبل عامين ونصف بالضبط من توقيع اتفاقية ‘ايفيان’ والسؤال هل كان حضوره استقلال الجزائر سيغير من حقيقة الامر؟ فقد قرر كامو بعد 1958 الصمت وعدم التعليق على الجزائر لانه قال ما عنده وما بين صمته عن الكتابة وصمته الابدي مدة 39 شهرا تقريبا. في هذه الفترة اصبح كامو محط نقد من اليسار الذي انتمى اليه في شبابه ومن اليمين الذي نظر اليه نظرة شخص مفعم بالسذاجة يأمل في تحقيق حل ‘مقبول’ للقضية الجزائرية. ففي 1958 كتب كامو قائلا ان ما يهدف اليه من كتابة ونشاط هو ‘ التوصل الى مستقبل مقبول: مستقبل تتمسك فيه فرنسا بتقاليدها عن الحرية وتعامل بعدل مجتمعاتها في الجزائر بدون تمييز مجتمع على حساب اخر’. كاتب هذه الكلمات هو كاتب ‘الغربب’، ‘ الرجل الاول’ و ‘الطاعون’ الذي تحل في السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) المئوية الاولى على ولادته. وتمضي الاحتفالات صامتة في الجزائر مهد ميلاده فيما تبدو صاخبة في فرنسا، اما في اماكن اخرى فلا تتعدى اصدار طبعات جديدة من كتبه او ترجمات لاعمال لم تصدرمن قبل.
مركزية الجزائر
والمهم ان الجزائر تظل مركزية في الجدل الذي يدور حول مواقف كامو ومعاركه الفكرية، فقد اصبحت القضية الجزائرية وتحرر الجزائريين المفصل التي يحكم من خلاله على ادبه وكفاحه الفكري، سواء ضد المؤسسة الاستعمارية في الجزائر او النازية عندما احتلت فرنسا، او من حركة التحرير الوطني الجزائرية التي رأى في اساليبها التي تستهدف المدنيين من الطرفين عملا ارهابيا. وهذا الموقف دعا بمنظري ثقافة ما بعد الاستعمار للعودة الى رواياته واعماله الفكرية وتحليلها، فهو حسب ادوارد سعيد استخدم الفضاء الجزئري والعرب كإطار او خلفية لاعماله ليس الا. ولعل من اهم الاعمال التي كتبها كامو حول المسألة الجزائرية هو كتابه الذي اصدره عام 1958 واعتقد انه بنشره سيحسم المسألة وموقفه من الحرب الدائرة ويسكت ناقديه، لكن كتابه لم ينل اهتماما ولا حفاوة من النقاد. هذا الكتاب هو ‘السجلات الجزائرية’ وهو مجموعة من المقالات التي كتبها اثناء نشاطه السياسي في الجزائر من عام 1939، ونشرها في جريدة (الجزائر الجمهورية) الى الخمسينات من القرن الماضي، اضافة لدراسات وكلمات اخرى نشرت في دوريات يسارية وردود كتبها على تقارير نشرتها صحف فرنسية مثل لوموند. وتعود عدم الحفاوة بالكتاب في جزء منها الى التقلبات السياسيةالتي شهدتها فرنسا في ذلك الوقت واثر الحرب العالمية الثانية عليها، بما في ذلك نهاية الجمهورية الثانية وعودة الجنرال شارل ديغول للحكم. ولان هذه الاحداث مرتبطة بالجزائر وحرب التحرير فإن احدا على ما يبدو لم يكن في مزاج الاستماع الى كلام كامو او تبريره الاخلاقي لمواقفه، وهذا واضح من الارشيف الذي احتفظت به دار ‘غاليمار’ للقصاصات الصحافية والمراجعات عن الكتاب، فالارشيف فارغ الا من مقال كتبه رينيه ماران، الكاتب الفرنسي الاسود الذي فاز عام 1921 بجائزة غونكور عن روايته ‘باتوالا’، وتوقع فيه ماران ان تكون مقالات كامو الجزائرية تصويرا للواقع الجزائر وحالته كما نظر الى مقالات وكتب اليكس توكفيل عن حالة الديمقراطية في امريكا اي تصويرا يحمل نبوءة عن القادم.
ترجمة جديدة
وبمناسبة الاحتفال بمئوية كامو الاولى صدرت بالانكليزية ترجمة جديدة للسجلات الجزائرية عن دار نشر جامعة هارفارد، قام بها ارثر غولدهامر، وقدمتها وحررتها اليس كابلان. والداعي لاعادة ترجمة ‘السجلات الجزائرية’ انها هي العمل الوحيد لكامو الذي لم يترجم بكامله للانكليزية، ففي عام 1961 اختارت دار نشر هاميش هاميلتون نشر بعض المقالات في النسخة الفرنسية تحت عنوان ‘ المقاومة، التمرد والموت’. وترى كابلان ان عنوان ‘ المقاومة’ كان مناسبا للقارىء الانكليزي في بريطانيا وامريكا الذي لم يسمع ابدا بمناطق القبائل في الجزائر التي حلل كامو في سلسلة من التقارير حالتها الاقتصادية، الفقر والجوع واثر السياسات الاستعمارية على هذه المناطق. يضاف الى ذلك فكامو كان مرتبطا بوعي القارىء الامريكي بمقاومته للنازية وبرواياته الاولى ‘الغريب’ و ‘الطاعون’ ومن هنا جاء عنوان ‘المقاومة’ لتذكير القاريء بدور كامو في الحرب العالمية الثانية. كما ان القارىء العادي لم يكن يعرف شيئا عن خلافات كامو مع معاصريه من اركان الحركة الثقافية خاصة جان بول سارتر وانها كانت بالضرورة مرتبطة بالمسألة الجزائرية. فالسجلات تحمل كما ترى كابلان رسالة ذات حدين، فكامو كان واعيا في كل هذه المقالات لمطالب الجزائريين الوطنية وشعورهم بالظلم الذي حل بهم جراء استعمار بلادهم، وفي الوقت نفسه لم يكن يتخيل الجزائر بدون فرنسا، وظل يحذر من انفصال الجزائر الذي ستكون له تداعيات قاتلة على مستقبل الجزائر. وبهذه المثابة كان موقف كامو من مسألة التحرير مثار غضب الحركة الوطنية الجزائرية التي غضبت عندما كتب ‘ان المطالبة بالاستقلال الوطني للجزائر ما هي الا رد عاطفي على الوضع لانه لم تكن هناك ابدا امة جزائرية’. وزاد من الغضب عندما كتب عام 1958 ان الفرنسيين في الجزائز بعد 130عاما من الاستعمار هم في الحقيقة ‘ شعب اصيل (محلي) بكل ما تحمله الكلمة من معنى’. ولهذا يلحظ الى ان كامو لم يكن مستعدا او يريد مواجهة البنية الاستعمارية للجزائر على خلاف سارتر الذي كتب عام 1956 محللا بنية الاستعمار كـ ‘نظام’ والبرت ميمي الذي كتب ‘المستعمِر والمستعمَر’ (1957) محللا بنيته النفسية،فقد تعامل كامو مع العنف الذي اعتبره نتاجا للظلم والسياسات الاستعمارية. وكان يأمل بالتوصل لحل يوحد الطرفين ويحقق المساواة بينهما، ومن هنا تفهم دعوته لانشاء فدرالية تضم العرب والبربر واليهود والفرنسيين. وكما تقول كابلان كان كامو يرى عبثية في تحقيق هذا الحلم، فهو المصاب بمرض الربو عندما كان في عمر السابعة عشرة، كتب لصديق جزائري ‘صدقني عندما اقول لك ان الجزائر هي تؤلمني في الوقت الحالي، كما يشعر الاخرون بالم في الرئة’.
الصمت
ظل كامو يحب الجزائر جبالها واثارها الرومانية، ميناء الجزائر الجميل والشرفة المتواضعة حيث عاش مع امه الطرشاء الخرساء والامية، وجدته المتسلطة وشقيقه لوسيان برعاية عمه الامي صانع البراميل. كل هذه الذكريات تمت الى ايامه عندما كان شابا وناشطا سياسيا ومع صدور مقالاته كان كامو قد فقد الصلة بها، والزيارة الوحيدة للجزائر بعد سنوات في المنفى كانت في عام 1956 في محاولة منه للبحث عن حل يوقف العنف من الطرفين. وعندما عاد الى الجزائر لم يكن الولد الفقير، وابن الحي الشعبي في الجزائر العاصمة، ففي هذه الزيارة نزل في فندق سانت جورج، واجتمع مع عدد من المثقفين والسياسيين والقادة الدينيين، كان منهم الدكتور خالد وفرحات عباس. وبدا كامو في خطابه الذي القاه امامهم محبطا حيث قال ‘ لو كان لدي صوت للعزلة والمحنة التي يشعر بها كل واحد منا، لتحدثت اليكم بهذا الصوت’، اثناء ذلك كانت الاصوات المتعالية من المتطرفين الفرنسيين في خارج قاعة الاجتماع تصرخ ‘الموت لكامو’ الذي لم يكن يعرف انه كان في حماية جبهة التحرير الوطني التي شجبها في مقدمة ‘السجلات الجزائرية’. وترى كابلان في مقدمتها للسجلات ان كامو موضع مقالاته في اطار ‘الصمت’ فبعد فشل محاولاته للتوصل الى هدنة مدنية توقف العنف قرر ان يلتزم بالصمت وان لا يقول اي شيء متعلق بالجزائر، لانه كان مقتنعا ان اي شيء يقوله سيفاقم الوضع. ومن هنا فاصداره السجلات كان محاولة منه لكسر جدار الصمت الذي فرضه على نفسه. ويبدو هذا واضحا في مقدمته لكتابه عندما كتب ‘هذا هو تحذير اخير يمكن ان يقدمه كاتب قبل ان يعود مرة اخرى لصمته’. ويعتبر الصمت مهما في كتاب كامو لانه صورة عن حبه لامه الخرساء، وتشير كابلان هنا الى قصة ‘الخُرس′ (تترجم عادة للانكليزية بالرجل الاخرس) في مجموعته ‘ المنفى والمملكة’. وفي هذه القصة تشير الى مجموعة من العمال الفرنسيين وعامل جزائري واحد يعملون في مصنع للبراميل يقررون الاضراب عن العمل طلبا لاجور افضل. وترفض الادارة الاستجابة الى مطلبهم مما يؤدي بالنقابة التي تشرف عليهم لالغاء الاضراب. وفي اليوم التالي عندما يحضر صاحب العمل الفرنسي ويحاول التحدث معهم يلتزمون الصمت، لا لانهم قرروا عدم التحدث معه ولكن لان ‘ الغضب والعجز يؤذي بدرجة لا تستطيع معها الكلام/الصراخ’. ومن هنا يمكن النظر الى ‘السجلات’ على انها محاولة من كامو للتعبير عن غضبه وعجزه، وهو ما يعطي الكتاب بحسب كابلان جماليته ويمنحه علاقة بالواقع، سواء الجزائر المحتلة او جزائر ما بعد الاستقلال. فهل هذا يعني حياة جديدة للسجلات الجزائرية؟
مقاربة مع الوقت الحالي
ترى كابلان هذا، فرفض كامو للعنف الذي يمارسه الطرفان في الحرب يتحدث بشكل واضح عن الجزائر و’الحروب القذرة’ في التسعينات من القرن الماضي التي قتل فيها اكثر من 100 على اقل التقديرات. وتقول كابلان انها في زيارة للجزائر تحدثت مع اساتذة جامعة جزائريين ردوا على ‘السجلات الجزائرية’ بربطها اولا بالعنف الاخير بعد الاستقلال،وثانيا بعنف الخمسينات من القرن الماضي. ويقارب احدهم ( رمزت اليه بحرف نون) لم تذكر اسمه، ربما للحذر او عدم الراحة لاسم كامو، بين وضعية قارن فيها جزائريون انفسهم بالجزائريين الفرنسيين، حيث عرف هؤلاء انفسهم من خلال ابطال كامو وكتاباته، اي من ناحية الخوف من تجريدهم من هويتهم واجبارهم على الخروج من الجزائر. ولا تتفق باحثة جزائرية اخرى مع هذا الرأي حيث تقول ان العودة الى كامو هو جزء من محاولة تأهيله في ظل المراجعات التاريخية التي تكشف عن العنف الذي مارسته جبهة التحرير الوطني. وترى انه كان مساويا لعنف الفرنسيين. ومع ذلك يظل كامو كاتبا لا يتم الاحتفاء به في المدارس الجزائرية، خاصة بعد جعل اللغة العربية اللغة الرسمية للبلاد كما تقول كابلان. لكن (نون) يقول ان الكتاب المؤسسين للادب الجزائري الناطق بالفرنسية مثل محمد ديب ومولود فرعون وكاتب ياسين كانوا في حوار دائم مع كامو ولهذا فمن الصعب تدريس اعماله بدون الاشارة لاعمال كامو. ومع ذلك فالاخير اعطي رمزية كبرى في كتاب آسيا جبار ‘كامو الابيض: سرد’ حيث قارنت كامو بمانديلا، ورأت في لقاء الحضارات والهدنة بينها لحظة مهمة. ومع حلول عام 2010 شعر الكثيرون ان كامو عاد الى موطن ميلاده، فقد تم التحضير لاحتفالية تطوف البلاد تم الغاؤها بدون تقديم اسباب.
بؤس القبائل
تنبع اهمية ‘ السجلات الجزائرية’ من قيمتها التاريخية، خاصة تسجيلها ‘لبؤس′ الجزائريين الذين يعيشون في الجبال، ففي ‘بؤس القبائل’ يحرص كامو على تقديم رؤية اقتصادية لاسباب هذا البؤس ويدعم كتابته بالارقام، متحدثا عن القمح وطرق توزيعه، وكمياته حيث كانت العائلة مضطرة لان تستخدم 10 كيلو من القمح لمدة شهر، وفي بعض المرات لثلاثة اشهر. وتحدث عن بحث السكان عن مصادر اخرى للتغذية حيث كانت تمثل الاشواك وجذور الاشجار والحشائش مصدرا للتغذية. كما ويقدم صورة عن حياة العمال الذين يعملون حتى منتصف الليل ثم يعودون لقضاء ساعات قليلة قبل ان يبدأوا السير الى اعمالهم في الساعة الثالثة صباحا. في داخل تحليله للبؤس في هذه المناطق يشير كامو الى اثر الازمة الاقتصادية العالمية على اهلها، فقد اضطر الالاف من ابنائها العاملين في الخارج للعودة والانتظار. ولا ينسى كامو الشاب تذكير قارئه بان الفقر في هذه المناطق ليس طبيعة يحبها السكان فهم ليسوا كسالى ويعملون ان توفر العمل، كما انهم محبون للتعليم. وفي بعض المناطق كانت بعض المدارس ترد مئات الطلاب بسبب عدم قدرتها على استيعابهم. تشي التقارير التي كتبها عن مناطق القبائل بوعي من جانب كامو بالازمة ونقد للادارة الاستعمارية، وهو بهذا كان متقدما على الكثيرين من الصحافيين الفرنسيين الذين تعاملوا مع اي حديث عن المجاعة كنقد لفرنسا الام. وحملت المقالات التي كتبها في رحلته التي قام بها عام 1939 للجبال حسا ادبيا ووعيا بجمالية المكان الذي يمتلىء بالمعاناة.
العنف والحرمان
قد تبدو مقالاته هذه انسانية الا انه حين صدورها ادت الى وضع اسمه على القائمة السوداء، ولاغلاق الصحيفة، ولانه لم يكن قادرا على الحصول على العمل فقد اضطر للمنفى. وظل كما تقول كابلان يعتقد طوال حياته انه خاطر بكل شيء لافكاره المعادية للاستعمار. وفي مقالاته التي نشرها في مجلة ‘كومبات’، عبر كامو عن فهم لطبيعة العنف في مذبحة سطيف عام 1945. وقد اعتقد كامو انه حالة واصلت الحكومة الفرنسية حرمان الجزائريين من حقوقهم، ومارست العنف ضدهم فانها ستخسر في يوم من الايام الجزائر. بالاضافة لتقاريره عن مناطق القبائل تحتوي السجلات على عدد من المقالات منها مقال لمحمد العزيز الذي كان عضوا في حزب عباس فرحات، الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري التي دعا صديقه فيها للعمل من اجل وقف العنف كي ‘يحل السلام على سهولنا وجبالنا وشواطئنا، وان يتصالح الفرنسيون والعرب في الحرية، ويحاولون نسيان الدم الذي نزف وقسمهم. في ذلك اليوم سنقوم نحن المنفيين في الكراهية واليأس باستعادة وطننا’. وكما تظهر المقالات لم يكن كامو مستعدا في يوم من الايام التخلي عن الجزائر الفرنسية ولا عن الفرنسيين في الجزائر، فهو وان شجب العنف، الا انه في سلسلة من مقالاته التي نشرتها ‘لاكسبرس′ في الفترة ما بين 1955- 1956 اكد على تطرف الفرنسيين في الجزائر لكنه فسر هذا بانه نابع من حسهم بالتجاهل من فرنسا الام، وقال ان ما تحتاجه الجزائر هو رأي ليبرالي قادر على التقدم نحو ‘الحل’. ويؤكد في واحدة منها على ان الخطأ هو جماعي، مع ان العرب هم المتضررون بشكل اكبر، لكن المستوطنون الفرنسيون قادرون ان توفر الحل على نسيان مواقفهم المتحيزة ضد العرب والمشاركة في بناء الجزائر.
احب امي اكثر
تمثل المقالات التي يجمعها هذا الكتاب انشغالات كامو في الحقبة التي سبقت عام 1958 بالموضوع الجزائري، والحس الذي يخرج به القاريء ان كامو ظل فرنسيا لا يتخيل جزائرا بدونها، وظل يواجه العنف ايا كان مرتكبه. وفي هذا السياق تشمل المجموعة على المقالة الوحيدة التي نشرها عام 1957بالانكليزية في مجلة ‘انكاونتر’ والتي دعا فيها لتحرر الهنغاريين من السوفييت ولم يطالب بنفس الامر للجزائريين ‘المسألة الهنغارية بسيطة: يجب ان يسترد الهنغاريون حريتهم، بالنسبة للجزائر فهي مختلفة لانه يجب ضمان حرية مجموعتين من السكان’. وتضم المجموعة الحالية رسالة كتبها كامو الى الرئيس الفرنسي رينيه كوتي يحتج فيها على احكام اعدام صدرت بحق مقاتلي الحرية الجزائريين. وفي النهاية تشير كابلان كما هو حاضر في المجموعة الى سؤال طالب جزائري لكامو في استوكهولم عام 1957 عندما سأله عن موقفه من حركة التحرير الوطني، حيث رد كامو ردا مطولا ختمه بالعبارة الشهيرة ‘ يقوم اشخاص بزرع قنابل في خط الترام في الجزائر، قد تكون امي في واحد من هذه القطارات واذا كان هذا عدلا فانني افضل امي’ او احب امي اكثر . ولعل الصحافة الفرنسية قامت بنقل عباراته بطريقة تناسبها مما ادى بكامو لارسال رسالة الى’لوموند’ والتي شرح فيها تعاطفه مع الشاب الجزائري ولعل هذا الموقف كان وراء قراره بعد ستة اشهر اصدار ‘السجلات’ وكتب فيها ‘اود القول لذلك الشاب الجزائري انني اشعر بالقرب منه اكثر من الفرنسيين الذين يتحدثون عن الجزائر بدون ان يعرفوها، كان يعرف ما يقوله، وقد ظهر هذا على وجهه الذي لم يحمل اي كراهية بل يأسا وعدم رضا، وانا اشاركه في عدم رضاه’. على العموم فكامو الذي يخرج من بين هذه المقالات هو الكاتب الاخلاقي الذي تعامل مع القضية التي عاشها وولد فيها باخلاقية واحيانا بمثالية، ولعل هذه المثالية هي التي ادت لسوء فهمه، والى يأسه وصمته، ففي ذلك الوقت لم يكن الجزائريون ولا الفرنسيون يبحثون عن مواقف اخلاقية بل عن مواقف والتزام بالقضية، فالجزائريون الذين خرجوا في حرب تحريرهم لم يكونوا ليرضوا بغير الحرية، والفرنسيون والمستوطنون منهم لم يكن امامهم الا القتال حتى اللحظة الاخيرة. كان كامو يعي حجم المسؤولية وان كان مخطئا في موقفه او مصيبا، وككاتب كان موقفه المسؤول كشاهد يقضي بان يقول كلمته ويمشي، وبهذا يختم مقدمته للسجلات ‘ هذه شهادتي، وليس لدي ما اضيفه’.
Algerian Chronicles
By: Albert Camus,
Edited and with an introduction by Alice Kaplan,
Translated from the French by Arthur Goldhammer
Belknap Press/Harvard University Press/2013
القدس العربي