صفحات الناس

في ماراثون دمشق الراقص… العبودية سيدة الألوان/ هزار الحرك

 

 

في محاولة جديدة لإثبات ما يواظب على إثباته، وعلى نهج رسائل الإغراء التي يمضي من خلالها الأسد متحرشاً بالغرب، أن “انظروا إلي.. أنا الرئيس الذي لا يزال شاباً، زوجتي سيدة الأناقة الأولى، نحمي شعباً يشبهكم من آخر همجي أجرب”، دفع النظام السوري شباباً سوريين قبل أيام عدة، لإحياء “ماراثون الألوان” الأول في دمشق.

خصص النظام حديقة الجلاء المطلة على شارع المزة العريض، لتجمهر شباب وشابات بلباسهم الموحد، سراويل الجينز والقمصان البيضاء، يفصل بينهم ودخول التاريخ دقائق معدودة، ثم انطلقوا راقصين باتجاه ساحة الأمويين، ترافقهم عربات الإسعاف، والبث التلفزيوني، وسيارات مخصصة لبث الموسيقى.

هناك، كان للسيف الدمشقي المزروع على طرف الساحة، أن يشهد كما شهد مرات ومرات، واحدة من المهازل التي جرت في قلبها، حيث يتقافز شباب على ألحان أغنية سرقها رامي كزعور، من أغنية “يلا ارحل يا بشار” لإبراهيم القاشوش، التي أطربت أرواح السوريين قبل أعوام مضت، عندما نزلوا مطالبين بالحرية والكرامة، إذ اختزلت مطالبهم وسخريتهم من الطاغية الذي ثاروا عليه، وآراءهم السياسية والإنسانية… فأبدل كزعور كلماتها، ليحيلها مسخاً يلهج بالوفاء للقائد بشار وجيشه.

في الفعالية التي قامت تحت عنوان “أحب دمشق”، أتيح لشباب سوري أن يخطط وينظم ويتجمهر، ليتراشق بالألوان فحسب، في أحط مظهر للميوعة والسخف وفقدان الهوية. بينما تعرض سوريون قبل أعوام، قيل إنهم “مندسون” للاعتقال والتعذيب عندما استخدموا طلاء ألوانهم ليخطوا عبارات مطالبة بالحرية والكرامة على جدران المدارس واليافطات.

رقصت فرق السذج على أنغام الموسيقا الغربية والتشبيحية، وعلى بعد بضعة كيلومترات فحسب، في دوما وداريا والمخيم والمعضمية وقدسيا والزبداني، عوقب سوريون قبل سنوات على تجمّعهم في الساحات، واتهموا “بتعاطي حبوب الجزيرة للهلوسة، وبسندويشة الفلافل الملفوفة بنقود آل سعود”، إذ رقصوا على ألحان أغانٍ سورية، ألفوها بأنفسهم، تطالب بالحرية والكرامة، فاعتُقلوا وعُذبوا وحُوصروا وحُرموا من الطعام والدواء، ودمرت منازلهم فوق رؤوسهم.

في ماراثون الألوان الذي جاء “بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعون لحرب تشرين التحريرية”، لم ينتبه الشباب المتحفز للرقص، إلى الخطأ اللغوي (الأربعون) التي خُطّت على النصب القائم أمام أعينهم، فكيف لهم أن ينتبهوا إلى أن آخر معركة تحريرية قام بها جيشهم المغوار، كانت تحرير بيوت داريا من ساكنيها!

وكيف لهم أن يراجعوا أنفسهم فيندبوا الفرصة الذهبية التي فوتوها على سورية، وأن يدركوا مسؤوليتهم في البشاعة التي بلغتها اليوم، إذ لم يشغل الجمال والإبداع الذي كان ينمو بعفوية في ساحات الاحتجاج الأولى، شيئاً من أرواحهم، وأن ينتبهوا للحبال التي جعلتهم دمى بأصابع الأسد، ليستخدمهم في تنظيف جرائمه.

مع انطلاقة الثورة السورية قبل ست سنوات، اختلف السوريون بين مؤيد ومعارض لها، حتى وقع الاختلاف بين الشخص ونفسه، وكان الأمر صحياً وقتها، إلا أن نظام الأسد، عمل بممارساته على شطر السوريين إلى أعداء، عبر شطرهم في المدن والقرى والأحياء وبين الأصدقاء والرفاق والعائلة الواحدة، إلى منحبكجي ومعارض لبشار.

اليوم، في المشهد المأساوي للبلاد، يبدو الخراب الذي طاول الحجر، قابلاً للترميم وإعادة الإعمار رغم حجمه الكارثي، وفي التاريخ أمثلة كثيرة عن مدن نهضت من جديد، بعد أن أحالتها الحروب إلى ركام.

لكن ما يبدو صعب الترميم، هو الخراب الذي طاول البشر، فأحالهم إلى شعبين، أحدهما خرج يرقص ويلوّن دعماً لدرعا، وطلباً للحرية والكرامة والعدالة، فأنزل به أشد صنوف العقاب. وآخر يهز الخصر طلباً لمزيد من الذل والعبودية، وقد صمّ حواسه عن القهر الذي حلّ بمواطنيه طوال أعوام، وعن جرائم الإبادة التي تجري اليوم في حلب.. في ماراثون الألوان في دمشق، كانت العبودية سيدة الألوان.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى