في ما وراء قصة الحريري/ عمر قدور
لنفترض، بخلاف ما حصل، أن الحريري قدّم استقالته في قصر بعبدا، ثم اتجه فوراً إلى المطار ذاهباً إلى السعودية. لنفترض أيضاً أنه قبل استقالته تلقى اتصالاً من السفارة السعودية، أو من أحد المسؤولين في الرياض، وأن التفسيرات “سواء تلقى ذلك الاتصال أو لا” ستُجمع على أن قراره أتى بطلب سعودي. أين ستكون المفاجأة حينئذ؟ فوراء إشارة الاستفهام يتوجب التذكير بأن التسوية التي أتت بالحريري إلى رئاسة الحكومة قرأ الجميع في ما وراءها مباركة سعودية، ولو لم تكن هناك مباركة في حدها الأدنى لما كان هناك رئيس في لبنان حتى الآن.
قد يلزم التذكير أيضاً بأن الحريري، بناء على رغبة سعودية، قد ذهب يوماً إلى ضيافة بشار الأسد، قاتل أبيه، مثلما سبق أن تحالف حكومياً مع حزب هناك أربعة منه متهمين في قضية اغتيال الأب. ويلزم التذكير أيضاً بأن ثقل أية زعامة سنية لا يتحقق بالشعبية ضمن أوساط السنة أنفسهم، ما لم يكن مقروناً بدعم واعتراف سعوديين. مثلما يلزم التذكير، في الوقت نفسه، بأن طهران قادرة على استدعاء من صرح يوماً بأنه جندي في ولاية الفقيه، وقادرة على عدم إرجاعه إلى ضاحيته أبداً، وقادرة على تولية شخص آخر مكانه. وإذا تعلق الأمر فقط بوضعية رسمية فإن طهران قادرة على استدعاء نواب أو وزراء الحزب والاحتفاظ بهم، لا يغير من هذا لو كانت التركيبة اللبنانية تسمح لأعضاء الحزب بشغل مناصب أعلى.
وفي سياق السؤال عن مصير اللبنانيين خارج لبنان قد يلزم التذكير بما تورده الأنباء عن مقتل حوالي 1500 عنصر من حزب الله في سوريا، وهؤلاء يُفترض أنهم مواطنون لبنانيون، ويُفترض أن الحكومة اللبنانية معنية بأسباب وكيفية اختفائهم أو مقتلهم. هكذا هي الأصول المتعارف عليها في الدول المحترمة والأقل احتراماً، فإثبات الوفاة وأسبابها شأن إداري وسيادي أيضاً بحكم مسؤولية الدولة عن رعاياها، وإلا لما رأينا وزارات الخارجية تبادر إلى الاطمئنان على سلامة رعاياها في دول أخرى، في حالات الكوارث الطبيعية أو الحوادث أو الحروب. الذين يتحدثون اليوم عن سيادة لبنان، لمناسبة ما يسمونه اختطاف الحريري، صمتوا طويلاً عن اختطاف مواطنين آخرين أو طائفة بأكملها وزجها في حروب تتعدى منطق السيادة بأكمله، وكأن اختطاف بلد أمر مشروع تماماً.
سيكون من المخزي التذكير بزمن كانت فيه النخبة الحاكمة تأتمر بأمر بلطجي في عنجر، ولعل ما يخفف من وقع ذلك الخزي لا يتوقف عند انقضائه فحسب، وإنما أيضاً تلك الرواية عن مقتل رستم غزالي بعد إذلاله ممن هو أعلى شأناً. أما بشار الأسد نفسه، الذي كان يتباهى بوصايته الموروثة على لبنان، فتكفي رؤية منظره في حضرة قادة روس من الصف الثاني يجالسونه كمسؤول أدنى منهم، وعلى طاولات فقيرة لا تليق بأدنى بروتوكول دبلوماسي. وإذا كانت طهران لم تتعمد إذلاله على هذا النحو المباشر العلني فتكفي تصريحات مسؤوليها، وليس أكثرها إذلالاً اعتبار سوريا محافظة إيرانية وتنزيل مرتبته إلى مرتبة محافظ. ولن تكون فقط تحاشياً للمقارنة الإشارةُ إلى حال نسبة معتبرة من المعارضة السورية، يأتمر كل منها بتعليمات إقليمية أو دولية، سواء لأسباب أيديولوجية أو لأسباب نفعية.
وعندما نوسع الدائرة قليلاً سنجد الأمر نفسه ينطبق على حماس والسلطة الفلسطينية، فالاقتتال يحتدم بينهما مع الصراعات الإقليمية، والمصالحة لا تُنجَز سوى برعاية وضغوط إقليمية ودولية. وحتى العراق الذي سُلِّم لإيران كاملاً هو بمثابة هدية مفخخة، لأن الصراع الداخلي “الساخن أو البارد” سيستلزم دائماً الاعتماد على جهات خارجية من قبل الكتل الرئيسية فيه، ثم إن وضعاً قائماً على هيمنة كتلة واحدة مستقوية بحليف خارجي هو أفضل وصفة لصراع مستدام. ولأسباب مغايرة لا تبدو مصر بعيدة عن هذا المصير، إذ سيكون حملاً ثقيلاً جداً مَسخُها على النحو الذي يفعله السيسي، وعلى النحو الذي يُباع فيه قرارها السيادي بحفنة من “الرز”!
هذه بمجموعها دول كانت نخبها السياسية والثقافية تفخر بوعيها، وتفخر بأنها تقدّم المثل للمنطقة بأسرها، ولا تخلو من عنصرية إذ يكون جزء من المفاخرة موجّهاً إلى شعوب مجاورة تُرى أقل شأناً على الصعيد الحضاري. وبعيداً عن المفاخرة؛ كان يُنظر إلى أغلب عواصم هذه البلدان بوصفها العواصم الثقافية للمنطقة، وفيها نشأت التيارات الأيديولوجية الكبرى خلال عقود الاستقلال، ولو أتى بعض هذه التيارات استلهاماً من الغرب أو الشرق. وراء ذلك كله لم يكن الأمر ليخلو من النظر إلى هذه البلدان كحضارات راسخة جداً، وبهذه الصفة رؤيتها كبؤر استقرار لا تهزه رياح الخارج.
أن يكون الحريري محتجَزاً أو لا يكون ليس هو الأهم، وقصته الآن برمتها يجوز تشبيهها بخروج العشيقة من السر إلى العلن، مع معرفة الجميع سابقاً بوجودها. الفضيحة هنا لا تكون في الفحوى ذاته، وإنما في إشهاره، بخاصة مع اشتراك كثر فيه وتوخيهم الستر. التتمة هي في الالتهاء بالقصة من جانبها البوليسي، وذلك لا يعني فقط التغاضي عن الأسباب المعلنة للاستقالة، وإنما يعني أولاً كأن الجميع فوجئ بحجم النفوذ السعودي على الحريري، مثلما يبدو الأخير كأنه أحس بالغدر من سلوك حزب الله وحليفه في الرئاسة ومن ورائهما طهران، وكأن الحزب نفسه لم يُسقط حكومة سابقة للحريري وهو في زيارة إلى واشنطن.
أن يكون لدينا كثرٌ في هذه البلدان يمكن استدعاؤهم وقت الحاجة إلى مراكز النفوذ والقرار الفعليين؛ هذا ما يُهمل كمضمون بالتركيز على إخراج القصة، وهذا ما يمنع نقاشاً حقيقياً حول حجم تبعية هذه البلدان، أو حول حجم الاعتراف بهذه التبعية واعتبارها قدراً لا مفر منه. الأنكى من ذلك هي موجة السخرية المرافقة، والتي تحمل التعالي القديم على بلدان صارت هي صاحبة الكلمة، التعالي الذي يعكس الإحجام عن التفكر في الواقع ومحاولة تعديله، بينما السخرية الواجبة حقاً هي السخرية من الذات، لعلها توقظ الأخيرة من أورامها ومن سباتها.
المدن