في مديح البطء.. حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة”/كارل أونوريه، ترجمة: ماهر الجنيدي
متى ثورة البطء؟/ أسامة فاروق
“لمَ اختفت متعة البطء؟ آه، أين هم متسكعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى، هؤلاء المشردون الذين يتسكعون من طاحونة إلى أخرى وينامون تحت أجمل نجمة؟ هل اختفوا باختفاء الدروب الريفية والحقول والغابات والطبيعة؟”.
ميلان كونديرا
يوميا أراقب حركة مئات الركاب في متاهة مترو الأنفاق، خاصة تلك الحركة المحمومة بمجرد فتح الأبواب.. لم أفهمها أبدا، إلى أين يسرع هؤلاء؟ لماذا هذا الاندفاع والتعجل؟ يندفع الموظفون في الصباح نحو أعمال لا ينجزون فيها شيئا، وفي المساء يندفعون بالقوة نفسها للجلوس في المقاهي أو أمام الشاشات! انه اشبه باندفاع كبير نحو اللاشيء!
أصابتنا عدوى السرعة التي أصابت العالم، لكنها للأسف دون أي انجاز حقيقي.
لا شك في أن العولمة أصبحت الآن حتمية وفي مسار يستحيل عكسه، لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة، وتم تجاوزها كما يقول المفكر البولندي زيغمونت باومان، لذا فعلاقاتنا واعتمادنا بعضنا على بعض صار عالميا، وكل ما يحدث في مكان يؤثر على حياة الناس وفرصهم في العيش في مكان آخر. الأفكار التي وضعها باومان تصلح مدخلا مناسبا لتفسير فيروس السرعة الذي انتقل إلينا بعد أن أصاب العالم، كما تفسر أيضا صراعنا اليومي مع الوقت، فالوقت حسب باومان “يسيل”، ولم يعد يمضي إلى الأمام، هنالك ما يتغير دائما، ولكن ليس هنالك وجهة ولا نقطة نهاية، ليس هناك ترقب لمهمة مكتملة، كل لحظة معاشة محملة ببداية جديدة وبالنهاية في آن معا.
لكن ماذا لو حدث العكس؟ لو بدأ العالم يفكر في التوقف والتمهل والبطء –مع الانجاز- فهل تصيبنا تلك العدوى أيضا؟!
العالم يفكر في ذلك فعلا، ومنذ سنوات، وخرجت عدة دعوات في أكثر من مكان حول العالم تدعو جميعها للتمهل، جمعها الكاتب كارل أونوريه في كتابه الشهير “في مديح البطء” الذي صدرت ترجمته العربية منذ أيام بعد نحو 13 عاما على صدوره لأول مرة وترجمته لأكثر من 30 لغة حول العالم (!).. البطء، درس الكتاب الرئيسي وصلنا حتى قبل ترجمته.
كتاب أونوريه أصبح بمثابة مانيفستو لثورة البطء في العالم، يبشر بحركة تذهب لما هو أعمق وأوسع بكثير من مجرد الإصلاح الاقتصادي عبر التمهل في الحياة اليومية، في البيت والشارع والعمل والإجازة والفراش، فأنصارها كما يقول يصوبون بنادقهم نحو صنم السرعة الزائف، يضربون في قلب ما سيكون عليه إنسان عصر الشاشات. فالعالم يجتهد لأن يفعل كل شيء الآن بشكل أسرع ومازال يدفع لذلك ثمنا باهظا.
يقول أونوريه أن ضريبة العجلة واضحة جدا، والبشر بتعجلهم يقودون الكوكب نحو الانهيار والنضوب والانطفاء “إننا فقراء وقت ومرضى وقت.. أهملنا أصدقاءنا وعائلاتنا وشركاءنا.. نحن بالكاد نعرف كيف نتمتع بالأمور، لأننا نتطلع دائما إلى الأمور التي تليها”.
حركة البطء التي يبشر بها الكتاب ليس لديها مقر مركزي، أو حتى موقع على شبكة الانترنت، ولا زعيم محدد، ولا حزب سياسي يحمل رسالتها، لكن في الوقت نفسه، يقرر كثير من الناس أن يتبعوا أفكارها وأن يبطئوا من دون حتى أن يشعروا أنهم جزء من اتجاه ثقافي معين “المهم أن ثمة أقلية متزايدة تفضل الإبطاء عن السرعة، وكلما أقدم شخص على فعل إبطاء منح حركة البطء دفعة جديدة”.
يستعرض الكتاب عبر فصوله العشرة نماذج من هذه الحركات الداعية إلى البطء، مثل حركة “الطعام البطيء” التي تركز في جانب واحد من الحياة هو الطعام الصحي، في حين تقدم جماعات أخرى الأسباب الداعمة لفلسفة البطء، ومن بينها “نادي الكسل” في اليابان، و”مؤسسة لونغ ناو” في الولايات المتحدة، و”جمعية إبطاء الزمن” في أوروبا، وحتى حركة “الجنس البطيء” التي تكافح العجلة في غرف النوم، وحركة “التعليم البطيء” في الولايات المتحدة، ووصولا إلى “المدن البطيئة” حيث تسعى أكثر من ستين مدينة إيطالية وخارجها إلى تحويل نفسها إلى واحة للهدوء والسكينة.
وعلى عكس ما توحي به الأسماء فإن “حركة بطء” لا تعني فعل كل شيء بإيقاع السلحفاة، كما أنها ليست محاولة تدميرية لإعادة الكوكب إلى نوع من يوتوبيا العصر قبل الصناعي، بل على العكس من ذلك، فإن هذه الحركات تتألف من أشخاص عاديين، فقط يريدون عيش حياة أفضل، لهذا يلخص أونوريه فلسفة البطء بكلمة واحدة: التوازن “أسرع عندما يكون من المنطقي أن تسرع، وأبطأ عندما يكون هناك داع للبطء. التمس حياة ضمن ما يسميه الموسيقيون “التمبو غوستو” أي الإيقاع الصحيح”.
يؤكد الكتاب أن تلك الفلسفة البسيطة جدا تحقق انتصارات في العديد من المجالات. ففي أماكن العمل، يضغط ملايين البشر، وينجحون، من أجل تحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة. وفي غرف النوم، يكتشف الناس متعة الجنس البطيء، من خلال طقوس “التانترا” وغيرها من أشكال الإبطاء الجنسي.
لكن هل حركة بطء تصلح لتقود ثورة في العالم؟ إنها حسب الكتاب تملك جميع المقومات التي يبحث عنها الأكاديميون، من تعاطف جماهيري، ومخططات لطريقة حياة جديدة، وعمل شعبي. وصحيح إنه ليس لها هيكل رسمي، وأن الكثيرين لم يسمعوا بها، لكن كثيرين أيضا يطبقون أفكارها دون أن يعرفوها، ووفق فكر الحركة “فإن كل تصرف ينطوي على الإبطاء يضيف إلى قوة الحركة”.
الغريب إن دعاوى السرعة جاءت بعد أن ظن الإنسان أنه اقترب من عصور البطء والاسترخاء في العمل! وكان بنجامين فرانكلين من أوائل من تصور العالم مكانا مكرسا للراحة والاسترخاء. ألهمته في ذلك الطفرة التكنولوجية التي صاحبت أواخر القرن الثامن عشر، فتنبأ بأن الناس بعد الضغط الكبير الذي عاشوه حتى وصلوا لهذه الطفرة لن يضطروا قريبا إلى العمل أكثر من أربع ساعات في الأسبوع، بيد أن القرن التاسع عشر جعل تلك النبوءة تبدو مجرد “سذاجة حمقاء” ففي المصانع المظلمة التي نشأت مع الثورة الصناعية كان الرجال والنساء وحتى الأطفال يكدون خمس عشرة ساعة في اليوم، ورغم ذلك استمر حلم الاستجمام بلا حدود في القرن العشرين “توقع البعض أن تمنحنا الروبوتات وأجهزة الكمبيوتر مزيدا من أوقات الفراغ التي لا نعرف ما نفعله بها” ومجددا تثبت الأيام سذاجة هذه الأفكار، فتزيد عدد ساعات العمل، وتزيد الضغوط، بل إن بعض الدراسات تؤكد أن الأميركيين اليوم يعملون أكثر مما كانوا يعملون في سنة 1980.
ما الذي حل بحقبه الاسترخاء إذن؟ ولماذا ما زال الكثير منا يعمل بكد؟ يسأل أونوريه ويجيب: أحد الأسباب هو المال، فالكل يحتاج إلى كسب لقمة العيش، لكن هذا ليس السبب الرئيسي، فالمأساة كلها تنحصر في نهمنا الدائم للسلع الاستهلاكية، والذي يعني ببساطة أننا بحاجة إلى المزيد والمزيد من الأموال، لذا بدلا من أخذ مكاسب الإنتاجية على شكل مزيد من وقت الراحة، صرنا نتقاضاها بمثابة زيادة في الدخل.
مجددا نعود لأفكار باومان الذي أكد إننا نعيش اليوم في مجتمع معولم من المستهلكين، وبالتالي يؤثر هذا السلوك الاستهلاكي في كل وجوه حياتنا الأخرى، العمل والأسرة والحياة بشكل عام “كلنا اليوم تحت ضغط أن نستهلك أكثر، وعلى الطريق نصير أنفسنا سلعا في أسواق الاستهلاك والعمل”.
(*)”في مديح البطء.. حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة” لكارل أونوريه، صدر مؤخرا ضمن مشروع “كلمة”، وترجمة: ماهر الجنيدي.
المدن