في مديح الثرثرة: دمشقُ الشوقُ والهذيان/ نائلة منصور ونبراس شحيّد
عن اسمها المستعار وعن صديقةٍ ضاعت في محارة
ينظر إلى زاوية المكتب. يلمح مجدداً تلك المحارة، أهدتها إليه صديقةٌ أسرفت في التماهي مع المسافة، فتبتلعه ذكرى. حوّل المحارة إلى منفضة سجائر كي يختلط طعم التبغ بصوت الموج قادماً من رحم الصَّدَفة، ويشعر بدوار البحر. يهدأ قليلاً ليعود إلى القصيدة التي كان يقرأها، مهداةً إلى صديقٍ انتحر في شوارع كوباني: “كان ممكناً أن نغنّي معاً/ كان ممكناً أن نستدين ثمن الويكسي معاً/ … كان ممكناً أن ندخّن معاً/ وتلفّ لي السجائر الرخيصة بأصابعك الثمينة جداً/ … أيها الصبيُّ الذي لم يتجاوز الأربعين/ كان هذا كله ممكناً/ لولا شجاعتك الزائدة طبعاً/ يا زعيم كندَّش” (جوان سوز)! يغمض عينيه… هو الشوق حين يغرق البحر في صَدَفة!
“الشوق والاشتياق: نزاع النفس إلى الشيء، والجمع أشواق (وأشواك!)”.
من هي هذه المرأة التي أثرثر معها في هذه السطور؟ لا أعرف منها إلا اسمها المستعار: نائلة! أتصورها سمراء ومهمِلة. لها صوتٌ ساخرٌ على ما اعتقد، جورباها ممزقان، نظراتها مالحة، وتفيض حناناً إلى شيءٍ تجهله. نائلة المجهولة، صديقةٌ افتراضية في عالمٍ حقيقي، فيه يولد أناسٌ، يتناسلون ويموتون في أقبيةٍ مظلمة، تحت البراميل، أو ذبحاً داعشيّ الهوى! نائلة الغريبة، غائبةٌ كما (يبدو) الله في جلجثة، حاضرةٌ افتراضياً كما الوطن! وماذا يعني أن يكتب رجلٌ نصاً عن الشوق مع امرأةٍ لا يعرف حتى اسمها؟! يبدو أننا نحب الشوق أكثر من المشتاق إليه، فالمشتاق إليه في أحسن الأحوال مضافٌ إلى! والنص عن الشوق لعبة، تضيع فيه الأسماء الحقيقية، ليستمر النص أثراً من دون مؤثّر!
“ولم نثرثر؟”، تسألني الغريبة. لقد ختمنا كل ما أردنا قوله منذ المقال الثالث أو الرابع! “تُفتتحُ الثرثرة إذاً ابتداءً من المقال الخامس لكي لا نحترف الصمت”، أجيب وأبربر. بربربربربر… الصداقة مديحُ ثرثرةٍ ضرورية تحرسنا من نسيان أصواتنا، وصوتُ الموج قادماً من رحم المحارة يعلو ومعه الدوار. الثرثرة “ظاهرة موجبة تشكل نمط كينونة الفهم والتفسير اللذين يخصان الموجود-هنا في شأنه اليومي”، يثرثر فيلسوف في حجم مارتن هايدغر!
دون كيشوت، بروميثيوس، وراقصة الفالس
من هو هذا الرجل الذي أثرثر معه في هذه السطور؟ صديقٌ افتراضي تائهٌ في كتاب صلواته، أم زئبقٌ ممتنع عن الامتلاك تعريفاً؟ غريبٌ له أسرار مقدسة لا يمكنني الولوج في ثناياها رغم فضولي؟
الامتلاك؟ “عزيزتي أنتِ خير من يعرف أن الامتلاك والاكتناز ليسا إلا تجلياً وهمياً لقرب الأشياء”. تقترب الأشياء منا فنظنها ملكنا، وحسبنا الهذيان! لا آبه. كل تلك الكلمات، كلمات الرجل الغريب، ملكي وسأبتلعها وتصبح مني. حبٌّ كانيبالي. لا يمكن لحكيم ألا يكون لي، دون كيشوت مخيم اليرموك الأخير لي. يصحح أخطائي: “ضمائر الرفع لا يتم توكيدها يا عزيزتي!” لا أكترث. أريد، أنا، أن أبتلعك، أنت، لتنمو في داخلي قبل الاندثار الأخير. قبل الطلقة الأخيرة في ظهرك التي نتوقعها جميعاً. قبل أن يتم المحتوم وتغدر بك ثورتك. سينمو نبلٌ أثيري، أمل وشجاعة وحزن ويتم… في داخلي أنا… ياخيّا. وسأُدخل سعاد وفراس إلى شراييني قسراً، هما العصيّان على أيّ قسر! منمنماتٌ منهما تتهادى في دمي. فراس الذي أطلقت عليه يوماً اسم بروميثيوس ولم يبال بتسميتي التي تخفي ميلاً إلى التملك، فالتسمية ملكية، وهو يخرق الأقفاص. سعاد المتهادية، تتساقط وراءها القذائف على بعد سنتيمترات وتتابع كأنها ترقص الفالس. يكاد ينقطع خصرها، وتتهاوى ساقاها المستدقتان. يرتجف ذقنها وكأنها دائماً على وشك البكاء، لكنها أقوى منا جميعاً! في معتقلها أقوى، وفي مخيلتها أقوى! وطن سعاد أقوى، سأحقنها في شراييني لأصبح أقوى، بها، وبوطنها… هل أهذي التملك مرة أخرى؟
أرسطو والمرأة التي قالت لك “اتبعني!”
يحدث يوماً أن تكون حزيناً، تشتهي البكاء بعد مقتل أجمل من تحب من دون أن تجد إلى دموعك طريقاً. امرأةٌ مجهولةٌ تقترب منك، أنت البريّ ذو القميص المتسخ. امرأةٌ كنتَ قد التقيتَها مصادفةً في محاضرة ما، يوماً ما، من دون أن تكلمها. تقترب الغريبة لتسألك سؤالها الأوحد: “ما اسم حزنك؟” يفتنك السؤال (سؤالٌ لم يسألك إياه أعزّ أقربائك)، والفتنة -أعزّك الله- “ابتلاء وامتحان واختبار”، والفتنة أيضاً “إعجابك بالأمر”! يريحك صفاء العينين ويقلقك اللاشيء الكامن فيهما، فتخبرها كل شيءٍ دفعةً واحدةً لترتاح: “سوريا”! “اسم حزني سوريا”! ويحدث أن تسرَّ إلى الغريبة أقدس ما عندك، شيئاً سيودعك السجن سنواتٍ طوالاً إن عرف الآخرون بأمرك! ويحدث أيضاً أن تهدي إليك الغريبةُ قصيدةً قصيرة: “عزيزي الحزين، أرجوك اتبعني لأريك العالم!” تنتهي القصيدة في سطرها الثاني، لتتعقب (أنتَ) المرأةَ في برزخ غيابها، وتغوص في لزوجة اللامحدّد والوداع المتمرّد على النهايات.
“في عالم الطغاة، لا مكان للعدالة، ولا مكان للصداقة أيضاً!”. ينصب الطاغية أرجل عرشه على حطام صداقاتنا! أي حكمةٍ هذه يا أرسطو العجوز؟! لم يبقَ لنا الكثير من أحلام ثوراتنا أو رمادها! لم يبقَ إلا صداقاتنا مع أمواتٍ ما زلنا نخاطبهم ونحتفظ بآخر رسائلهم. لم يبقَ إلا صداقاتنا مع أحياء غابوا، غالبيتهم، أو مع مجهولين نقاسمهم أوطاننا الافتراضية. وطنٌ من صداقاتٍ، هذا هو سلاحنا الأخير وهذا كان سلاحنا الأوّل! علاء، فادي، محمد، ماري، ميس، معن، مايا، ديمة، بطرس، ضحى، رامي، دنيا، لواء، نسرين، أحمد، يارا، رند، كرمة، ريم، هاني، رزان، باسل، أمل، داني، فرانس …إلخ وأبو أسعد! ينثرون دمشقهم في “ليلٍ أبيض”، قال بعض الأنبياء!
صورٌ فوتوغرافية قبل الغروب
غزل الطارئة على حياتي مثل الثورة، مثل الحلم، سيلٌ جارفٌ، تبتلع الحياة ولا يمكن الإطباق عليها. تنوس روحي مثل رقّاص ساعةٍ قديمةٍ أمام ريحها “الزخمة”. لم تعد أوصالي تحتمل أرياحا أخرى! عجوزٌ تعبةٌ أنا/ لا تقوى حتى على التعرق، تؤثر الركون إلى زاويةٍ صغيرةٍ من هذا العالم المزلزل. عجوزٌ تكتنز الصور والأشخاص، تتمثل يخضورهم، من شمسهم، كي تقنع نفسها أنها هنا… ولم أعد أحتمل غضب ريم الذي ورثته عن جدها آكل الزجاج، الرجل الذي كان يلتهم شظايا كؤوس العرق عقاباً لنفسه لأنه غادر فلسطينه دون رجعة. بقيت حفيدته غاضبة من كل شيء، في خذلان أزليّ من البشر… لا طاقة بي على كل هذا، على غضبها وخذلانها، ولكني سألتقطها صورة فوتوغرافية وأدخلها فيّ. الصور الفوتوغرافية كانيبالية كذلك؟ القط! ثبّت! واحفظ، اكتنز! أبو صقّار أنا؟ أكل الأكباد؟
تخيلات الرجل الغريب أجبرتني على الثرثرة هنا حين حدّثني عن حنان نائلة الدافق نحو شيءٍ مجهول. هو توقٌ محمومٌ إلى شيءٍ لم يأت، لم أتحسسه بأصابعي بعد، أشبعه بالأصدقاء، أدخلهم وطناً إلى قلبي قبل أن يندثروا غياباً أو موتاً أو أموت أنا، مع توكيد ضمير الرفع الباحث أبداً عن هويته.
النهار