صفحات الرأي

في مديح الثورات العربية/ كريم مروة

لست مداحاً، والمدح ليس من طبعي ولا من طبيعتي.  لكنني إستعرت لغة المدح والمديح لكي أدافع عن ثوراتنا العربية المعاصرة وعن الدور التاريخي الذي إضطلعت وتضطلع به.  وهو دفاع عن الثورات ضد هلوسات المشككين، الدائمي التشكيك في كل ما يتصل بحركات التغيير.  وهو دفاع ضد بعض من حاولوا ويحاولون الاستيلاء على أهدافها من الداخل والخارج.  وهو دفاع يتخذ طابع الشرح والتوضيح للبسطاء والخبثاء في آن الذين يتصورون أو يحبون أن يتصوروا أن مجرد إعلان الثورة هنا أو هناك أو هنالك يقود تلقائياً إلى تحقيق كامل أهدافها. 

لقد كتبت الكثير في الصحف والمجلات، وألقيت العديد من المحاضرات وشاركت في العديد من الندوات في أكثر من بلد عربي وفي الخارج.  وأعلنت فيها جميعها بأعلى الصوت أن ثوراتنا العربية المعاصرة إنما تستكمل اليوم ما سبقها من ثورات وإنتفاضات وحركات إحتجاج على إمتداد القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين.  لكنها تستكمل تلك الحركات جميعها في شروط تاريخية مختلفة بالكامل وفي صيغ مختلفة بالكامل عن الصيغ التي ميّزت الثورات والحركات والانتفاضات السابقة القديمة منها والحديثة.  وتعبّر عن هذا الاختلاف في الشروط التاريخية الجديدة تلك التحولات الكبرى في إتجاهاتها المتناقضة التي شهدها ويشهدها عصر ما بعد إنهيار التجربة الاشتراكية.  ويعبّر عن هذا الاختلاف أيضاً دخول العولمة الرأسمالية في أزمتها العميقة غير المسبوقة، وبلوغ التدمير الذي مارسته أنظمة الاستبداد في بلداننا حدوده القصوى، وتراجع حركات اليسار ووقوعها في التهميش أو يشبهه وخسارتها مواقعها السابقة، ودخول حركات سلفية تكفيرية متعددة صيغها وأساليب ممارستها للعسف في السباق مع الزمن مارست فيه التدمير المادي والروحي في ما يذكرنا بعهود بربرية قديمة.

في هذه الشروط التاريخية بالذات إنطلقت ثوراتنا المجيدة وتابعت سيرها بشجاعة نادرة معلنة قرارها الحاسم بأن لا عودة بعد اليوم إلى أزمنة القهر والاستبداد والتكفير والقتل على الهوية وسوى ذلك مما يتناقض ويتعارض مع الحقوق الأساسية للانسان، الحقوق التي تؤكد في جوهرها أن الانسان هو القيمة المطلقة في الوجود وأن كل نضال من أجل التغيير إنما يرمي في أول المطاف وفي آخره إلى جعل حقوق الانسان هذه تسلك طريقها إلى التحقق في الدساتير وفي القوانين وفي كل ما يتصل في شؤون الحياة العامة في الأوطان.

إلا أن ثمة إختلافاً آخر ميّز الثورات الجديدة بعضه إيجابي وبعضه سلبي، بعضه يصب في صالح تطور الثورات في إتجاه تحقيق أهدافها وبعضه يساهم في إضعاف إنطلاقتها.  يتمثل الايجابي في هذا الاختلاف في أن ثوراتنا المعاصرة لم تقم بدعوة من حزب أو من قائد تاريخي.  بل هي قامت بدور أساسي حاسم للشباب دفاعاً عن حقهم في الحرية والعيش الكريم تحت شعار إسقاط أنظمة الاستبداد بصيغها المختلفة وإسقاط رموزها البشعة العائلية والعسكرية والطائفية.  أما السلبي المشار إليه، المطلق والنسبي، فيتمثل في طغيان العفوية في الثورات، العفوية التي عبّر عنها غياب برامج ومهمات ملموسة موزعة على مراحل.  كما عبّر عنها في الآن ذاته ما ساد في بعض شعارات الثورات ما يشبه الشعبوية التي عرفتها الكثير من الحركات والثورات في القرنين التاسع عشر والعشرين.  وهذا الجانب السلبي هو الذي هيّأ الشروط لإنقضاض بعض الحركات السلفية بصيغها المختلفة هنا وهناك وهنالك على الثورات من أجل الاستيلاء على ما حققته من إنجازات في محاولة لتغيير سيرها في الاتجاه النقيض لأهدافها.  وهو ما شهدنا نماذج منه في مصر وتونس في صيغة تخص البلدين، وما شهدناه ونشهده في صيغ مختلفة في كل من ليبيا واليمن وسوريا في شكل أكثر تحديداً.

لقد إسترسلت في وصف الشروط التي قامت فيها ثوراتنا المعاصرة لأقول بأن الكفاح من أجل التغيير بإتجاه الأفضل والأرقى والأكثر تقدماً وحرية في حركة التاريخ لا يتم إلا في الشروط الموضوعية والذاتية المتوفرة، ولا يتم خارج هذه الشروط.  ولإثبات فكرتي هذه أصدرت بوحي من إنطلاق ثوراتنا كتاباً من جزئين عن ثورات القرن العشرين دخلت فيه في تفاصيل شروط قيام كل ثورة وصولاً إلى النهايات التي إختلفت عن البدايات وقادت تلك الثورات جميعها إلى الفشل، وفي مقدمتها ثورة كل العصور الثورة الاشتراكية.  وقد أردت من هذا التذكير في ثورات القرن العشرين أن أقول لأجيال ثوراتنا المعاصرة، لا سيما الشباب، بان عليهم أن يقرأوا التجارب السابقة على تجربتهم، أن يقرأوها بدقة، لكي يتعلموا ويستخلصوا الدروس المفيدة لثوراتهم.  لكنني أعرف من خلال قراءتي لأحداث التاريخ، قديمها وحديثها، أن أحداً لم يتعلم من تجارب أحد، بل حتى من تجاربه هو بالذات.  لذلك فكل من لم يتعلم من التجارب يدفع عدم تعلمه.  يهمني في ضوء ما تقدّم أن أعلن أن ثوراتنا المعاصرة برغم كل ما رافقها وما يرافقها من صعوبات وتعقيدات ومن محاولات من الداخل ومن الخارج، لا سيما من الخارج، للتدخل في هذه الثورات أو في بعضها للتحكم بمسارها، أعلن بحزم أن ثوراتنا المجيدة قد فتحت الطريق والأبواب أمام تاريخ جديد للبلدان العربية، تاريخ غير مسبوق.  ولن تستطيع القوى الخارجية، نعم الخارجية، ولا قوى النظام القديم بصيغه المختلفة، ولا الحركات السلفية بأنواعها المختلفة، لن تستطيع أي من هذه القوى أن تمنع إستمرار الثورات بالسير في الاتجاه الذي سلكته منذ البدايات.  ولن أستعجل في شكل متعسف كما يفعل البعض لتحديد الزمان الذي ستتمكن فيه ثوراتنا من تحقيق كل أو بعض ما قامت من أجله.  لكنني أجزم بأن ما أرسته وما بدأ ينضج في داخل صفوفها، في أوساط الشباب على وجه التحديد، من وعي يرتقي على الدوام لن تكون هناك عودة إلى الوراء.  وإذا ما بدا في لحظة ما أن ثمة عودة ما إلى الوراء أو ما يشبهها فهو لن يكون سوى إستراحة المحارب التي تسبق الهجوم من جديد في الاتجاه الصحيح نحو الهدف الصحيح.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى