في مديح الكلام القليل
عاصم الباشا
يقولون عن البسيط في الفن أنه السهل الممتنع، وكأنما التعقيد هو الصعب المتيسّر!
ذلك أنني أرى العكس تمامًا، فبلوغ البساطة هو أصعب مطمح يواجهه الصانع، لذا فالبسيط هو الصعب الممتنع والمعقّد هو السهل المتيسّر بحق فيما يسمى مجال الإبداع. وأذكر هنا ما قاله العملاق الياباني هوكوساي عندما بلغ الثامنة والتسعين من عمره: ” الآن أستطيع القول أنني قادر على رسم زهرة.. لكن الوقت المتبقّى قليل”.
***
أزداد مع الزمن اقتناعًا بالثروة التي يمثّلها الشرق الأقصى في ما يتعلّق بماهية الإبداع، وراحت تنزاح عن النفس وطأة الغرب و “نهضته”، فأحزن على الوقت الضائع ومن أن الطريق التي سلكتها لم تكن دومًا بالإتجاه القويم. لأننا نتبع ما يمليه المهيمن، أكانت سلطة أم فكرًا، عصا أو تأريخًا يغلب عليه الزيف بالضرورة.
كنت دومًا، في ما يتعلّق بالمطالعة (ربما بسبب النزق في طبعي أو لإدراكي المبكّر بأن الزمن المتيسّر قصير) غير ميّال للكتب السميكة، لشعور عندي قديم بأن الحشو والثرثرة من أدوات العاجز. تبيّن لي في ما بعد، وبفضل التوغّل النزواتي في محاولات كتابية متواضعة، أن كتابة الرواية أسهل من سبك قصة قصيرة موفّقة.
يراودني هنا ما حدث لإثنين من المبدعين السوفييت عندما تقدّما لامتحان القبول في معهد السينما (فغيك) في موسكو، وكان رئيس لجنة الامتحان المخرج سيرغي غيراسيموف: أخفق كلاهما في تلك المحاولة وجاء في تقرير اللجنة أن الأول مرفوض لأنه يعرف أكثر من اللزوم!، وكان ذاك العملاق أندري تاركوفسكي، ورفضت اللجنة الثاني لأنه لا يعرف شيئًا! كان الثاني القاص والممثّل والمخرج المتميّز فاسيلي شوكشين، والطريف هو ما حدث لشوكشين في الامتحان إذ سُئل عن “الحرب والسلم”، فأجاب: أهو ذلك الكتاب السميك؟ أومأ أحد أعضاء اللجنة المندهشة برأسه موافقًا فقال شوكشين: أنا لا أقرأ الكتب السميكة، لأن الوقت قصير.
كلاهما غيّبهما الموت باكرًا.
***
أستعين هنا بالمقولة الصينية الرائعة: “إذا لم تكن قادرًا على طرح فكرتك بإثنتي عشر كلمة فمن المستحسن أن تصمت”.
لذا بتّ أميل للهايكو وأشيح النظر عن “الشعر” الذي يسترسل إلى ما لا نهاية (بعض القصائد تشغل ديوانًا برمته!). لعل قطعة هايكو أقرب عندي إلى الحقيقة من ملحمة مطوّلة. وخطّ أو لطخة تتوضّعان في المكان المناسب خير من عشرات أو مئات تسعى لشغل ذلك المكان.. أو الإيحاء بذلك.
لعلّ ميكلانجلو أدرك ذلك بإبداعه “غير المنتهي”، لأنه يحوّم حول هذه الغاية.
لا بد لنا من تقدير لحظة الصمت التي تتوسط نوتات قطعة موسيقية، فلولاها ستسقط المقطوعة حتمًا. ولن ندرك متعة النور من دون تقدير عميق للظلّ والعتمة. أذكر هنا رائعة خونيشيرو تانيزاكي البسيطة: “مديح الظلّ”.
الإنزلاق نحو الخطأ أمر سهل ومتاح للجميع، بخاصة للشباب، فأنت ترى كيف يحاول المرء في أعماله الأولى، أكان هذا فيلمًا أو رواية، الخ.. دلق كلّ ما في نفسه وكأنها الفرصة الأخيرة للبوح! أو ليقول أن لديه الكثير.
يحدث هذا عند الجميع، لكن الخبرة تساعد على معالجة الخلل الحاصل، ومن هنا أهمية معرفة لحظة التوقف عندما تتصدّى لعمل إبداعي. ولعلّ لحظات تشذيب العمل هي الأسمى في العملية الإبداعية.
أنجز النحّات رودان العديد من المنحوتات بحثًا عن أونوريه بلزاك، لكن أكثرها توفيقًا، حسب رأيي، وعلمًا أنه ليس من النحاتين المفضّلين لديّ، ذلك الذي ينتصب في باريس، في بولفار راسباي عند تقاطعه مع مونبارناس.
كان بلزاك بدينًا، كبير الرأس، وكان يقضي معظم وقته مرتديًا ما يعرف بالفرنسية ب “روب دي شامبر”. هكذا نحته رودان، واقفًا، تعلو الكتلة الضخمة رأس مهولة وتتقدّم بطنه يدان معبّرتان. أدرك رودان الخلل في التكوين: ثمة مركزان للعمل، الرأس واليدان، كلاهما يجذبان النظر بالتساوي ويشتّتان قوة العمل.
أن يحذف الرأس ويقدّم الجسد الضخم واليدين على أنه تمثيله لبلزاك موقف سابق لعصر وقدرات رودان، الذي كان محدودًا، في رأيي، في ما يخصّ مغامرة التجديد. لذا حذف اليدين وتماسك العمل.
لعله أفضل أعماله.
ثمة مثل شعبي إسباني يقال عندما يشار إلى ثرثار أو من يكثر من الكلام: “إنه يتكلّم أكثر من المفقود بعد إيجاده”.
***
من لا يتوه قد يجد نفسه.. فيقتضب، أو يصمت.
اللعنة! لقد تجاوزت الكلمات الإثنتي عشر!
ذلك لأنني عاجز آخر.
لكنني سأستطرد، ما دمت قد أخطأت: مراسلات خلافية مع صديق سابق جعلتني في الصيف الماضي أستعين بالذاكرة فكتبت ما يقارب الأربعين صفحة حول ذكريات الطفولة واليفاعة فبداية الشباب (لحوالي العشرين من العمر) ومن دون غاية أدبية، مجرّد استرسال لما أملته الذاكرة، فعلّق ابني باسم، لأنه يعرفني، قائلاً: أن تتذكّر لا يعني بالضرورة ملء المكتبات!
شعرت بالغبطة من تعليقه وفكّرت: هاأنذا أنجبت ابنًا يفكّر!
وكيف لا وهو الذي كتب يومًا: التمرّد يبدأ في القدمين.
لأنه يعرفني، مرة أخرى.
المدن