في مراجعة السنوات السورية الست/ راتب شعبو
للتأمل في السنوات الست المنصرمة التي احتوت مفاعيل ثورة سورية محطمة وتبعاتها، ينبغي النظر في مستويين متمايزين من النشاط. الأول، وهو المستوى السياسي بحصر المعنى، مستوى القيادة المباشرة المتعلق بتحديد المواقف، واتخاذ القرارات، وشبك العلاقات السياسية، والتفاوض ..إلخ، وهو المستوى الذي تولته هيئاتٌ متعدّدة، كان أبرزها المجلس الوطني (تشكل بعد ستة أشهر من بداية الثورة)، ثم الائتلاف الوطني والهيئة العليا للمفاوضات. والحق أن بروز الهيئات المذكورة لا يعود إلى صلةٍ أقوى بالثورة، بقدر ما يعود إلى الاعتراف الخارجي بها. المرض الأساسي الذي شلّ فاعلية المستوى السياسي هذا، هو انفكاك مؤسساته عن الداخل، ما جعل “مشروعيّتها” مستمدةً من الخارج. هذا جزءٌ أساسي، ولعله الأساسي، في الخلل الذي تفاقم أكثر مع ظهور ما سميت (المناطق المحرّرة) من دون أن يكون لهذه المؤسسات موطئ قدم فيها، ما زاد في ضعفها المعنوي، وتحوّلها، أكثر فأكثر، إلى هياكل مسحوبة القيمة وهامشية. وتلمس من أحاديث من تسلموا مناصب قيادية في هذه المؤسسات مدى تقديرهم الاهتمام البروتوكولي الذي تلقوه من هذا الوزير أو ذاك، أو للعناية الشخصية التي خصّهم بها هذا المسؤول الخارجي أو ذاك. يعكس هذا ضعفاً معنوياً، ليس مردّه حداثة العهد بالمسؤولية، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، بل إلى الشعور بانعدام القيمة السياسية الناجم بالتحديد عن وهن الصلة بالداخل وشعور هؤلاء بأن قيمتهم تأتي من خارج سورية، وليس من داخلها.
إلى ذلك، لم تعمل المؤسسات السياسية على حل مشكلتها المالية، إنْ عبر تشكيل صندوق وطني
“لا يمر القبول بجبهة النصرة ونسبها إلى قوى التحرّر من دون أثر في الوعي السوري العام” أو إمكانية التمويل الذاتي من (المناطق المحرّرة) أو ضغط النفقات وترشيق الهيئات ..إلخ، بحيث تحقق استقلالاً مالياً يسند الاستقلال السياسي. بقيت تابعة مالياً، وعرضة للابتزاز السياسي المالي، وللفساد المالي في غياب آلية مؤسساتية ورقابة مالية موثوقة، ما راكم في الوعي العام صورةً لا تصلح لمؤسسات بديلة.
لم تكن هذه القصورات مجتمعةً معزولةً عن التركيبة الداخلية للمؤسسات السياسية المذكورة، فغلبة الإسلاميين لم تكن في صالح “العمومية السورية” التي كان ينبغي أن تحميها، كما لم تثبت المجموعة الديموقراطية العلمانية داخل هذه التركيبة فاعليةً مستقلةً، تضع في منظورها أن تعكس، ضمن هذه المؤسسات، ثقل الطموح الديموقراطي السوري. وبالتأكيد، لم يكن هذا التعثر العام منفصلاً عن قصورٍ في التصورات السياسية، نال ما يستحقه من النقد: التعويل شبه التام على الخارج، الاستسلام أمام الشطط العسكري العصبوي والإجرامي، التراخي مع تفشّي التعبئة الطائفية على ضفة الثورة، القبول بدخول تنظيمات القاعدة على خط الثورة ..إلخ.
على هذا، سعت مؤسسات المعارضة أن تجمع ما لا يُجمع، أن تجمع الاستناد إلى القوى العسكرية الإسلامية، بوصفها القوى المواجهة للنظام في الداخل، والاستناد إلى الدول الخارجية التي تبدي تحفظاً أو رفضاً صريحاً لهذه القوى من جهةٍ أخرى.
كل هذا ينبغي النظر إليه باعتباره خللاً مؤسساتياً وليس فردياً. بمعنى أن الإخفاق ليس حصيلة أخطاء أفرادٍ فشلوا في أدوارهم، بل حصيلة بنية مؤسسية نشأت معتمدة على الخارج، وفاقدة السيطرة على الداخل الثائر، وهذه البنية تحدد فاعلية الفرد، مهما علا منصبه. تحميل الفشل العام لأفراد يغطي في الواقع على أصل المشكلة. من دون أن يعني هذا رفع المسؤولية بالكامل عن الأفراد الذين كان عليهم، على الأقل، مصارحة شعبهم “بالورطة” التي وجدوا أنفسهم فيها، بدلاً من السوق مع السوق، وتبني خطاب الداعمين، وربما، عند بعضهم، التركيز على المكاسب الشخصية التي وفرتها لهم “الأقدار”.
يمكن القول إن الطغيان العسكري غطّى على أهمية المواقف السياسية، بمعنى أن الكلمة باتت للقوة، وليس لأي صوابيةٍ سياسية ممكنة. ولكن، ينبغي، أمام هذا التأكيد العام، أن نلاحظ أولاً أن الأداء السياسي المتعثر ليس بلا تأثيرٍ في تقوية الجبهة القتالية نفسها أو إضعافها. وثانياً أن الموقف السياسي، حتى لو فقد فاعليته المباشرة أمام الطغيان العسكري، فإنه يراكم في الوعي العام، ومن خلف ظهر العسكرة، تقديراً لصالح صاحبه أو ضده. وهذا التأثير أو المراكمة أمر في غاية الأهمية، عندما ننظر إلى اللوحة بشمولية ومستقبلية.
لا يمر، مثلاً، القبول بجبهة النصرة ونسبها إلى قوى التحرّر في سورية، من دون أثر في الوعي السوري العام، ذلك بصرف النظر عن المآل العسكري للصراع. تقتضي المراجعة تلمّس هذا الخلل المتكرّر في الميدان السوري، والتأمل فيه بمسؤولية.
يقود هذا إلى الحديث عن المستوى الثاني من النشاط في الثورة، وهو الذي يعمل على التأثير
“الطغيان العسكري غطّى على أهمية المواقف السياسية، بمعنى أن الكلمة باتت للقوة، وليس لأي صوابيةٍ سياسية ممكنة” في الوعي. والذي تولاه كتاب ومحاورون وإعلاميون وفيسبوكيون ..إلخ، وحاولوا، بحسن نية، دعم الثورة. ولكن، بسببٍ من الاستسهال ربما، لم يفلحوا في حماية قيمة الثورة وجاذبيتها في الوعي العام. وهو ما يشكّل خسارةً كبرى، تزيد ربما عن الخسارة السياسية والعسكرية.
في هذا المستوى، تغيب الهرمية المؤسسية، لتحل مكانها ظاهرة الأقطاب والشلل، وهذه تقوم على اعتباراتٍ ضيقة وتعالٍ فقير. وقد شكل “فيسبوك” الميدان الأنسب لهذه الظاهرة. سهولة الحصول على منبر واتساع دائرة “المتواصلين” أعطيا لهذه الوسيلة دوراً لم يكن متخيلاً من قبل. والحق أن من السمات التي برزت في هذا المستوى ضعف الشعور بالمسؤولية. وسائل التواصل الاجتماعي تحضر لأول مرة في الثورات، وهذه تجربة جديدة ومجال غير مختبر، فقد توفر لكل فرد منبر عام سهل، أو جريدة شخصية، من دون أن يرافق هذه القدرة، المتاحة فجأة، ما يكفي من الثقافة والمتابعة والموضوعية والشعور بمسؤولية المنبر.
في الحالة السورية، تحولت هذه الوسيلة إلى ميدان للتنافر والصد أكثر منها للحوار وصياغة الأرضيات المشتركة. تكرّس، في هذا المجال، الابتعاد عن المعنى الإنساني للثورة، حين ارتبط التعاطف الإنساني بالموقف السياسي، وقاد هذا إلى فتح المجال أمام المفاضلة بين جرائم. اتسع هذا الشرخ الأخلاقي كثيراً مع الوقت؛ وقاد، مشفوعاً بازدهار لغةٍ وتحليلات طائفية، وبسيادة نفس استعلائي مشبع باليقين، إلى تحطيم فكرة الثورة في وعي العامة، حين ظهرت في مؤسساتها، وفي “وعي” جمهورها، كما لو أنها تحارب نظاماً مستبداً من دون أن تتميز عنه.
العربي الجديد