في مغزى انبعاث الاحتجاجات السورية/ ياسين الحاج صالح
للتجمعات الاحتجاجية التي ظهرت في عشرات البؤر الخارجة عن سيطرة النظام في النصف الأول من آذار (مارس) أهمية خاصة من أكثر من وجه. أولها أنها تستعيد مقصد الثورة الأصلي الذي يجمع بين إرادة إسقاط النظام وبين مبادرة جمهور شعبي إلى امتلاك السياسة والفضاء العام مباشرة، وثانيها ما تحمله من رسالة في اتجاهات متعددة من أنه، إذا توقفت حرب الأسديين وداعميهم فإن التفضيل العام للثائرين هو الاحتجاج السلمي، وهذا بعد خمس سنوات من الحرب الأسدية، وبعد سقوط نحو نصف مليون ضحية، وخروج ما يقترب من ربع السكان لاجئين خارج البلد، ودمار بلا حدود. لكن قد تكون الرسالة الأهم هي الاحتجاج الضمني (في البداية) على المجموعات السلفية عبر رفع علم الثورة حصراً، وهو الشيء الذي أدركته فورا «جبهة النصرة»، فاضطلع عناصرها بالضبط بدور المخابرات والشبيحة حيال مظاهرات الطور السلمي من الثورة. في الأسبوع الأول رفع النُصرويّون راياتهم السوداء (المعادل القاعدي لصور بشار الأسد)، وهتفوا ضد الديمقراطية والعلمانية، وزايدوا مثلما يفعل الأسديّون تماماً بوجوب ذهاب من يريد «الجهاد» إلى «الجبهات»، بدل التحرك في «الساحات الداخلية»، أما في الأسبوع الثاني فهاجموا المظاهرات في غير منطقة، ومنعوها حيث استطاعوا في مناطق إدلب. هذا قبل أن يقرنوا ذلك أيضا بالهجوم على تشكيل من «الجيش الحر»، الفرقة 13، ويقتلوا عناصر منه ويستولوا على مقرات له.
ولا يبدو أن ما يغيظ فرعنا السوري لتنظيم القاعدة يقتصر على الرسالة الضمنية لحمل علم الثورة حصراً في المظاهرات، ولا أن هتافات المتظاهرين استرجعت الجذر الوطني الشعبي للثورة عبر هتافات تدعو إلى إسقاط النظام ووحدة الشعب السوري، ولا تنسى لعن روح حافظ، وإنما هو المبادرة إلى التظاهر بحد ذاتها كفعل حرية، وإعلان الجمهور المحتج أنه هو، لا غيره، صاحب القضية. ورغم أنه لم تشاهد لافتات تدعو إلى الديمقراطية، ومن باب أولى إلى العلمانية، إلا أن ربط النُصرويين للمظاهرات بالديمقراطية والعلمانية ليس خاطئاً، من حيث كون التظاهر فعلا شعبياً تحررياً ومتحرراً، «يُفتي» الناس فيه لأنفسهم، ولا ينتظرون فتوى «هيئات شرعية»، قالت بعض لافتاتهم إنها تساوي «المخابرات الجوية»، جهاز الأمن الأسدي الشهير بوحشيته.
كان ممتنعا على السوريين الثائرين أن يخوضوا صراعا ضد القاعديين وأشباههم بينما هم يخوضون صراعاً بالغ المشقة ضد الأسديين وحلفائهم.
وفرت الحرب الأسدية أنسب الشروط لانتشار السلفيين الجهاديين في العديد من مناطق البلد، ولهيمنة نموذجهم السياسي العسكري الديني، مواجهاً أقل المقاومة. وهو ما يَسّر من أمره انضباط أشد وإقدام أقوى وقسوة قلب مما يميز الجماعات العقدية عموماً، وتمويل حسن من الشبكات السلفية في الخليج بخاصة.
لكن في أول فرصة متواضعة سنحت أظهر قطاع مهم من السوريين اعتراضهم على الاستيلاء على الثورة وعلى بيئاتهم الاجتماعية من قبل قوى غريبة، معتدية وعنيفة، تعمل على التحكم بحياتهم. وهو ما بلغ الذروة يوم 14 آذار/مارس الجاري، وقت اقتحم محتجون مقراً لجبهة النصرة في معرة النعمان، فحرروا السجناء منه وأحرقوه. ثم يخرجون في اليوم التالي في مظاهرة كبيرة تهتف باسم «الجيش الحر» وترفع علم الثورة وراية الفرقة 13. وأثناء هذه الاحتجاجات شوهدت صورة بالغة الدلالة لمتظاهرين ينتزعان بغضب راية السلفيين السوداء على نحو يُذكِّر بتحطيم تماثيل حافظ، ونزع صور حافظ وبشار.
جميع هؤلاء المتظاهرين سكان محليون لمناطقهم، مسلمون وسنيون، وهو إن كان يكفي للقول إن هذه البيئات ليست حاضنة للسلفية الجهادية، فإنه كذلك جهد مجتمعي محلي لنزع التملك الخاص للإسلام من قبل للسلفيين الجهاديين، وضد إقامة علاقة المساواة بين تدين عموم الناس وبين هذه الصيغة الحربية المتوحشة من التدين. فإن كان هناك من يرى داعش والنصرة نتاجاً على خط مستقيم للثورة، أو لخروج احتجاجات باكرة من المساجد (ليست كلها بحال، بالمناسبة)، فإن مظاهرات النصف الأول من آذار تظهر العكس: أن الطريق غير مفتوح بين الاثنتين، وأن الطريق المستقيم، بالأحرى، هي الذي أوله المخابرات والشبيحة وأوسطه حرب مفتوحة على البيئات السورية الثائرة، وآخره النصرة وداعش.
تقول المظاهرات بكلام واضح أن الثورة ليست جبهة النصرة، بل هي ضدها بالفعل، ويقول المحتجون بكلام واضح أيضاً إن دينهم ليس دين جبهة النصرة. كان هناك حضور لافت لنساء في مظاهرات إدلب، نساء محافظات ومتدينات، وهتفت مجموعة منهن بأن النصرة «عدو الله»، وهو كلام لم يُقَل مثله إلا ضد النظام الأسدي.
من يحتج في سوريا اليوم؟ المجتمعات المحلية التي تمسكت بمناطقها رغم ما يقارب التدمير الكامل لبيئات الحياة في كثيرة منها. سكان محليون، مفقرون في أغلبهم، هم من يحتجون ويعترضون ويثورون، ويحملون السلاح. الدين سند قوي محتمل في الاحتجاج، ويمكن أن يكون سندا لقامعي الاحتجاجات أو أداة بأيديهم، لكن ليس المنطلق في الفهم والحكم. والمجتمع الذي عمل عبر الثورة على امتلاك السياسة، الكلام والاجتماع والفضاء العام، والذي يعاود امتلاك الثورة ما إن لاحت فرصة للسياسة هو ما يواجه اليوم نازعي السياسة الجدد. وكما لاحظ أكثر من علقوا على المظاهرات، فقد كانت مفاجئة لمناصري الثورة أنفسهم. مفاجئة تحبط ما أخذنا نوطِّن عليه أنفسنا من أسوأ التوقعات، وتعيد الثقة بالشعب الذي قُتل وأهين، وغُيِّب واغتِيب. وهي مفاجئة لأنها جاءت بعد خمس سنوات من إرهاب لا يصدق، أسدي وقاعدي وروسي، ومن شعور منتشر بالاكتئاب والخذلان في أوساط المنحازين للثورة، ودون ثقة بصمود إطلاق النار. لكن المفاجئ هو من طبيعة الاجتماعي الحي، خلافاً للديني والإيديولوجي، حيث العالم مفرط التنظيم، وحيث لكل شيء مكانه المحدد في مخطط كوني وتاريخي مسبق.
لوهلة يبدو أن النُّصرويين انكفأوا أمام المجتمع الثائر عليهم. لكن لا وجه للاطمئنان إلى ذلك بحال. العنف منهج الطائفة السلفية الجهادية، الفتية والحقودة جداً، وليس خياراً يجري اللجوء إليه عند الاضطرار. الحرب ليست شيئاً تقوم به الطائفة السلفية الجهادية، بل هي شيء تكونه. ولا يؤخذ على الاحتجاجات السِّلمية، بالمقابل، أنها نهج مقاومة غير مثمر مثلاً، وإنما أنها دين غير دين الإسلام، كما يقول أبو محمد العدناني، الناطق باسم داعش. ومن هذا الباب يخرج التظاهر السلمي عن عالم الأوضاع والممارسات الذي يعرفه ويعترف به السلفيون الجهاديون، ويدخل في عالم «الديمقراطية» و»العلمانية» الكافر. ومن هذا الباب أيضاً فإنه لا يبعد أن تعمد هذه الطائفة الشرسة المفعمة بالكراهية إلى أعمال إجرامية لتنتقم ممن تجاسروا عليه وتستعيد هيبتها.
ليس هناك علاقة حسن جوار ممكنة لا مع الأسديين ولا مع السلفيين الجهاديين. «الكل أو لا شيء» هو الشعار المشترك لهذين التكوينين العدميين.
القدس العربي