في هجاء الشعبويّة
طلال المَيْهَني
يقول “شيشرو Cicero” (ت 43 ق.م) خطيب روما الشهير في أثَرِهِ المُتَرْجَم بعنوان “في الجمهورية De Res Publica” أن: “الشأن العام هو شأن الشعب Res Publica, Res Populi”، لِيَسْتَحْضِرَ بذلك “الشعب populus” في سياق حديثه عن الحكم. انْتُزِعَتْ هذه العبارة من سياقها، وفي صيغةٍ مُطْلَقَةٍ دون تحديد، ليتم تسخيرها نظرياً، مع غيرها من آثار العصر الكلاسيكي، في خدمة الشعبوية التي كانتْ، على المستوى العَمَلِيّ، قضيةً إشكاليةً بامتياز. فمصطلح الشعبوية غير دقيق، والمعاني التي يحملها متضاربةٌ تتراوح بين الرومانسية الثورية والدُّونِيّة السياسية، لكن ما يجمع معظم دُعاة الشعبوية: مقاربتهم التبسيطية في استخدامهم لمفردة “الشعب”، وادعاؤهم أنهم صوت وصدى وضمير “الشعب”، هذا فضلاً عن احتكارهم لتمثيله من دون أدنى مراعاة لمفاهيم التفويض والتعاقد السليم، وتركيزهم على خطابٍ عاطفيٍّ يفتقر للرؤى الواضحة، مع ترويجهم، المباشر أو غير المباشر، لعداء الفكر anti-intellectualism.
ويُظْهِرُ التحليل المنهجي عدداً من السِّمَاتِ والركائز التي يمتاز بها الخطاب الشعبوي؛ فهو خطابٌ مُبْهَمٌ وعاطفي، لا يعتمد الأفكار والرؤى، بل يميل إلى إثارة الحماس وإلهاب المشاعر، ليتماشى تماماً أو يتطابق مع المزاج السائد (أو المزاج التي يختاره صُنّاع الخطاب ليبدو على أنه سائد) من دون أن يفيد، من ناحيةٍ أخرى، في التعامل الجدّي والمسؤول مع بلايا الواقع. ويُكْثِرُ الخطاب الشعبوي من التركيز على وردية الحلم وتبسيط الأمور في شكلٍ مسرحيٍّ كرنفاليٍّ، مع الإحالة إلى التاريخ الذي يتم استحضاره واستخدامه كوسيلةٍ إيديولوجيةٍ ذات عمقٍ انفعالي.
ويختبئ الخطاب الشعبوي وراء مصطلح “الشعب” (أو الشارع) الذي يحتل، في أبعاده الميثولوجية والحقيقية، موقعاً أساسياً في مفهوم الدولة والأمة والاجتماع الإنساني، لكنه يبقى مصطلحاً مبهماً وغير مُحَدَّدٍ، ما يجعله قابلاً للسرقة من قَبَلِ أصحاب المآرب والمصالح، كما نُوقِشَ باختصارٍ في مقالٍ سابقٍ بعنوان: “سرقة الشعب في واضِحَةِ النهار”. حيث تتم مقاربة “الشعب”، في السياق الشعبوي، في صورةٍ تبسيطيةٍ وتمجيديةٍ ورومانسيةٍ ومتجانسةٍ وشموليةٍ تُرَوِّجُ، على حدِّ تعبير عبد الإله بلقزيز، لـ “ميتافيزيقيا الشعب” الذي لا يخطئ، في سياق لاهوتٍ سياسيٍّ مُشَيَّدٍ ومُقَدَّس. توفر هذه المقاربة ملاذاً للهروب من حالة التشرذم والفساد الظاهرة، على مستوى “النخب الحاكمة” خصوصاً، مع إنكار ذلك في صفوف “الشعب” (أو الشارع). كما تنضوي هذه المقاربة على بُعْدٍ إقصائيٍّ صارخٍ، وعلى تذويبٍ واستلابٍ قسريٍّ للإنسان الفرد، الذي هو جزءٌ من “الشعب”، وتحويله إلى كائنٍ بلا قيمةٍ إلا عبر وجوده/فنائه في المجموع، أي في “الشعب”. ويلتقي هذا المعنى التجريدي الشمولي للفظة “الشعب” مع الممارسة الاستبدادية التي تزيح الإنسان وتهمّشه على حساب مفاهيم مُجَرّدة، ليتحول إلى مجرد أداةٍ لتحقيق مآرب مستترةٍ وراء ألفاظٍ عموميةٍ أو مُشَخْصَنَةٍ كالأمة، والوطن، والقائد الرمز، والدين، والطائفة، والخلافة وغيرها.
ويمكن تصنيف الشعبوية في أنماطٍ متعددةٍ لها: النمط الأول هو الشعبوية المنتشرة والغائمة التي لا تحمل مشروعاً معيناً أو طموحاتٍ محددة، ولا تملك خطاباً أو صُنّاعاً لخطابها (كما حدث في تَمَرُّد الضواحي في فرنسا عام 2005، وتَمَرُّد لندن في بريطانيا عام 2011). والنمط الثاني هو الشعبوية الكُتَلِيَّة الملتفة حول شخصيةٍ تتمتع بالكاريزما (أو هذا ما يعتقده أتباع هذه الشخصية على الأقل). والنمط الثالث هو الشعبوية الكُتَلِيَّة الملتفة حول خطابٍ أيديولوجيٍّ اعتادتْ الأنظمة الاستبدادية على جعله أداةً للمزاودة لتبيع وتشتري به. أما النمط الرابع فهو سرقة “الشعب” شعبوياً عبر الوقوف مع “الشعب” في معارضة الأنظمة الحاكمة، والترويج لخطابٍ شعبويٍّ متعددٍ ومتناقضٍ. وقد عانَتْ من هذا النمط الأخير الانتفاضاتُ الشعبيةُ في سياق ما يصطلح على تسميته “بالربيع العربي”.
إذ تشهد منطقة الشرق الأوسط انتفاضاتٍ شعبيةً في سعيٍ حثيثٍ إلى تبديل أنظمة الحكم الاستبدادية والمهترئة. وقد أفسحت حالة التصحر السياسي (التي حَرَصَ المستبدون على تَجْذِيرِها)، وغياب أو ضعف الحوامل السياسية/الاجتماعية، والطبيعة العفوية لهذه الانتفاضات، أفسحتْ كلُّ هذه العوامل المجال أمام صُنَّاع الخطاب الشعبوي، الذين لم يكن لهم دورٌ في إطلاق الاحتجاجات، كي يتدخلوا سلباً ويسرقوا “الشعب” خطابياً، بعد تعيين أنفسهم في دورِ المدافع عنه. ويمكن ملاحظة هذه الشعبوية الصارخة في المشهد السوري، أو في الدول التي نجحتْ فيها الانتفاضات في إزاحة رأس النظام الحاكم كمصر وتونس، أو مؤخراً في دولٍ عربيةٍ لم تشهد انتفاضاتٍ كالمغرب.
والشعبوية ليست بظاهرةٍ حديثةٍ فقد أخذتْ حضوراً واضحاً منذ أقدم العصور. إذ شهدتِ الإمبراطوريةُ الرومانيةُ صعودَ أباطرةٍ أو ضباطٍ شعبويين populare استخدموا قدراتهم الخطابية في تحريك “الجموع” عاطفياً، للوصول إلى مآربهم في التسلط الاستبدادي على الحكم. ويعتبر كل من “الأخوين غراكي Gracchi brothers” في روما القرن الثاني قبل الميلاد، و”يوليوس قيصر Julius Cesar” (ت 44 ق.م) من أبرز هؤلاء الشعبويين. كما تُمْكِنُ العودة بضعةَ قرونٍ إلى الوراء وتَتَبُّعِ الشعبوية في صورتها اليونانية القديمة في العقود الأخيرة من القرن الخامس قبل الميلاد مع صعود الديماغوجيين من أمثال “كليون Cleon” (ت 422 ق.م)، وانتكاس ديموقراطية أثينا، وما خَلّفَتْهُ من فوضى دفعتْ بأفلاطون وتلميذه أرسطو إلى نبذ (وحتى النظر بِدُونِيّةٍ) إلى “جموع الرعاع mobile vulgus”، وما ينتج عنهم من “حكم الرعاع Ochlocracy”. وقد أثّرَ التخليط وعدم الوضوح في استخدام المصطلحات على مصطلح “الديموقراطية Democracy” الذي غدا سلبيَّ المضمون طيلة قرونٍ، ولم يأخذ موقعاً إيجابياً إلا مع صعود الدستور الأميركي، وما تلاه من كتابات الفرنسي “أليكسي دوتوكوفيل Alexi de Tocqueville” (ت 1859 م) في القرن التاسع عشر.
ولم تكن منطقة الشرق الأوسط استثناءً من هذا، فقد اعتاد “الشعب”، وخلال قرونٍ، على أخذ دور الرعيّة وممارسة طقوس الطاعة والخضوع بإذعانٍ مطلقٍ للراعي/الحاكم، الذي يسعى بدوره إلى تعزيز تسلط نظام الحكم عبر استغلال البُنى التقليدية كالعشيرة والقبيلة، والإبقاء على الجهل والفقر في صفوف “الشعب”، والحفاظ على مزاجٍ سائدٍ يخضع للعادات والأعراف. وبتَصَفُّحٍ مُبَسّطٍ لأُمَّهات كتب التاريخ المُدَوَّنة بالعربية سنجدُ أن المؤرخين قد اعتادوا وصف “الشعب” بالرعاع أو السوْقة أو العوام أو الدُّون وغيرها من نعوت الازدراء التي توضَعُ في مقابل “النخب” من أهل الرياسة والسلطان والعلم والحلِّ والعَقْد. لم يكن هذا الانشطار العنصري المُصْطَنَع خاضعاً لقواعد مؤسساتيةٍ ثابتةٍ كما كانتْ عليه الحال في أوروبا (التي ضَمَّتْ طبقةً رسميةً من النبلاء كانتْ قد تحالفتْ مع الكهنوت الكَنَسِيّ) بل كان مستنداً إلى اعتباراتٍ عائليةٍ وقَبَلِيّةٍ وطبقيةٍ بالتوازي مع أدلجةٍ للتأريخ وغَرْبَلةٍ للتاريخ المُدَوَّن، وممارسةٍ لطقوس التقرّب من الحاكم والحصول على ودّه (وهي علاقةٌ خاضعةٌ كُلّياً للمزاج وتقلّباته).
ومع قدوم عصر النهضة والتنوير الأوروبي وصعود الحداثة حَوَّلَتِ الثورة الفرنسية “عامة الشعب” من متفرجٍ إلى عنصرٍ فاعلٍ في المشهد العام، من خلال السعي نحو المساواة ورفض التمييز التَعَسُّفي بين البشر. وعلى خلاف الثورات الأنكلوفونية في بريطانيا أو الولايات المتحدة التي حافظتْ، في شكلٍ أو آخر، على مُكَوِّنٍ برجوازيٍ مُتَرَابِطٍ ومُنْسَجِمٍ مع الثورة، فقد اتبعت الثورة الفرنسية، في سبيل تحقيق المساواة المأمولة، مقاربةً راديكاليةً وشعبوية. ومع أنها أسّستْ لقطيعةٍ مهمةٍ مع الموروث الاجتماعي والفكري السائد في “النظام القديم” إلا أنها انزلقتْ في ممارساتٍ وسلوكٍ إقصائيٍّ وانتقاميٍّ فَقَدَ الكثيرون رؤوسَهُم بسببه، ما أفضى إلى عقودٍ من الاضطراب، وسمح بالنتيجة بظهور مستبدين جُدُد تسلّقوا على أكتاف “الشعب”، في “عصر الجموع” الذي تم فيه، في محاكاةٍ لقول غوستاف لوبون Gustav le Bon (ت. 1931م)، انتزاعُ الحقِّ الإلهيِّ من المَلِكِ وإلباسُه “للشعب” ليُضْفِي على ما يقوله “الشعب”، أو على ما يقال بلسان “الشعب” وبالنيابة عنه، قداسةً لا يُعْلَى عليها.
لقد اعتُبِرَ هذا التماهي العاطفي مع “عامة الشعب” علامةً فارقةً للثورة الفرنسية بعد إخضاعها إلى انتقائيةٍ وَرْدِيّةٍ، تزيلُ عنها الوحشية التي سفكتِ الدماء طيلة عقودٍ من الزمان. وعلى رغم الاختلاف في الآراء حولها، فقد تركت الثورة الفرنسية أثراً في مدارس فكريةٍ رئيسيةٍ في القرن التاسع عشر. ويمكن تَتَبُّعُ ذلك في الأُسُس الاقتصادية للبروليتاريا في الفكر الماركسي، ومفهوم الدولة في المثالية الألمانية. وأضحت الثورة الفرنسية أيقونةً ومصدراً لإلهام الحركات الشعبوية المعارضة التي رافقتْ ثورات 1844م، وصعود المد الشعبوي في روسيا وأوروبا الشرقية Narodniki، ودول أميركا اللاتينية، والولايات المتحدة الأميركية (الحزب الشعبوي الأميركي في نهاية القرن التاسع عشر). كما تم تبنّي هذه النماذج من قِبَلِ حركاتٍ شعبويةٍ استغلّتِ “الشعب” خطابياً، لتنتقل، في القرن العشرين، من موقع المعارضة إلى موقع السلطة وتؤسس أنظمةً ذات سِمَاتٍ شموليةٍ وقوميةٍ وشوفينية: النازية، الصهيونية، الفاشية، الاتحاد السوفييتي، الناصرية، البعثية وغيرها كثير.
إلا أن هذه الحركات الشعبوية حملتْ في الغالب، وعلى النقيض من إلهام الثورة الفرنسية، أجنداتٍ يمينيةً محافظةً، تُكَرِّسُ القِيَمَ التقليدية المُنْغَلِقَةَ والرافضة للتغيير الحقيقي، والكارهة للأجنبي. وتتجلّى هذه القيم التقليدية في صورةٍ صارخةٍ في الشعبوية الجديدة التي تكتسح أوروبا منذ عقودٍ قليلةٍ (كالنازيين الجدد، والحزب الوطني البريطاني) لتعمد، عبر الاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة في عصر الديجيتال، إلى ترسيخ ما يسمى بديموقراطية المشاهدين والمستمعين، أو “ديموقراطية الجمهور audience democracy”؛ حيث يتم جذب وتجميع أصوات الناخبين وحشد الرأي العام، والتأثير عليه، عبر استغلال الإعلام والتَذَمُّر العام من البَطَالة والكَسَاد الاقتصادي، مع الدفاع الخطابي العاطفي عن المُهَمَّشين والمَحْرُومين كونهم من “الشعب”. ولا تقتصر الشعبوية، في هذا السياق، على المجال السياسي بمعناه الضيق المرتبط بالحزبوية والوصول إلى السلطة، بل تتعداه لتشمل الفنون، والاقتصاد، والنظام التعليمي، والصحافة والإعلام، والأنماط الاستهلاكية، والفكر الديني وغيرها من مجالات النشاط الإنساني التي تتطابق، أو تسعى إلى أن تتطابق، مع ذائقةٍ جَمْعِيّةٍ متخيَّلَةٍ على مبدأ “الجمهور عايز كده”.
هذا ما دفع بكثيرٍ من المفكرين السياسيين وعلماء الاجتماع والنقاد الحداثيين (كـ “ثيودور أدورنو Theodor Adorno” (ت. 1969 م) و”خوسيه أورتيغا ي غاسيه Jose Ortega y Gasset” (ت. 1955 م)) إلى نقد الشعبوية وقاعدتها المستندة إلى الجموع، وممارساتها المحصورة في التحريك الكتلي لهذه الجموع التي تعمد إلى تذويب الفرد، وإقصاء المختلف، والإعلاء من منطق اللامنطق. ويمكن تتبع جذور هذه الانتقادات، التي أسَّسَتْ مع بدايات القرن العشرين لـ “علم نفس الجماهير crowd psychology”، في المواقف السلبية المبكرة التي اتخذها المحافظون والليبيراليون الأنكلوفونيون من الثورة الفرنسية، ومن سار على نهجها، وما تلاها من عنفٍ وفوضى سياسيةٍ عمّت البلاد (صعود الديكتاتور البونابارتي، وكمونة باريس عام 1871م، وظاهرة الجنرال “جورج بولونجيه Georges Boulanger” (ت 1891م)، واحتجاجات العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر في فرنسا). لكن بعض هذه المواقف النقدية، وإن صحّت من حيث المبدأ، قد أخذتْ منحىً عنصرياً طبقياً مع تحيّزٍ على مستوى الجندر، وانطلقتْ من رؤىً شخصيةٍ مالتْ إلى تفضيل الديكتاتورية، ووقعتْ في فخ “النخبوية الاستعلائية”، وابتعدتْ عن المعايير العلمية الدقيقة (كما في كتابات غوستاف لوبون، و”سيبيو سيغل Scipio Sighele” (ت. 1913 م) المتأثر برائد علم الجريمة “سيزار لومبروزو Cezare Lombroso” (ت. 1909 م)).
لا تأتي معظم الحركات الشعبوية بجديدٍ بل تُكَرِّسُ الجمود في هويات اللاعبين في الوضع القائم، وتخلق هُوّةً مصطنعةً بين “الشعب” و”النخب”، في استمراريةٍ لإرث العصور الوسطى الذي يهمش حضور “الإنسان”. ولا تكتفي الشعبوية بخلق هذه الهُوّة والاحتفاء بها، بل تقوم بترسيخها وتوسيعها بحيث تؤدي إلى فصل “الشعب”، ليس عن “النخب الحاكمة” فقط، بل عن أي بنيةٍ سياسيةٍ أو فكريةٍ واضحة المعالم تتبنى خطاباً نقدياً مسؤولاً بحجة ابتعادها عن “الشعب”. وتوفر هذه الهُوّة الفرصة لإلقاء اللوم وتعليق الأخطاء على “النخب” الشريرة، التي تشكل مصدراً للبلايا، وذلك في انعكاسٍ لعدم قدرة صناع الخطاب الشعبوي على تحمل المسؤولية، أو كمحاولةٍ للتغطية على العجز عن مواجهة الواقع أو الفشل في تحقيق التطلّعات، أو لإعاقة المسير إلى الأمام تحقيقاً لمآرب ومصالح ومنافع معينة.
تجدر الإشارة إلى أن صُنَاع الخطاب الشعبوي الذي يتلاعب بالمزاج العام، هم بحدِّ ذاتهم محسوبون على “نخبٍ” استطاعتْ فَصْلَ نفسها عن “الشعب” لتعود وتَتَسَلَّلَ لتَدّعِي شعبوياً النطق باسمه. ويكشف هذا عن التناقض الصارخ للخطاب الشعبوي الذي يتجلّى في كونه خِطاباً تصنعه “نخبٌ شعبوية”، تدّعي عداء “النخب” ظاهرياً، إلا أنها تُعادي “الشعب” عملياً! قد يبدو هذا العداء بين الشعبوية و”الشعب” مفاجئاً للوَهْلَةِ الأولى، إلا أن التحليل الهادئ يُظْهِرُ العُنْصُرِيّة المتجذرة في اللاوعي لدى “النخب الشعبوية” التي تحتاجُ، من أجل ضمان استمرار خطابها الشعبوي العاطفي، وبقائها في مواقع صناعة هذا الخطاب، إلى “شعبٍ” في صورةٍ نمطيةٍ، وتحويل هذه الصورة إلى هويةٍ متجانسةٍ وانتماءٍ ثابتٍ وأزليٍّ/أبديٍّ وقائمٍ بِحَدِّ ذاته؛ “الشعب” مهمشٌ وبائسٌ ومحرومٌ وفقيرٌ وغير متعلم إلخ. تلعب هذه الصورة النمطية دوراً سلبياً وتشويشياً يضمن استمرارية التباكي، بدلاً من التركيز على كشف واجتثاث الظروف التي أدّتْ أصلاً إلى مثل هذه الصورة النمطية التي أُلْصِقَتْ بـ “الشعب”، ومن دون أن تسهم عملياً في أيِّ دورٍ تنويريٍّ يُفْتَرَضُ أن يتم الاضطلاعُ به. وسَتفْسَحُ مثلُ هذه الصورة النمطية المجالَ واسعاً أمام “النخب الشعبوية” كي تملأ الفراغ وتستغل “الشعب” وتنوب عنه وتتحدث باسمه، وتتعامل معه كمُجَرَّدِ وسيطٍ مُنْفَعِلٍ يحمل المعاني التي يراد له أن يحملها، والتي تُعَبِّرُ عن إرادة صُنّاع الخطاب الشعبوي، أي عن إرادة “النخب الشعبوية” التي احْتَرَفَتْ تخدير “الشعب” عبر إغراقه خطابياً بالأوصاف التعظيمية والتمجيدية.
لكن مهما تعددت هذه الأوصاف الرنّانة التي تُلْصَقُ بـ “شعبٍ” ما، فهو كغيره من “شعوب” هذا العالم التي خضعتْ لاستبدادٍ طويلٍ لعقودٍ وقرونٍ؛ مثقلٌ بالطموحات والأمراض، بالآمال والآلام، بالقيم الإيجابية والسلبية، بمَكَامِنِ العظمة ومَكَامِنِ الانحطاط، فيه الشريف والوضيع، وفيه المُحْسِنُ وفيه المُسيء. ولكن هذه الحقيقة، التي يجب الاعتراف بها ومواجهتها، لا تعني على الإطلاق تجريد “الشعب” (أي شعب)، كأفرادٍ وجماعاتٍ، من حَقِّهِ في أن يتخلص من الجهل والفقر، وأن يعيش بكرامةٍ وحريةٍ وازدهار، مع الاعتراف بكل ما يحويه من تناقضاتٍ ولا تجانس. إلا أنها تُلْفِتُ الانتباه إلى أن ترجمة الأحلام العظمى ليست بالمهمة السهلة، ولا يمكن لها أن تتم عبر خطابٍ شعبويٍّ يَمْتَهِنُ الكذب والتَمَلُّقَ والسباحة مع التيار والتغزل بالمزاج السائد، بل عبر الصدق والمصارحة والشفافية، وعبر العمل المُخْلِص لإزالة الصورة النمطية البائسة عن “الشعب” حتى لو خرج ذلك على المألوف؛ فالتغيير ـ بالتعريف ـ خروجٌ على المألوف، ولو كان المألوف مثالياً لما احتيج أصلاً إلى ثورةٍ، ولما تم السعي أصلاً نحو التغيير!
أخيراً، ليس العيب في أن يحمل “الشعب” آفاتٍ خلّفها فيه الظلم والقهر والاستبداد الطويل، لكن العيب في أن تنبري بعض “النخب الشعبوية” لتُنْكِرَ هذه الآفات، والعار في أن تصِرَّ هذه “النخب الشعبوية” على تمجيد هذه الآفات بعد إنكارها. أما أن تُمارِسَ “النخب الشعبوية” هذا الإنكار والتمجيد بصورةٍ روتينيةٍ، وأن تغدو ممارساتها قاعدةً ومرجعيةً للفرز والتخوين بحجة الدفاع عن “الشعب”، فهذه، في أحسن الأحوال، جريمةٌ في حقِّ “الشعب” الذي تدّعِي هذه “النخب الشعبوية” الدفاع عنه.
المستقبل