في وداع سنة كانت ناقصة/ فاروق يوسف
ستنتهي مثل عصا منحنية وملساء بثلثاء تشبهها. ثلثاء ستمر مثلها ثقيلة وبدينة وبطيئة وخشنة. ثلثاؤها لا تود أن تترك يدها، تظل متشبثة بها إلى آخر نقطة من جزر هاواي الغارقة في العتمة. أهي آخر ثلثاء في عمر اليابسة؟ حينها سيخلع ذو القرنين خوذته ويلوّح بها منتصرا. لقد انتهت مهمته القرآنية بإلهام قرائنها بعد أن يكون قد ألقى في المحيط الهادئ خزانة مملوءة بالتأوهات والدموع والتنهدات والزهور التي ذبلت قبل أوانها وبوجوه لا تزال نضرة.
نحتاج إلى سنة تقع على المائدة ولن يلتهم الرقم 13 نصفها الأخير. النصف الذي نرغب في أن نستبدله بسرعة متلهفين إلى لقاء رقم سواه. أما كان من الممكن أن نكون أفضل في الوقت الذي كان فيه ذلك الرقم يقيم في زئبق مرايانا وعتمة خزانات ثيابنا؟
كان يشرب حليب الصباح معنا ويصفع أسناننا ببرده ويزيّت أوقاتنا بريبته ويبني في الخفاء كاتدرائيات الألم ويتصفح قبلنا جرائد نهار لن نشعر به إلا بعد حين. لو كنا قد أسرعنا في العدو لسقطنا في المحيط قبل أن تبتل قدما تلك الثلثاء بالمياه وقبل أن يطفئ اسرافيل فانوسه ويلقي بوقه. حينها سنقيم في بطن الحوت في انتظار أربعاء قد لا تأتي بعد كل هذا الحزن الذي حرث بتقاسيمه أرواحنا.
أما كان حرياً أن نغمض عيوننا يائسين مثل أهل الكهف فلا نفتحها إلا وقد سك سكان اليابسة من حولنا عملات جديدة؟
لم تطو تلك السنة أجنحة ملائكتها إلا على أحبّة نادرين لتأخذهم معها: تشافيز، رافع الناصري، نلسون مانديلا، وديع الصافي، ستيفان هيسيل الصارخ بمحبة “أغضبوا”، جورج موستاكي، الياس حنا الياس، اوتافيو ميسوني بأزياء نسائه المخمليات، جاك فيرجيس، سيموس هايني، فو نغوين جياب، فؤاد سالم، دوريس ليسنيغ، محمد شبعة، احمد فؤاد نجم وكريستيان غازي…
أتنفس بعمق لأن سنة كئيبة هي في طريقها إلى أن تختفي مخلِّفةً حقبة من العصي. لا أفكر في ما نقص من عمري الشخصي، وهذا ما لا يقلقني، ولا في الساعات التي أهدرتها من أجل أن أفلت بمزاجي من بين الكوابيس التي لم تخطئ طريقها إلى رأسي، ولا في الكلس الذي تركه الزمن على الجدار الداخلي لشراييني، ولا في الوحوش المدججة باللغات الشريرة، ولا في جوقات المقنَّعين الذين خطفوا الله في خواتمهم الملغومة بالأحجار الكريمة، ولا في الكتب المقدسة التي تم حرقها في حفلة شواء مقدس، بقدر ما افكر في نهار سعيد ستحمله سنة جديدة تبدأ بأربعاء لن تكون شمسها مختومة بالرقم 13. ستكون سعادتي حينها ناقصة حتما. فما من شيء ضروري لأفعله. لست مُنجّما. سأترك بشر القرن المقبل لربّهم، الذي اتمنى أن يكون أكثر رافة بهم. ربما ستكون لديهم تقنياتهم التي ستؤهلهم للقفز سعداء على أبراج تلك السنة العصيبة التي تحمل رقم 2113.
لست سلبياً، فحكاية هذه السنة كانت أشبه بعملية تشريح لما بقي منا صالحاً لكي يكون مادة مختبرية للفرجة. يا خيلائي، سامحيني إذ أبكي. سيكون عليَّ أن أجدد جهازي العصبي مستعيراً خيال شجرة. عليَّ أن أستعير تفاؤل ضفدعة لأجدد جهازي الهضمي. اما الدورة الدموية فأستعيرها من الطحالب. لقد انتظرنا أن تثمر أشجارنا تفاحاً بعدما كنا قد زرعنا بصلاً. كثفنا الدموع ليكتشف النبيذ من خلالها ضحكة عنبه القروية.
نمنا على وسائد من ريش صناعي مستورد من الصين ونحن نحلم في التحليق بأجنحة النوارس، مهاجرين إلى بلاد لم يرسمها الأدريسي الذي كان اسمه محمد.
في الساعة الثانية عشرة من ليل الحادي والثلاثين من شهر كانون الأول، سأجلس في حانة ببرلين محاطا بأشباح فلكيين كانوا يجلسون على حافات الكون في انتظار اللقلق القادم من بلاد الغيب، وأصرخ “واق واق”. اسمع الصدى وأنا أضع ساقاً على ساق في تلك الحانة البرلينية، وهو يقول “واق واق”.
سيكون العرّافون المقيمون في تلك الجزر البعيدة منهمكين في النظر إلى بقايا المواد المتفسخة من جثة سنة لا يزال في إمكانها أن تدوس بقدمين هلعتين على آخر زهرة تراها في طريقها إلى الغياب. يخفي قلبي زهرته. تخفي فنادق المسنّين زهورها. تتلمس الممرضات طريقهن في العتمة من أجل الوصول إلى زهرة نسيت في المطبخ. غير أن ذلك كله لا يمنع من أن زهرة كانت تداس.
سيكون عليَّ أن أشفق على تلك الزهرة، متمنياً أن لا تكون سورية. كانت سنة 2013 هي سنة الخذلان السوري بامتياز. لا مرسي بـ”أخوانه” المهزومين، ولا الغنوشي بمكره المتصابي، ولا حسن نصر الله بغزواته المجانية، ولا المالكي بفساده المترامي الأطراف، ولا روحاني بعمامته التي تلتف على رأسه مثل أفعى، ولا بشار الأسد، طبيب العيون الأعمى، ولا السيسي بمنافقيه الذين سبق لهم أن أجلسوا حسني مبارك على عرش أخناتون، ولا صبي العثمانيين اردوغان، هم من يجعلونني أتعثر بكسور مرثياتي الجارحة.
الشعب السوري، وقد كان في ما مضى رقماً لا يقبل القسمة، هو من تفجعني أحواله وقد صار مشتتاً بين الكسور في عمليات جبر لا تقبل الحل. من حقي أن أكره سنة صارت فيها الأمهات السوريات لاجئات. ما أسوأ أن يكون المرء العزيز لاجئاً. فكيف إذا كان ذلك المرء من أجمل مخلوقات الله؟! حين خلق الله المرأة السورية كان قد وصل إلى فكرته المطلقة عن الجمال.
“نازح”، كان صديقي الرسام السوري يرددها في السنة الأولى من الثورة كمن يهذي. تذكر ذلك الصديق المقيم في جرمانا في لحظة فكاهة سوداء، أن الياس خضر وهو مطرب عراقي كان يوماً ما نازحاً إلى دمشق ولم يكن المطرب العراقي يكف عن الغناء الجريح. “كنت أرسم مستلهماً جرح الاقامة في بلد، كان ياسيمنه يطوّق أقدام النساء الجميلات برائحته، فما الذي يمكن أن أرسمه وأنا نازح، بعيداً عن حدائق الياسمين؟”. كان سؤاله يبكيني.
كان هناك شيء ناقص في السنة التي أتمنى أن تنصرم بسرعة من غير أن تمد يدها إلى ما تبقّى من الوليمة. كان القتل العراقي فيها أكثر. لا أحد يحفظ اسماء القتلى. كان اليتم قد صنع أسيجة صارت تتشبه الأسيجة الطائفية التي جعلت من بغداد مجموعة من الغيتوات المتلاصقة. أما الربيع العربي فقد صار فيها مجرد عربات آشورية، صعد إليها المسلحون وهم يلوّحون بقبضاتهم المنتصرة. لقد انتصروا علينا. أولاد الشوارع انتصروا على أبناء المدارس. تخلّى المسجد عن فكرته المعمارية التي تهذي باسم الله ليطل القرضاوي، وهو أحد فقهاء الظلام، من اسطنبول، بيد ينقصها الابهام ليهددنا بـ”رابعة” مثلما فعل اردوغان من قبل.
لديهم “رابعة” فيما لم يكن أمامي سوى أن أفكر في أربعاء ستحضر فارغة من ثغائهم.
لن تمد السنة الجديدة يدها إلى السنة المنصرمة كما يفعل عدّاؤو سباق البريد. سيكون الطلاق محكماً بينهما. بين سنة تذهب وسنة تقبل. لينفصل الزمن من أجلنا. من أجل ما تبقى منا ملتصقاً بقرميد السقف بعد الصقيع. ما نبت على أجنحة طيورنا من خيال ريشنا.
سيكون علينا أن ننسى كل ما جلبته السنة المشوؤمة من أجل أن نحيا تفاؤل سنة جديدة ستظلل سماء بلادنا. بلاد جميلة يستحق شعبها أن يكون جميلاً. ولكن ما يجب أن نتعلمه من درس السنة المنصرمة صار يرافقنا مثل هتاف البروليتاريا الرثة: “لا يليق بنا أن نجمل الشر. رجال الدين والسياسيون وتجار الاسلحة ومقاولو القتل واعلاميو الفوضى الخلاقة وزبائن مزادات اعادة الاعمار هم أشرار السنة المنصرمة الذين يجب أن يلتحقوا بها”.
إلى الغياب أيها السادة، يا صانعي حفلة يأسنا. اذهبوا إلى قصوركم، يخوتكم، فنادقكم، أوطانكم البديلة، فضائياتكم، امهاتكم اللواتي لا نتمنى لهن اللجوء مثلما حدث للأمهات السوريات، واتركوا لنا سنة جديدة تكون خالية من الخيام وصناديق الأغذية المعلبة ومنظمات الاغاثة بنسائها الأنيقات وشيوخ زواج ما ملكت أيمانكم.
اتركوا لنا سنة تخلو من البراميل المتفجرة والسيارات المفخخة والقناصين المجهولين والغزاة الورعين والانتحاريين والشهداء والمسيرات المليونية والاستعراضات الميليشوية والحواجز الأمنية والنساء المنقبات وذوي اللحى الشيطانية. اتركوا لنا شيئاً من الحياء الآدمي لنبني أوطاننا بما يرضي الله الذي كان دائماً جميلاً.
النهار