صفحات الناس

قائد ميليشيا البعث السورية: من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش

حلب، سوريا – عندما التقيت نضال أول مرة قبل بضع سنوات، بدا لي لطيفاً ومتواضعاً. كان يعمل في شركة خاصة بعد الظهر لتأمين متطلّبات العيش، شأنه في ذلك شأن معظم الموظفين الحكوميين الذين يتقاضون أجوراً متدنّية في سوريا. لم يكن يوحي بشيء استثنائي أو خارج عن المألوف؛ بل كان مجرد شخص عادي من معارفي. لكن الحرب الأهلية كانت كافية لإحداث فارق كبير في غضون سنوات قليلة. فقد راح نضال الجالس قبالتي في مقهى عصري في الجزء الغربي من حلب في أيار/مايو الماضي، يخبرني عن صعوده إلى منصب قيادي رفيع في كتائب البعث ويتباهى بمآثره ومعاركه وانتصاراته.

كتائب البعث هي في شكل أساسي ميليشيا مؤلّفة من أعضاء من حزب البعث موالين للنظام، وجميعهم متطوّعون. أنشئت هذه الكتائب في مدينة حلب بعيد دخول الثوّار إليها وسيطرتهم على الجزء الأكبر من قسمها الشرقي. وقد نُشِرت كتائب البعث في البداية لحراسة المباني الحكومية والمنشآت الحيوية، إلا أن دورها تعزّز مع تزايد أعدادها وقوّتها.

وذاع صيتها مع تحقيقها سلسلة من النجاحات في العديد من مناطق القتال الأساسية، والتي غطّت على انتصارات وحدات الجيش النظامي. يدينون بفاعليتهم في المعارك إلى التدريب الذي يخضعون له بإشراف الحرس الجمهوري النخبوي، وكذلك إلى العقيدة التي تحرّكهم. تقنياً، لا يزالون ميليشيا مدنية تتألّف في الجزء الأكبر منها من موالين لحزب البعث يؤمنون بشدّة بعقيدة حزبهم ويعتبرون أنهم يحاربون من أجل بلادهم في مواجهة إرهابيين أجانب ومحليين – إنهم قوميون مغالون بقوميتهم إذا صحّ التعبير.

انطلاقاً من هذا الاقتناع وهذا الحافز، تتفوّق كتائب البعث على وحدات الجيش النظامية، لا سيما تلك التي تتألّف في شكل أساسي من المجنّدين. ولهذا استُخدِمت في قيادة عدد كبير من العمليات الهجومية في المناطق التي يسيطر عليها الثوّار، بما في ذلك في أحياء حلب القديمة والليرمون والشيخ سعيد والشيخ مقصود وصلاح الدين.

فضلاً عن ذلك، يُقيمون روابط جيدة مع المجتمع المحلي، ويتمتّعون بانضباط شديد عند حواجز التفتيش التي يديرونها. فمن النادر الوقوع على أشخاص يشتكون من تعرّضهم لسوء المعاملة على أيدي عناصر تابعة لكتائب البعث، وذلك خلافاً للميليشيات الأخرى الموالية للنظام في حلب، ولا سيما ميليشيا “اللجان الشعبية”. ويعود ذلك في شكل أساسي إلى هيكلية القيادة المحكمة، فضلاً عن أن غالبية العناصر هم من المدينة نفسها، وليس من مكان آخر.

تتّخذ كتائب البعث مقراً لها في مبنى حزب البعث الرئيسي الشبيه بالحصن قرب الحديقة العامة وساحة سعدالله الجابري. إنه مبنى ضخم وكئيب صُمِّم خصيصاً للصمود في وجه هجوم مطوّل. جدرانه الشاهقة التي يصل علوها إلى أمتار عدّة، والكوّات التي تتمركز فيها المدافع الرشّاشة، والإسمنت المسلّح تجعل منه حصناً منيعاً. تُستخدَم الغرف المحصّنة تحت الأرض لتخزين الذخائر والمواد الغذائية التي يمكن أن تدوم لأشهر في حال التعرّض لحصار. يشكّل المبنى عصب القيادة المدنية والعسكرية لحزب البعث في حلب، ويضمّ ضباط ارتباط من الحرس الجمهوري ووحدات أخرى.

بحسب معلوماتي، لا وجود لمنشآت مخصّصة لاحتجاز المعتقلين في ذلك المبنى، نظراً إلى أن ميليشيا البعث لا تحتفظ بالسجناء بل تسلّمهم مباشرةً إلى الوكالات الاستخباراتية المتعدّدة أو إلى الشرطة العسكرية.

فيما كان نضال ينفخ بقوّة في نرجيلته، أكثر ما لفتني في التغييرات التي طرأت على شخصيته لم يكن ثقته المفرطة بالنفس، ولا بزّته العسكرية الأنيقة، ولا حتى الشاحنة الرباعية الدفع الضخمة التي كان يقودها والمجهّزة بمدفع رشّاش ثقيل في جزئها الخلفي. ما لفت انتباهي أكثر كان المجوهرات التي يضعها ومقتنياته الشخصية.

فقد كان يضع سلسلة ثقيلة من الذهب حول عنقه، ويحمل هاتفين ذكيين باهظَي الثمن، ما دفعني إلى التساؤل: كم يتقاضى هؤلاء الأشخاص؟ وفيما راح يتصل هاتفياً بالعديد من عشيقاته وبعض ضباطه على الجبهات الأمامية، ثم ناقش بتكاسل فتح مقهى باهظ الكلفة مع صديقنا المشترك الجالس أيضاً إلى الطاولة، قال إن المال ليس مشكلة بالنسبة إليه. فهو يملك الملايين ويطمح إلى مركز متقدّم. كنت على يقين من أنه حصل على أمواله بطريقة مشبوهة.

بالطبع لم تكن لديّ الشجاعة لأسأله، كما أنني لم أرد أن أعرف الجواب. مع تقدّم الحديث، بدأ يروي على مسامعنا حكايات عن بطولاته وبسالته العسكرية. لا شك في أنها كانت تنطوي على شيء من المبالغة، إلا أنها صحيحة في الجزء الأكبر منها، فانتصارات رجاله موثّقة في وسائل الإعلام السورية وكذلك في الصفحة التي تديرها ميليشيا البعث عبر موقع “فايسبوك”. (أُغلِقت الصفحة الأساسية، واستُبدِلت بالصفحة الحالية. كانت الصفحة الأولى تتضمّن صوراً وأشرطة فيديو تظهر فيها كتائب البعث وسواها من الوحدات العسكرية في حملات عسكرية عدّة في حلب).

وفي معرض حديثه، بدا واضحاً ازدراؤه لوحدات الجيش النظامية.

فقد قال “ليسوا مدرّبين ولا مجهّزين كما يجب وينقصهم التحفيز. إنهم سيئون في القتال، وربما لا يصلحون سوى لأن يكونوا وقوداً للمدافع. تتكبّد وحداتهم عدداً كبيراً من القتلى والمصابين إلى درجة أن كتائب بكاملها تتعرّض للإبادة الكاملة في غضون شهر وتصبح عديمة الجدوى”.

وقد روى كيف تمكّن رجاله من استعادة السيطرة على الجامع الأموي الكبير ومعظم المناطق المحيطة به في أواخر العام الماضي، بعد أيام من القتال العنيف في الشوارع. وبعدما أحكموا السيطرة على المنطقة، سلّموها إلى القوات النظامية. وحضر طاقم التلفزيون الرسمي السوري وصوّر مشاهد من المكان، لكن لم تمضِ بضعة أيام حتى استعاد الثوّار السيطرة من جديد على المسجد ومحيطه.

وكشف أيضاً كيف أردى قنّاص اثنين من رجاله بعدما نجحوا في دفع الثوّار إلى التراجع واستعادة السيطرة على الجزء الأكبر من منطقة الشيخ سعيد الاستراتيجية. وأخبرني ببرودة ولامبالاة كيف تنكّر وعناصر وحدته للإيحاء بأنهم من الثوّار، وتسلّلوا من خلف الموقع الذي كان القنّاص يتمركز فيه وقبضوا عليه حياً.

لم يكن هناك من داعٍ ليكمل قصّته، فشريط الفيديو الذي أراني إياه على هاتفه الخلوي كشف كل شيء بالتفصيل الحي: سكبوا عليه البنزين وأحرقوه حياً. اعتدت رؤية الكثير من أشرطة الفيديو المروّعة عن النزاع السوري، لكن هذا الشريط أزعجني كثيراً لأن الفاعل كان جالساً أمامي مع ابتسامة عريضة على وجهه.

وقد سارع إلى القول “قبل أن تسأل، لا أشعر بالندم. ذلك النذل قتل رجالي، وقد استحقّ ما حل به”. ثم مضى يخبرنا عن بطولاته في استعادة السيطرة على أجزاء واسعة في منطقة الشيخ مقصود حيث ظلّ عناصره مطوَّقين لأيام تمكّنوا خلالها من قتل عدد كبير من الثوّار. وعرض علينا مزيداً من الصور من هاتفه الخلوي يظهر فيها مع رجاله على متن الدبابات داخل حي صلاح الدين.

أخيراً، تلقّى اتصالاً من والدة أحد رجاله، والتي لم ترَ ابنها منذ أيام بسبب تمركزه في نقطة ساخنة في الليرمون. وقد وعدها بأن يعود ابنها إلى المنزل في تلك الليلة، وقال لها إنه بخير وأمان. ثم ودّعنا ودعانا إلى مرافقته.

قال لنا “سآخذ بعض المؤن إلى الرجال في الليرمون – بعض الكحول والسجائر والأطعمة – وأمضي الأمسية هناك. لديّ دروعٌ واقية إذا شئتما”. رفضنا عرضه بلباقة، مع أنه جعل الأمر يبدو وكأنه نزهة.

بعد رحيله، غرقت في أفكاري، وكان الاستنتاج الوحيد الذي توصّلت إليه أن الحرب الأهلية هي حكماً أسوأ أنواع الحروب. تُنتج مسوخاً، وتحوّل رجالاً عاديين إلى وحوش. كيف سيعود هؤلاء الأشخاص إلى الحياة المدنية عندما ينتهي هذا كلّه؟ كيف يمكنهم المساعدة على إعادة إعمار وطن مدمّر؟ أنا واثق من أن نضال ليس حالة فريدة، فهناك كثرٌ من أمثاله يقاتلون في صفوف هذا الطرف أو ذاك في النزاع السوري.

ملاحظة المحرر: جرى تغيير الأسماء في هذا التقرير.

http://www.al-monitor.com/pulse/ar/contents/articles/originals/2013/11/baath-party-brigade-syria-war-aleppo.html#ixzz2mJeAWRY2

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى