قاتل السفير الروسي مقيماً في أقسى توقعاتنا/ عمر قدور
واحد من الأحداث الاعتيادية اغتيال السفير الروسي في تركيا، لم تتوقف العلاقات التركية – الروسية عنده للحظة، وكان هناك تراكم مديد في سجل سياسات بوتين لا بد أن يؤدي إلى توقع مثل هذا الحادث. وإذا استعرنا نظرية المؤامرة، فالاغتيال كان مطلوباً إلى حد كبير مع تلك التساؤلات عن الإرهاب الذي يوفر طوال الخط مصالح موسكو وطهران، ما يُفترض أن يضع العديد من المنظمات المتطرفة النشطة، وداعميها الفعليين، موضع الاتهام. مهما كانت الجهة التي دفعت بالقاتل، مولود آلتنتاش، إلى الاغتيال، ومهما كانت دوافعها، من شبه المؤكد أن آلتنتاش نفسه أقدم على فعل مقتنع به إلى حد التضحية بالنفس. علاوة على ذلك، أقدم على فعل يرى بإخلاص أنه المخوّل به، وأنه أداة لتنفيذ العدالة. لا يهم هنا إذا كان يرى نفسه منفذاً لعدالة إلهية أو بشرية، فالدافع الأهم إحساسه بغياب العدالة والحاجة الماسة الى تحقيقها، وحتى التضحية من أجلها.
على هذا المستوى، يكون القاتل الحالي والمستقبلي مقيماً في أقسى توقعاتنا، أي تلك التي تنص على أن عالماً يفتقر جداً إلى العدالة كفيلٌ بتوليد تنظيمات تنطق باسمها، أو أفراد يأخذون على عاتقهم أمر إحقاقها.
حلب التي أشار إلى مأساتها آلتنتاش هي مجرد رمز لما سبق، ورمزيتها لا تأتي من أهميتها الخاصة فحسب، لأن التركيز عليها يتجاهل سنوات من البربرية التي وقع ضحيتها مئات آلاف السوريين، والميديا «المتهمة بالتقصير في تغطية مأساتهم» نقلت من الصور والأخبار ما يكفي لخدش الضمائر متى وجدت. تراكم الشعور بانعدام العدالة، إلى درجة اليأس من تحقّقها عبر قوى «مشروعة»، هو ما يشرّع فعلاً يائساً تجلى في الاغتيال والموت معه، وهو ما قد يشرّع لأصحابه أفعالاً تزيد عدمية على فعل الاغتيال، لأن الإدانة في حالتنا تكاد تشمل البشرية كلها، بصمتها أو تخاذلها أو مشاركتها في المذبحة العلنية.
إدانة القاتل والجرم في حالة آلتنتاش قد يأتي بعضها على أرضية عدم جواز تحقيق العدالة من أفراد، فذلك يعني أن لكل فرد منظوره الخاص للعدالة، ويُنذر بأن تتحول العدالة ذريعة للقتل العشوائي والمزاجي. بالطبع هناك تفاصيل أخرى، من نوع مدى مسؤولية القتيل عن سياسات حكومته، ومن كونه سياسياً مدنياً لا مقاتلاً في الميدان السوري. لكن، إذا ذهبنا أعمق من التفاصيل، أو تحريناها بدقة أشد، سنجد أنها تنطق بلغة النظام الذي لم يكن حاضراً طوال المذبحة.
إذاً، يخرق آلتنتاش النظام لأنه فرد يستخدم العنف، بينما لا يُقال الأمر نفسه عن دول تعتمد العنف المفرط أو البربري، فقط لأنها في العرف العام للنظام مُناط بها احتكار العنف. هذا هو الأساس المفترض للمدنية، مأسسة العنف وعدم تركه فالتاً. ومأسسة العنف لم تعنِ يوماً نبذه بالمطلق، وإنما التمييز بين عنف «حميد» تحتكره وتمارسه قوى قادرة ومعترف بها، وعنف آخر يُوصم بالجريمة أو الإرهاب تمارسه قوى لا تعترف بها القوى الأولى.
في حالتنا، أُضيفت إلى تلك الأنظمة، التي يُراد لها احتكار العنف، تنظيمات وميليشيات اكتسبت مشروعية غير معلنة، طالما أنها تقاتل برعاية الأنظمة. لعل هذا هو الفارق العميق في التعاطي مع الميليشيات الشيعية المتطرفة ونظيرتها السنية، فالأولى لم تكن محل شجب ومحاربة دوليين على رغم الفظائع التي ترتكبها، طالما أنها منضبطة سياسياً وفق أجندة حكومة طهران. بالمثل، هناك تجاهل أكبر للمرتزقة الروس العاملين بأمر حكومتهم، مع التركيز على المقاتلين الشيشان. المسألة لا تتعين في مستوى العنف والبربرية، أو حتى في هوية ضحايا العنف فحسب، وإنما أيضاً في تلك النظرة الغربية الأصل إلى موضوعة العنف ومأسسته.
في مهدها الغربي، ومن على يمينها وشمالها، ثمة انتقادات تُوجه الى مبدأ احتكار العنف ومأسسته، إلا أنها انتقادات تعمل في حقل سوسيولوجي أو سياسي مغاير لحالتنا. الأصل المبسّط للمبدأ هو انتفاء الحاجة المجتمعية إلى العنف مع إحلال الديموقراطية، فالأخيرة تعني اعتماد الطرق السلمية في الصراع، والدولة تحتكر العنف باعتبارها «أداة» محايدة، وعلى نحو خاص باعتبار نظمها ومؤسساتها خارج التحزب، وإنما هي تعبير عن مجموع الإرادات في السلطة وخارجها.
لا نحتاج شروحات لتبيان الفرق بين الدولة بالمعنى الغربي وأنظمتنا. الأخيرة كما نعلم لم تكن يوماً أداة محايدة، أو أداة لتحييد العنف عن الصراعات المجتمعية. لقد كانت دائماً طرفاً رئيسياً في الصراع، فضلاً عن كونها الطرف الذي يحتكر العنف، مرة بحكم الواقع، ومرة أخرى بحكم الحصول على شرعية دولية تضمها إلى نادي الدول. احتكار العنف، من دون شرط الحصول على تفويض ديموقراطي، ينزل بتلك الأنظمة إلى مستوى الميليشيات على صعيد المشروعية الشعبية، وهذا ما يفسر التقبل العام لفكرة مناهضة العنف بالعنف، أو ما يفسّر ذلك الالتباس المُعبّر عنه بالعداء لفكرة الدولة.
واحد مما يحذّر منه «المجتمع الدولي»، على وجاهته أو عدمها، هو العنف الفالت في دول المنطقة مقارنةً بالعنف الممأسس للأنظمة. تحذير لا ينطوي على إدانة العنف كلياً، ويقيس على المفهوم الغربي للنظام من دون احترام لضحايا عنفه أو وحشيته. التسليم بالعنف، تحت زعم شرعية احتكاره على هذا النحو، يستدعي تلقائياً التحلل من الالتزام الديموقراطي، فالعنف يتحول إلى طبقة حاكمة، والدولة تتعين بتلك الطبقة تحديداً، وهذا يحقق النظام وفق المفهوم الغربي، لكنه ينسف أسسه ذاتها، إذ تصبح وظيفة «الدولة» توليدَ العنف. أبعد من ذلك، لن يكون محتماً في عصر الميديا النجاح في إقامة جدران عازلة أمام الحساسية العامة إزاء البربرية أو إزاء انعدام العدالة. ما فعله آلتنتاش قد يفعل مثيله شخص آخر في الغرب، إذا تجاوزنا فعل الاغتيال إلى أي فعل آخر يضمر احتجاجاً على انعدام العدالة، واستعداداً لتحقيقها ذاتياً. بمعنى أن النظام، بمعياره الغربي الأصل، معرّضٌ لأن يوصم بأنه غير عادل لا لخلل في آليات عمله الداخلية، بل لخلل في عدالته خارج الحدود. حينها، لن يبقى من أهمية لذاك التمييز بين عنف ممأسس حميد وآخر فردي مقيت، العنف اللفظي المرافق لصعود اليمين المتطرف قد يكون شرارة البداية.
الحياة