قال لي فواز: لولا حافظ الأسد
ياسين سويحة
في بداية التسعينات، في يومٍ من أواسط تشرين الثاني، أي عشية ذكرى “الحركة التصحيحيّة”، الإسم الفنّي لإنقلاب حافظ الأسد على رفاقه في “البعث”، في 16 تشرين الثاني 1970، عمّمت “شعبة التربيّة” توجيهاً بتخصيص حصّة دراسيّة للحديث عن منجزات تلك “الحركة التصحيحيّة”. ولمّا صودف أن تلك الحصّة كانت حصّة الرسم في صفّي، فقد أمرتنا المُعلّمة أن نرسم أحد إنجازات الحركة التصحيحيّة، شرط أﻻ تكون “حرب تشرين التحريريّة”.
وعلى اعتبار أننا خصصنا لها حصّة رسم قبل حوالى الشهر، وبحكم الجغرافيا، فقد رسم جُلّنا سدّ الفرات بعنفاته وشلالاته و”بحيرة الأسد” القابعة خلفه بحراً. وكان علينا أن نُنهي رسومنا خلال عشرين دقيقة فقط، كي يتبقى ما يكفي من الوقت للاستماع إلى البيان المُعمم الذي يجب على المُعلّمة أن تتلوه على تلاميذ الصف الثاني أو الثالث الإبتدائي، ﻻ أذكر.
بدأ البيان، كالعادة، بتهنئة الشعب العربي في القطر السوري في ذكرى وقوعه المحظوظ في غرام حافظ الأسد، قائد التشرينين، بطل الحُسام والسلام، باني سوريا الحديثة الزاخرة بالمنجزات الصناعية والزراعية والعلميّة والثقافيّة، قاهر الإستعمار والبورجوازيّة والصهيونيّة، القائد الذي يفخر به السوريون، وتحسدهم عليه العرب، وينتظرون بفارغ الصبر، تحقيق الوحدة العربيّة كي تصلهم حصّتهم من النعيم البعثي.
وهنا جاء دور “الوحدة العربيّة”..
أكدت لنا معلّمة الرسم أن الحدود بين الأقطار هي صنيعة الاستعمار، وأن إزالتها حتميّة، على اعتبار الوحدة طريقاً لتحرير فلسطين وإتمام التحويل نحو المجتمع العربي اﻻشتراكي. حينها، رفع يده زميلٌ في الصف، لنقل أن إسمه “فواز”، طالباً السؤال. وحين سألته المُعلّمة عمّا يريد، أجابها بأنه ذهب إلى تل أبيض قبل فترة، ورأى الحدود مع تركيا، وأنها ليست إﻻ سياجاً عادياً، فهل تشبه الحدود بين الأقطار العربيّة هذه الحدود؟ فأجابته أن غالبية الحدود مرسومة على الخريطة، ولا وجود لها على الأرض، في ما خلا بعض السواتر الترابيّة هنا وهناك. عندها سألها “فواز” بحماس: “لماذا لم يُرسل حافظ أسد آليات لمسح هذه الحدود؟ أليس قوياً وبطلاً؟”.
امتقع وجه المُعلّمة، وصرخت بـ”فواز” توبخه ﻷنه قال “حافظ أسد”، من دون أن يسبقها بـ”الرفيق المناضل” أو “السيّد الرئيس”، ثم مرّرت لحظاتٍ من الصمت فشلت خلالها في إخفاء إرتباكها، قبل أن تناديه وتضربه بالعصا على يديه وتأمره بالعودة إلى مقعده. ثم مرّرت لحظاتٍ أخرى فكرت خلالها، ربما، أن أحد السامعين سيعتقد أنها تهاونت، فنادت الولد وسحبته من أذنه نحو الإدارة بعدما صرخت فينا آمرة بأن “نطب رؤوسنا” على المقعد، متوعدة بشديد العقاب لمن يخالف ويُسجّل اسمه لدى عريف الصف.
غاب “فواز” بقيّة الحصّة والحصة التي تلتها، وعاد متورم الخدّين والعيون من البكاء. علمنا لاحقاً أنه “أكل قتلة” من المدير، الذي اتصل بوالده، الموظف في إتحاد نقابات العمّال، ليحضر سريعاً، فأكل نصيبه من الوالد أيضاً. وعاد إلى الصف بعدما سمع والده يعد المدير والمعلمة بأنه “سيشويه” في البيت. شعر “فواز” بأنه ارتكب إثماً وطنياً، لكنه ﻻ يدري كيف: هو فقط تحمّس للوحدة العربيّة وأرادها أن تأتي سريعاً!
وجدني “فواز” على “فايسبوك” قبل شهرين، ولم أكن قد عرفت عنه شيئاً منذ نهاية المرحلة الإبتدائية. راسلني بلطفٍ، وعلمت أنه درس الأدب العربي وهاجر بعدها إلى الإمارات. وبخجلٍ يشبه الصادر عمّن يضطر إلى فعل ما لا يودّه، أخبرني بأنه حزين بسبب موقفي من “الأحداث” في سوريا: “فلولا حافظ الأسد لما كانت هناك مدارس تُعلّمنا”، قال لي قبل أن يتمنى أن نلتقى قريباً في الرقة “بعد أن تهدأ النفوس”..