صفحات الناسهيفاء بيطار

قانون للحب/ هيفاء بيطار

 

 

يستحق صدور قانون في الصين يلزم الأبناء بزيارة والديهم في دور العجزة التأمل والقلق. للوهلة الأولى، ينتزع منا ضحكة، ويبدو أقرب إلى النكتة، وتبدر منه رائحة دعابة، لأن ثمة تصوراً بديهياً في أذهاننا لعلاقة الآباء بالأبناء، كما لو أن حبلاً سرياً خفياً وأبدياً بينهما، لعله الحب الذي لا يفتر ولا يُنسى. ولكنْ ثمة القول إن الكراهية الحقيقية هي النسيان. وشح العلاقات الإنسانية، وتصحر المشاعر الإنسانية بين البشر، أمران قائمان، ولا سيما عند من فقدوا قدرة التعاطف مع المتألمين، ولم يعد في مستطاعهم أن يقدموا ذرة حب وتعاطف للآخر.

هناك في الصين، واجه أحد العجزة الكاميرا بوجهه المتغضن وعينيه الدامعتين، وقال: لا أريد مالاً، معاشي التقاعدي يكفيني، لكني أحتاج أن يزورني ابني، أحتاج أن أراه وأشعر بمحبته وأعطيه حبي. وليس هذا الأب مثالاً للآباء المجروحين من قسوة أبنائهم، فحسب، بل مثال إنسان زمن الاستهلاك الذي حوّل البشر إلى كائنات تلهث وراء السلع المتنوعة المغرية، وقد أصابت نزعة الهوس بالاستهلاك والاقتناء جوهر الكيان الإنساني، فصار الإنسان، واعياً أو غير واع، ينظر إلى الآخر كمادة للاستهلاك أيضاً، بمعنى: كم يمتعني، وكم أستفيد منه؟ كم يسليني؟ ماذا يمكن أن أحقق من صلتي معه؟ شاع منطق نفعي بحت، وغابت المشاعر الإنسانية بين الناس، وأساسها التعاطف والإحساس بالآخر، والمشاركة.

ويصلح المثل الصيني (إذا أحببت شخصاً فاهده وقتك) شعاراً في مواجهة عصرنا المتصحر جغرافياً ووجدانياً وعاطفياً، والبادي أن التصحر لم يصب الطبيعة فقط، بل النفس البشرية، فلم يعد من همة لإنسان أن يحب أخاه الإنسان، أن يدعمه ويسانده، ويشعر بمشاعره، ويقدم له أعظم دعم في العالم، هو الحب.

أي خزي أن ينسى أبناء آباءهم، أن يرموهم في النسيان، وفي مأوى عجزة ولا يزوروهم. يرقى هذا الإهمال إلى مستوى الجريمة، ولا يقل وحشية عن جريمة القتل، وفي الإنجيل آية تقول إن من يقتل الروح أكثر إجراماً ممن يقتل الجسد.

تحتاج تلك الظاهرة، الأشبه بالوباء، أي تصحر المشاعر وانعدام قدرة البشر على المحبة والتعاطف والحس الإنساني، لعلاج مجتمعي جدي وعاجل، وتحتاج أن يحشد علماء النفس والأطباء النفسانيون جهودهم لدراسة هذا المرض الخطير، فأهم ما يميز الإنسان ليس العقل فقط بل القلب، الطفل ينمو بالحب، لا يحيا بالخبز وحده، بل بالحب والإيمان. ولكن، يقول ماركيز: لا يستطيع دواء شفاء ما يعجز الحب عن شفائه.

“تصحر المشاعر وانعدام قدرة البشر على المحبة والتعاطف والحس الإنساني، ظاهرة تحتاج لعلاج مجتمعي جدي وعاجل”

ثمة أسباب عميقة تجعل بعض الأبناء يهملون آباءهم ويكونون معهم قساة، من دون أن يدركوا أي ألم يسببونه لآبائهم. ربما عانوا في طفولتهم من غياب والديهم طويلاً خارج المنزل، فافتقدوا عاطفة الأم والأب اللذيْن أودعاهم في دور لحضانة الأطفال ساعات طويلة. والنهايات تحددها البدايات، فالطفل الذي ينشأ في دار حضانة أو مع خادمة، ويعاني بصمت من افتقاده حنان الوالدين ووجودهما معه، سيكون جافاً وشحيح العاطفة حين يكبر، ولعله، لاواعياً، يعاقب والديه العجوزين بإهمالهما، كما لو أنه ينتقم لنفسه، حين أهملاه عندما كان طفلاً.

لكن، لا يلغي هذا التفسير أننا أمام مشكلة ضرب الحس الإنساني بين البشر، فالحب يعمّر، والكره يدمر، ليس على مستوى العلاقات الإنسانية فقط، بل على مستوى بناء المجتمعات، فليس لإنسان أن ينجح في عملٍ، أو يبدع فيه، إن لم يملك طاقةً على الحب، وهذه الطاقة يجب أن تغذى وتستثمر في نفس الطفل، وإلا ضمرت وتشوهت. وتجعلني الأحداث المؤلمة في وطني سورية أقف مصعوقة أمام أشكال مروعة لانعدام التعاطف والحس الإنساني بين البشر، فإحدى السيدات الثريات المتدينات، والمتباهية بطقوس تدينها، تقيم حفلاً باذخاً لابنتها بمناسبة تخرجها من الجامعة، وتحجز أفخم مطعم في اللاذقية، وتحضر أشهر فرقة موسيقية، وراقصة وثلاثة مغنين، وتدعو أكثر من مئتي سيدة إلى الحفل، وتحضر حلويات من لبنان، وتتباهى بسعر فستانها وفستان ابنتها. كلف الحفل ملايين الليرات، في وقت تغص فيه اللاذقية باللاجئين من إدلب وحلب والحفة ودير الزور وجسر الشغور، ولو أن تلك السيدة، بدل أن تبدد الملايين في ساعة، تبرعت بها لمساندة الشعب المنكوب، لكان هذا خير دليل على إيمانها وتدينها وحسها الإنساني، لكنها لا تفكر بهؤلاء، إخوتها في الإنسانية، بل تنظر إليهم كحشرات.

هناك أمثلة كثيرة على شح المشاعر الإنسانية وافتقاد حس التعاطف والمشاركة بين البشر، وعلى انهيار صداقات عمرها سنوات عند أول امتحان. وأرى أن القانون الذي أصدرته الصين، ويلزم الأبناء بزيارة والديهم في دور العجزة، ناقوس خطر، فأهم ما يميز الإنسان هو الحس الإنساني، وللأسف، يحصل أن يتحول الجنس البشري إلى جنس أقرب إلى فصيلة الوحوش.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى