قبل أن تضيع الضرورة الذهبية: ‘التنوير’ المؤجل من ثورة إلى أخرى!
مطاع صفدي
ثلاث أيدي قذرة تحاول اختطاف زهرات الربيع العربي قبل أن تصير إلى ثمرات ناضجة متمتعة برحيقها الصافي الصاعد إليها من جذورها العميقة في تربة صيرورتها التاريخانية. وهي كلها أيد متفرعة من أخطبوط واحد اصطلحت أحداث النهضة على تسميته بـ ‘مركّب الاستبداد/الفساد’، وهو فاعل الانتاج وحاصل المنتوج لأيديه القذرة، وأهمها الثلاثة الفاعلة راهنياً في لحظة عودة الروح إلى الجسد القومي المجرَّح عبر ثوراته القطرية المتلاحقة. إنها أيدي الاستعمارين الخارجي والداخلي، بالإضافة إلى وحش الانحطاط الناهش للذاتية المجتمعية، للإنسان العربي الناهض رغماً عن كل العصور المظلمة الجاثمة على صدره.
هنالك ما يناهز نصف قرن من عمر هذه النهضة الراهنة، أمضاها العالم العربي متخبطاً بين أيدي هذا الأخطبوط، منفلتاً تارة من إحداها ليقع أسيراً في قبضة الأخرى، لا نقول عن هذه الحقبة الغاصَّة بكل تناقضات الحداثة وأعدائها معاً، أنها كانت تخوض تمارين الانبعاث، إنما بوسائل إماتتها دورياً أكثر منها بأدوات إحيائها. بل ينبغي التنبه إلى المفهوم الأحدث للنهضة الذي يراها فعلاً دينامياً مستديماً في التشكل والتعثر بحسب جدلية الوقائع ذات الطابع المختلف بين مجتمع ناهض وآخر.
لكن المهم في هذا الفعل هو قدرته على تفجير نوع القوى المجتمعية، المتناسبة مع طبيعة مقاومتها وتحولات الظروف المضادة؛ فكل نهضة حقيقية تعاني من عقدة الصراع على الإمساك بدفّة التغيير بين قوى الحراك السياسي، ولقد تميزت تجربة النهضة الثانية بما يشبه العجز التكويني فيما يتعلق بإشكاليات التغيير الضعيفة أو المحبطة، والمجهضة غالباً، وذلك بسبب الغياب أو التغييب القسري لفُعلاء التغيير من قادة ومؤسسات دولانية أو أهلية. فقد أخذت السياسة الفوقية وحدَها، على عاتقها احتكارَ هذه المداخل الثلاثة: في تصور مشروع التغيير أولاً، وفي تشريعه القانوني ثانياً، وثالثاً في تنفيذه العملي؛ الأمرُ الذي أبقى أصحاب الشأن العام، من نُخَب فكرية وهيئات متخصصة، علمية أو تقنية، أبقاها في طور المنفعل بالأفكار الهابطة على رؤوسها من أعلى، أو المتفرّج على ما يُسمّى بخطط الدولة، التي هي في مختلف أحوال النهضة، كانت دولةً للفرد الحاكم، المغتصب للسلطة إنقلابياً، وشِبْهَ ثوري، أو كانت دولة للفئة القليلة، من أسرة أو عشيرة متحكمة، متسلّطة بفضل التقليد الوراثي البدوي.
لقد كانت معظم نوازع التغيير، بإمكانياته الإنسانية والمادية، متوفرةً في فجر المرحلة الدولانية الاستقلالية لكافة أقطار العرب، مع لَحْظ الكثير من التنوع، والاختلافات في الدرجة والتفرد بالخصائص، ما يجعل التكامل بينها عاملَ إغناءٍ وتواصل عضوي ذاتي، لتطور حداثي يتطلبه العصر حسب مقاييسه العالمية. من هنا اتفق الوعي الجماهيري، في لحظة الفجر الاستقلالي، على جملة بنود تأسيسية في أجندة العمل العام الذي ينتظر بناء المستقبل الجديد المختلف لأمة العرب؛ فكان المنطلق الأول جواباً على السؤال الأنطولوجي: ماذا سيفعل العرب بحريتهم الجديدة.
ما هو وكيف سيكون هذا الاستثمار التاريخي، لمكسب الاستقلال العظيم، لهذه الحرية المفقودة من دهور، والعائدة إلى مئات الملايين من سجناء العبوديات والتخلف منذ قرون سوداء مشؤومة، أضاع خلالها الخَلَفُ (الطالح) كلَّ أمجاد السلف (الصالح)، ـ على قول المثل البلاغي ـ.
كان الاستثمار التاريخي المتفَق حوله عفوياً وبديهياً، لدى جيل الاستقلال، هو في كيفية إبداع الترابط المفهومي والواقعي بين الحرية المكتسبة والنهضة. كل خطوة على طريق هذا الترابط ينبغي لها أن تحقق المصطلح الفلسفي الموصوف بالضرورة الذهبية. إذ يصير في مقدور المجتمع المستقل الانتقال من طور العطالة الإنسانية في ظل البطالة الحضارية، إلى أن يصبح هو المنتجَ الأول لأفكاره، والمنظِّم الدائم لأفعاله الجماعية، والمنشئ لمؤسساته، والمقدِّر الأخير لحصائل تجاربه البنيوية، حول الروابط التكوينية بين هذه الصيرورة كحتمية عليا لمنطق الحرية، وبين مسيرتها العامة، تحت رقابة معايير النهضة ومشاريعها المتكاملة.
أما تراجيديا النهضة الاستقلالية العربية، الموصوفة بالمغدورة في أغلب أطوارها، فهي أنها وقعت تحت سطوة ضربات متوالية من تفريغ المفهوم الكلي للحرية، إلى دلالات حصرية في ذاتها، متعارضة فيما بينها، تسعى كل منها إلى حمايةِ، تغطيةِ جزئيتها، بإسباغ شكلانية الأدلجة على تصوراتها، وفرْض القداسة الغيبية أو النمطية التصنيمية على تصرفاتها. هكذا اثبتت تجارب ثورات القرن العشرين الماضية في العالم الثالث، والوطن العربي تحديداً، أن تغيير أنظمة الحكم قد لا يكون هو الهدف الصعب الذي يواجهه الثوار أو المعارضون، لكن الأصعب منه هو السيطرة على مرحلة ما بعد الثورة، بما ينسجم والقيم المثالية التي تدّعيها ، وتحشد وراءها الطاقات الشعبية. ها هو الربيع العربي يعتقد أنه يفتتح مسيرة مختلفة لثوراته، لكنه قد يتعثر أو أنه لا يتعجل في ابتكار منهجياتِ عملٍ عام لما بعد إسقاط أنظمة الاستبداد/الفساد، لم تعرفها قصصُ أو دراميات الثورات الفاشلة أو المنحرفة للقرن الماضي.
لدينا أربعة نماذج اليوم لثورات عربية أنجزت الإطاحة بقمم أنظمتها، لكنها عَلِقت في شبكيات/مجاهل هذه الأنظمة، المستمرة بمؤسساتها المهترئة وأجهزتها الإدارية والأمنية الفاسدة. مع فارق إيجابي ومركزي يتمثل في خروج مجتمعات هذه الثورات الجديدة إلى حال العلنية والحيوية معاً، كانت افتقرت إليهما طيلة عقود، حتى قيل أن هذه المجتمعات كادت تفقد وجودها الإنساني بعد أن حرمها الاستبداد من أبسط حقوقها الطبيعية والمكتسبة معاً. صحيحٌ أن اليوم التالي على انهيار طاغوت الاستبداد ليس موعداً حاسماً مع الحرية، لكنه هو منطلق لقوى التحرير ملء ساحات العمل العام التي كانت حكراً لقوى القمع وحدها. فليست هي الديمقراطية آتية بكل شروطها ومؤسساتها بين عشية وضحاها. ولكن أن ينكشف أو يبرز التديّن الطقْسني، فليس ذلك مؤشراً على نهاية العالم أو الثورة. فالجسم المعتل يُظهرِن أمراضه، وإلا كيف يمكن علاجه وإشفاؤه منها. هذه العلنية وحدها هي الحاضنة الأولى لثقافة الحقيقة، كيما تفرض ذاتها كأعلى سلطة معنوية، حاكمةٍ وفاصلةٍ في خيارات الرأي العام، ومواقفه من تياراته السياسية، ومشاريعه النهضوية، وما يعاكسها أو ينتهزها أو يحبطها في الوقت عينه. لا ننسى أن النهضة عجزت عن تأصيل تنوير ثقافي إجتماعي كلي، تعتمده كل ثورة سياسية قادمة كمكتسب بنيوي نهائي لا ردَّة ولا رجعة عنه.
لا غرابة في كون عصر النهضة المغدورة، كان الأعلى ضرواةً في القمع المعرفي، وليس الإعلامي فحسب. بحسب دلالته الأصلية: فالإعلام الزائف لم يكن مانعاً فقط للمعرفة السياسية، وأحوال الواقع السلطوي والإجتماعي لأقطار العرب جميعاً، بل كان رمزاً لقتل المعرفة كلياً، لاجتثاث العقل ذاته من أدواره جميعاً في صناعة التقدم.
ما يعنيه المجتمع المغلق، المُصنّم أيديولوجياً وسلطوياً هو احتباسه كلياً في طور الأمية العلمية، والبدائية في مناحي البحث والإبداع، والتربية البشرية المستديمة. هكذا خسر العرب رهانات نهضتهم الذاتية، ومعها طموحاتِ الحداثة العالمية، في أن تدق أبوابهم يوماً ما، الموصدة في كل ميدان بإرادة الحكام من وراء ظهور شعوبهم أو من فوق رؤوسهم. سياسة التجهيل لم تَسُدْ عصرَ الحكم الاستبدادي عفوياً أو صدفوياً، كانت ولا تزال محور المنهج في تجديد الانحطاط التقليدي الذي التزمه صُـنّاع النهضة المغدورة وخبراؤها (الوطنيون) والأجانب. تكفي الإشارة فقط إلى الأرقام القياسية الفاضحة عالمياً التي حجزت للعرب أدنى درجات التأخر في كل ما يتعلق بمعدلات التطور الحضاري العصري، مقارنةً بأمم الشرق كافةً تقريباً، تلك التي شاركت العرب قروناً في النأي عن معارج الحرية والتقدم، لكنها نفضت عنها ركام الماضي المظلم، ونافست اليوم كبار مستعمريها القدامى.
لا نقول أن شبيبة الربيع العربي كان عليهم أن يعوا المسؤولية الحضارية الكبرى منذ بداية حراكهم. إذ كان عليهم أولاً أن يتصدوا ضد جلادي كرامة المواطنة السوية الحرة. وبعد ذلك يبقى على المجتمع المتحرر من طغاته أن يشرع في اختيار أسلوبه أو طريقته في إعادة بناء نهضته الثالثة الجديدة. لكن حقبة الصراع مع أصنام الطغاة وكُهانهم وشراذمهم، لن تغيب كلياً مع انقضاء بعض رموزهم، أو حتى جميعهم. فالطغيان له جذوره شبه المتأصلة في تربة المجتمعات المقهورة من دهور. كما أنه سيظل قابلاً لاستنساخ أعراضه في أشكال أخرى مختلفة كثيرة. فليس خُلفاء الطغاة هم الرجال الأحرار حقاً، دائماً. ولا يزال التدافع نحو وراثة دولة الماضي من جنس طبيعتها الإدارية الفاسدة.
إنه التقاتل الشرس الحدي بين شراذم وحزبيات وشخصيات الأمس، على كراسي القمم؛ ولن يكون تنافساً ديمقراطياً نظيفاً، من اليوم حتى الغد القريب. مع ذلك جاء الربيع بـ (ضرورته الذهبية)، لكن أوقاته المتميزة لن تحلَّ دفعة واحدة في ساعات الزمن العربي الرديء، شبه المتوقفة أو المعطّلة كلياً. ما يعني أن الفكر الفلسفي لن يتخلى عن تفاؤليته الدهرية. قد لا تكون تفاؤليةً عقلانية خالصة، إلا أنها، إنْ لم تتنبأ بمفاجأة الربيع العربي قبل حدثانه، لكنها لم تتنازل عن التبشير بالتغيير وهو في أصعب ظروفه المضادة، حتى لأبسط أفكاره، فكيف سيكون الأمر بالنسبة إلى وقائعه الأقرب إلى الاستحالة، وذلك ما قبل الانفجار العظيم.
الربيع حلّ، وكل تحولاته القادمة ستحمل خصائص مواسمه المتغيرة، لن يكون له منهجه المنتظر إلا بقدر ما سوف يرعى للضرورة الذهبية جدليتَها، التي إن حلّت في حقبة تاريخية، جعلت مسيرتها كفاحاً نهضوياً مستديماً، ضداً على كل حتميةٍ عبثية عمياء، لا تزال تشاغب بأسلحتها الخشبية الماضية، ما تبقَّى من طواحين الهواء المتخلّفة، المنهارة.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي