صفحات العالم

قبل أن يلتهم الحريق السوري المنطقة/ أسامة أبو ارشيد

 

 

توشك الثورة السورية على أن تدخل عامها الخامس، ولمَّا تَلُحْ بعد آفاقها. ثورة سورية غُدرت منذ البداية، فلا هي دُعمت لتنجح، ولا هي تركت لتجترح مسارها المستقل، بعيداً عن أصابع العابثين. فمنذ اليوم الأول، استثمر الجميع، وتحديداً، الأضداد في المواقف والتحيزات، في استنزاف سورية الدولة والثورة معاً. فاللاعبون الإقليميون والدوليون، المؤيد منهم للنظام، والمعارض له، دفعوا سورية لتكون محرقة لشعبها ولدورها دولة محورية في المنطقة، وها هي، اليوم، تكاد تلتهم ما تبقى من شعب ووطن.

غير أن ألسنة اللهب السورية، وبعد سنوات أربع كاملة، تتمدد، اليوم، إلى ما وراء الحدود، وتكاد تأتي على الأخضر واليابس في منطقةٍ، قابلة للاشتعال أصلاً. لا أتحدث، هنا، فحسب، عن ملايين النازحين المنكوبين داخل ما كان يوماً وطناً، ومثلهم آخرون من اللاجئين التعساء في دول الجوار: الأردن، لبنان، العراق، وتركيا، فالأمر يتجاوز القنبلة البشرية اللاجئة. نعم، المنطقة، كلها، اليوم، بمن فيها مع النظام ومن هو ضده، تجلس على برميل بارود، وصاعق التفجير موجود في سورية، وهو لا محالة منفلت، اللهم إلا إذا تدورك الأمر، قبل فوات الأوان.

تعاطى “أصدقاء” كثيرون للشعب السوري مع ثورته على أنها، من ناحية، مبضع لتقطيع أوصال النظام السوري وإضعافه، ومن ناحية أخرى، وسيلة لاستنزاف إيران وحلفائها في المنطقة. وبالتالي، لم يكن همهم أبداً، يوماً، أن تنتصر الثورة، وتطيح نظاماً دمويّاً مجرماً، وكيف ذلك وهم أصلاً أعداء للثورات والديمقراطية؟ أيضاً، لأن كثيرين من “أصدقاء” النظام السوري لا يهمهم إلا أن تبقى سورية كوكباً هامشيّاً تابعاً في فلكهم، فإنهم شاركوا النظام جرائمه الدموية البشعة، فما دامت الدماء، في الغالب، سورية، فمن يهتم؟ أو هكذا ظنوا.

حسناً، كانت تلك حسابات الغالبية من المعسكرين، إقليميّاً ودوليّاً، غير أن ما لم يفطنوا له، هو أن ترتد تلك الحسابات عليهم. وبدل أن تكون سورية حلبة مصارعة، يتبادلون فيها اللكمات

“الإبقاء على تلك المعادلة الشريرة سوريّاً، ما بين النظام القمعي المجرم وداعش المتطرف المجنون، يعني أن النار في سورية ستستمر في الاضطراد والتوسع، وهي لن تلبث، طويلاً قبل، أن تمسك بيباس العجز والتواطؤين، الإقليمي والدولي”

والركلات، إذا بها تتحول إلى مستنقع آسن، برمال متحركة، يكاد يمتص المنطقة برمتها في أتون جحيمه.

في سورية، اليوم، نظام متوحش، لا يتورع عن قتل أبناء شعبه وإبادتهم، وتدمير بلده، من أجل أن يحيا الطاغية في ظل وليِّ نعمته في طهران وموسكو، غير أن الإجرام يستدعي إجراماً مقابلاً، والتطرف يولد تطرفاً معاكساً، أما الفراغ فإنه يأتي بالفوضى. وهكذا، تمددت “داعش” من العراق، المنكوب هو الآخر بـ”أصدقاء” نظامه و”أعدائه”، إلى سورية.

لا داعي، هنا، للتذكير بوحشية داعش، ومن نافل القول، الحديث عن أيديولوجيا الكراهية التي تجسدها، غير أن داعش ونظام بشار الأسد وجهان لعملة واحدة، فكلاهما مجرم وعدو للشعب السوري، كما أن كليهما خصم للحرية والكرامة الإنسانية. وبما أن هذين النشازين قد التقيا، فإن تفاعلهما لابد أنه سيحيط بالجميع، من المشاركين في المأساة السورية، ومن المتفرجين كذلك. أيضاً، ستشمل الإحاطة القريب في الإقليم، والبعيد، الذي يظن أن البحار والمحيطات تعزله، ولمن ما زال في شك من الأمر، فليسأل سدني وباريس وأتوا.. إلخ.

اليوم، يجد الأردن، نفسه يجرُّ جراً إلى التورط في المستنقع السوري. فجريمة حرق الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، على أيدي داعش، أوجدت رأياً عاماً في الأردن، لمضاعفة الدور الأردني في الحرب العالمية على التنظيم المتطرف، غير أن مثل هذا التورط ليس مأمون العواقب، وها هو لبنان يدفع ثمن تورط حزب الله في دعم النظام السوري.

أميركا التي لا يريد رئيسها، باراك أوباما، أن يضع قواته على الأرض، لمحاربة داعش، بما قد يعنيه ذلك من خسائر في صفوفهم، يسعى، الآن، إلى توريط دول عربية لخوض حرب، ليس لها أفق، نيابة عن بلده. السؤال الذي لا يريد أحد أن يجيب عنه، ماذا لو تمَّ، فعلاً، القضاء على داعش في سورية والعراق؟ هل يعني ذلك انتهاء المحرقتين في ذينك البلدين؟

يعلم الكل أن إدارة أوباما لا تسعى إلى تغيير النظام السوري، ببنيته الطائفية وصبغته الدموية، بقدر ما إنها تريد إدخال رتوش تجميلية عليه، قد تتطلب رحيل الأسد والدائرة القريبة المحيطة به. ولكن، من دون التضحية بالنظام نفسه. فإذا كان هذا هو الحال في سورية، وإذا كان المطلوب عراقياً رتوشاً تجميلية، كذلك، على نظام طائفي قمعي آخر، فما الذي يدفع أحداً إلى الاعتقاد أنه لن يرث الساحة، ويملأ فراغها نسخة ثالثة من التطرف المجنون، بعد “القاعدة” وداعش؟

الإبقاء على تلك المعادلة الشريرة سوريّاً، ما بين النظام القمعي المجرم وداعش المتطرف المجنون، يعني أن النار في سورية ستستمر في الاضطراد والتوسع، وهي لن تلبث، طويلاً قبل، أن تمسك بيباس العجز والتواطؤين، الإقليمي والدولي.

باختصار، من دون صيغة تقضي برحيل نظام الأسد، ونيل الشعب السوري حريته وكرامته، في الوقت الذي يتم فيه القضاء على داعش، وتجفيف أسباب وجوده موضوعياً، فإن المنطقة، وكثيراً من العالم المتورط فيها، مقبل على حريق هائل. لم تعد المسألة صراعاً سنيّاً-شيعيّاً، فحسب، بل الأمور تسير في اتجاه فوضى عارمة، لن توفر أحداً. وأخيراً، الطغيان وانعدام الأفق في المنطقة ككل هما وصفة للدمار، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار وجود مُسَعِّرَ خراب في المنطقة: إسرائيل.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى