قبل ربع قرن، مسرح صيدنايا السرّي/ مالك داغستاني
أرواح لا تشبه السجن
هل يمكن أن تحدث أشياء جميلة في السجن؟ التوقع الأولي للإجابة عن هذا السؤال الذي يحمل تناقضاته في بنيته، هي لا. لكن ودون أن أعتبرَ نفسي متسرّعاً، ومن خلال تجربتي الشخصية (ومعي أصدقاءٌ كثر) سوف أجيب ودون تردد: أجل يمكن.
هناك تجارب لا يمكن أن تتيحها الحياة الطبيعية بإيقاعها الضاغط، بينما يجعلها زمن السجن المتمدد والطويل قابلة للتحقق. أعني بشكل خاص أن الحياة الطبيعية لا تسمح دائماً بإنجاز تلك الأشياء التي تحتاج للجهد والصبر والزمن المفتوح الذي يمنحه السجن لنزلائه (طبعاً هنا يجب عدم الوقوع في مطب التعميم، وبالتأكيد يجب استثناء السجون الجحيمية، وفروع التحقيق. الحديث هنا عن سجناء هم مجرد أعداد في سجلّات السجن).
لحجز الحرية عموماً دور وظيفي يتركز على التحطيم (المعنوي والنفسي على الأقل) للفرد المعتقل، ولكن عند توفر الاستعداد الشخصي والمقدرة الفطرية على صنع الأشياء الجميلة، وهي قابلية إنسانية يمكن تنميتها بكثيرٍ من الحُبّ، من الممكن حينها تشكيل آلية جماعية للإرادات المتقاربة لمحاولة الحدّ من مفاعيل هذا الدور التحطيمي لافتقاد الحرية.
في السجن مثلاً، يمكن لأشخاص تجاوزوا السن الطبيعية للطلاب تعلّم لغة أجنبية أو أكثر. تعلّم العزف على آلة موسيقية. الرسم والنحت، وصولاً لتجربة المسرح حتى. وأنا هنا لا أذكر هذه المجالات على سبيل الاستطراد، وإنما لأن لكل منها حكاية ملموسة ومتشعبة بتفاصيل يمكن أن تُروى في تجربة السجن.
المسرح؟ أجل المسرح، وهو ما سأكتب عنه هنا باقتضابٍ قدرَ الإمكان.
المسرح كان كالعديد من النشاطات الجميلة والإبداعية في السجن، منجزٌ محليٌ تماماً، وتجربة فريدة. أرى شخصياً أنه من الإجحاف عدم تناولها في بحث توثيقي يتجاوز ما سأقوم به الآن. والحقيقة أنني أشعر بالخجل الشخصي الشديد لأني/ لأننا تأخرنا (نحن من عشنا تلك التجربة) أكثر من ربع قرن قبل أن نكتب عنها.
في السجن كنا نردّد: «ألا يكفينا أنهم يصنعون الموت وكل هذا الشر. تعالوا لنجعل الحياة أقلَّ قبحاً»، وأجزم (وكم أود أن تشاركوني رأيي) أننا حاولنا جهدنا.
«بروفات» خلف ستائر عسكرية
بدر زكريا (مهندسٌ زراعي) امتلك من المسرح الجامعي في مدينته اللاذقية تجربةً لا بأس بها. في بدايات أيام سجننا الطويل أعلنَ في الجناح عن نيته تشكيل فرقة مسرحية، وهذه كانت بمثابة الدعوة العامة لكل من يعتقد بامتلاكه الموهبة، كي ينضم للفرقة المحدثة. هكذا بدأ بدر بتجميع فريقه المسرحي ممن أرادوا خوض التجربة. عدنان، جمال، رشاد، علي، خلدون، معن، محمد، كريم، خليل، هيثم وآخرون. كان معظم المنتسبين الجدد لا يعرفون عن المسرح إلا النذر القليل. للوهلة الأولى اعتقدنا جميعاً (نحن المعتقلون بتهمة الانتماء لحزب العمل الشيوعي، نزلاء الجناح ألِف يسار الطابق ثالث، في سجن صيدنايا العسكري، نهاية ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي) أننا سنشاهد بعد فترة وجيزة مسرحية تشبه تلك التي تقدمها الفرق المدرسية، وهذا أمر مسلٍّ ولا بأس به في عالم السجن، وسيكون مفهوماً في تلك الظروف.
كان غريباً أن تمضي عدة شهور في التدريبات، ونحن بانتظار العرض الذي تأخر. ماذا كان يفعل هؤلاء؟ كانوا يقومون بتدريباتهم في الفسحة الواصلة بين الجناحين الأيمن والأيسر، في نهاية ممشى الجناح الذي يضم عشر مهاجع. قام أعضاء الفريق المسرحي بعزل مساحة خاصة بستائر قماشية من أغلفة الفرشات العسكرية، وهناك داخل ذاك المُعتزل (وأيضاً في المهاجع ليلاً) انهمكَ أعضاء الفرقة بالقراءة حول التمثيل وثقافة الممثل (طبعاً لدينا في الجناح مكتبة تحوي آلاف العناوين وهي ملكية خاصة بنا، تجمعت مما جاء في الزيارات، وفضلُ إدارة السجن في وجودها لدينا يقتصر على السماح بإدخال الكتب أثناء الزيارات). كل ذاك التثقيف المسرحي تم مترافقاً مع بروفات قراءة الطاولة، وحفظ الأدوار، ثم البروفات الكاملة للتجربة الأولى. إضافة إلى حصة يومية تقريباً للتدريب على حركة الجسد مسرحياً، وعلى امتلاك مهارة فصل الحواس.
أولى تجارب الفرقة في جناحنا كانت مسرحية «اللجنة» المأخوذة عن رواية صنع الله ابراهيم. كان بدر قبل أن يتم تجميعنا، نحن المعتقلون الجدد، في جناح خاص، قد أخرج «اللجنة» سابقاً في الجناح ألف يمين طابق الأول، مع رفاقنا من المعتقلين قبلنا، بعدما أعدّها علي الكردي (كاتب وصحفي) مسرحياً. وأدى الأدوار فيها إضافة إلى بدر كل من علي الكردي، مازن ربيع، عبد درويش ووائل السواح.
خلال فترة التدريبات وأثناء جولة تفقدية قام بها مدير السجن العقيد بركات العش إلى جناحنا، طلب منه مخرجنا بدر زكريا الإذن باستخدام مبنى السينما الموجود فعلاً جانب البناء الرئيسي للسجن بهدف تجربة تقديم مسرحية. بالتأكيد كان بدر يرمي طلبه الفانتازي متوقعاً الرفض، لكنه إطلاقاً لم يكن يتوقع لا هو ولا نحن، سماع تلك الإجابة من العقيد العش: «وشو رأيكن جبلكون رقاصات؟».
الثقافة المسرحية تغزو الجناح
خلال فترة قصيرة بدأت تتردد في الجناح مصطلحات لم تكن معروفة لغالبيتنا (نحن الذين من المفترض أننا مشغولون بالهمّ السياسي) من قبل: الخط الدرامي، بناء الشخصية، تاريخ الشخصية المسرحية، وكثيرٌ من المصطلحات الوافدة حديثاً إلى الجناح، وصولاً إلى ذاك المصطلح الغريب «البروفا جنرال»، تلك البروفا التي أثارت بعض اللغط، بل والاحتجاجات أيضاً، حيث اختار المخرج عدداً قليلاً لحضورها، الأمر الذي اعتبره البعض تمييزاً نخبوياً غير مبرر.
إذن بعد عدة شهور تم تحديد يوم العرض الأول. في واحد من مهاجع الجناح العشرة، احتلَّ الديكور فسحة ستُدعى خشبة المسرح، وما تبقى من مساحة المهجع سوف تغدو الصالة التي ستتسع لخمسين مشاهداً إذا أحسنوا ترتيب جلوسهم. كنّا في الجناح أكثر من مائتي مشاهد محتمل، إذا لم يتخلّف أحدٌ عن الحضور، لذا قررت الفرقة أن تقدم عروضها لمدة أربعة أيام، مع ترتيبات مسبقة للمجموعات التي ستحضر كل عرض.
العرض الافتتاحي لفرقة صيدنايا المسرحية كان حدثاً يفوق الوصف، بل ويمكن القول دون الخشية من السقوط في نقيصة الخفة بإطلاق الأحكام، أنه كان عرضاً غير قابل للتصديق. الأمر الذي بدّد كل تصوراتنا الساذجة، وتشبيهاتنا الغبية لتلك التجربة المدهشة بالمسرح المدرسي. أستطيعُ الادعاء الآن دون الخوف من أن يتهمني أحد بالمبالغة، أن هذه التجربة لا يمكن أن تكون قد حدثت بهذا الشكل المتميز في أي مكان مشابه من العالم. ويوماً ما، سيكون من الإجحاف الكتابة عن تاريخ المسرح السوري دون أن تحتل هذه التجربة الاستثنائية الحيز الذي تستحقه، ليس فقط كمحطة تمتلك من الخصوصية ما يجعلها تجربة إنسانية وجمالية وإبداعية لا تشبهُ ما يمكن أن يُقارنَ بها، بل بصفتها المجردة كتجربة مسرحية سورية، من الواجب (إنصافاً للمسرح السوري) أن تتبوأ موقعها المستحق بجدارة ضمن التجارب المسرحية السورية المميزة.
علب المربيات و«سبوتات» للإضاءة
كانت «سبوتات» الإضاءة مجموعة من العلب المعدنية (معلبات المربى)، تم إلصاق ورق القصدير اللماع لأغلفة علب السجائر في داخلها، لتعطي الانعكاس الضوئي المطلوب بعد تركيب المصابيح بداخلها. قام فنيو الفرقة بتوصيل المصابيح بأسلاك كهربائية انتزعت من علب الكهرباء في جدران الممر. كانت تلك الأسلاك قد زُرعت هناك أصلاً لتمديدات الإذاعة التي لم تعد تبث شيئاً في تلك الفترة، وهذا ما دعانا للطمأنينة بأن عناصر الشرطة لن يضبطوا اعتداءنا على الممتلكات العامة للسجن (توقفت الإذاعة عن العمل بعد استشهاد إحسان عزو المعتقل بتهمة الانضمام لحزب العمل الشيوعي، من مدينة السلمية. معاقباً في زنزانةٍ انفرادية نهاية عام 1987، إثر احتجاجه أمام عناصر الشرطة على بث خطابات حافظ الأسد عبر تلك الإذاعة الداخلية). تم تمديد الأسلاك من العلب (السبوتات) المثبتة على السقف والجدران إلى لوحة خشبية كانت قد جُهّزَت من خشب صناديق الخضار، لتكون لوحة التحكّم لإدارة الإضاءة المسرحية. على اللوحة تمَّ تثبيت عدد من «السرنكات» الطبية المستعملة، وتلك «الحقن» ستكون مفاتيح الكهرباء التي ستشعل وتطفئ الإضاءة بإيصال أو فصل طرفي الأشرطة السالبة والموجبة، عبر دفع المحقن الخاص بكل «سبوت» بطريقة مدروسة تتناسب مع كل مشهد، وسيدير تلك العملية (مهندس الإضاءة).
موسيقا خشب «السحاحير»
أثناء البروفات اشتغل على موسيقى المسرحية كل من حسان وأسعد وأنور لتتناسب مع المشاهد، وتضيفَ إليها الشحنة الدرامية المطلوبة (بماذا ورّطتُ نفسي؟ أي حديث عن هذه التجربة سوف يتطلب الكثير من الشرح والاستطراد. لا بأس)، حسان عبد الرحمن (طالب كلية الطب) يعزف على آلة العود، أسعد شلاش (خريج معهد موسيقا) عازف عود أيضاً، وأنور جعفر (طالب قسم الفلسفة) عازف غيتار. ثلاثتهم يمتلكون مهارة عالية لا تقل عن الموسيقيين المحترفين في شيء، وسوف يرافقهم على الإيقاع (بيدون الماء) موريس وانيس (طالب كلية الاقتصاد). أما العود والغيتار فهما، ككل منتج في السجن، صناعة محلية، وأيضاً من خشب صناديق الخضار، «السحاحير». كانت الأوتار في البدايات تُجدَلُ من خيوط الجوارب التي لم تعد صالحة للاستخدام، أما فيما بعد، فقد أمكن تهريب أوتار عادية، وكانت تلك نقلة مهمة في تاريخ موسيقا السجن. كان هناك مهندسون في الجناح أضافوا لاختصاصاتهم الأساسية في الهندسة المدنية أو المعمارية أو الميكانيكية، اختصاصاً جديداً وتطوعوا لصناعة تلك الآلات بالمقاييس والسماكات الدقيقة، وبأدوات من صناعة محلية أيضاً. والحقيقة أن عملهم كان شاقاً في بعض الأحيان. فعندما تتم مصادرة العود أثناء التفتيش، كان عليهم صناعة البديل خلال أيام قليلة. إذ لم يكن من الممكن تصور الجناح بدون عود وبدون موسيقا. سجن دون موسيقا؟ إنه حقاً أمرٌ لا يُحتمَل. حسان كان جاري في المهجع لسنوات، وقد اختبرت ذلك شخصياً، فقد ساهم هو وموسيقاه في تقديم مساندة نفسية هامة لقدرتي الذاتية على احتمال تلك السنوات الطويلة في السجن.
ملابس، مكياج وديكور على «خشبة مستحيلة»
لنعد إلى المسرح. الملابس والماكياج وصبغات الشعر قام بإعدادها وتجهيزها مختصون آخرون، فجناحنا لم يكن يخلو من عدة فنانين تشكيليين، ومن المفارقات أنه تم الاضطرار لاستخدام ألوان الرسم بما فيها من مواد كيماوية على وجوه الممثلين، الأمر الذي سبب الحساسية للعديدين منهم، ومع ذلك تابعوا استخدامها حيث لا بديل. الديكور كان الموضوع الأصعب، خاصةً في المسرحية التالية «البيت الذي شيده سويفت» لمؤلفها غريغوري غورين. ثائر ديب (طبيب ومترجم) كان قد ترجم المسرحية قبل السجن لصالح سلسلة المسرح العالمي الكويتية (صدرت المسرحية في أول عدد نشر بعد تحرير الكويت)، وفي السجن استطاع استعادتها من الذاكرة وكتابتها. في الإهداء بطبعتها الثانية بعد خروجه من السجن، سيكتبُ ثائر: «إلى تلك الفرقة التي أدّت هذه المسرحية على خشبةٍ مستحيلة».
كان على الديكور أن يماشي الوضع الأمني، ولذا توجّب أن تتوفر فيه قابلية الطي والإخفاء خلال أقل من دقيقة تحسباً لمداهمات التفتيش، كما كان عليه أن يكون قابلاً للتبديل السريع للانتقال من مشهد لآخر، وأن يلبي ويكون صالحاً لأكثر من استخدامٍ واحد خلال العرض. في مسرحية «سويفت» هناك مشاهد لمجموعة من الأقزام. ولأنه كان من المستحيل، تصغير الممثلين، فلم يكن هنالك بدٌّ من تغيير بعض جمل الحوار التي ستوحي بحجم جسم قائلها الضئيل، إضافة لتصنيع ديكورات كبيرة في بعض المشاهد، لتعطي الإيحاء بصغر حجم تلك الشخصيات، كأن يكون فنجان القهوة أعلى من الممثل. ثانيةً كان هناك المهندسون الذين سيتصدون لهذا التحدي، وما أكثرهم، ففي جناحنا فقط أكثر من عشرين مهندساً، ومن جميع الاختصاصات. عمل غسان مارديني (مهندس عمارة) وجميل أضنهلي (طالب هندسة مدنية) وكرم كردية وآخرون لأيام طويلة في صناعة الديكورات، مستخدمين الخشب والقماش والحبال المجدولة من خيوط أكياس النايلون، وعجينة خاصة تدخل في مكوناتها أطباق البيض الكرتونية مع الخبز وبعض الصبغات المحلية، لصناعة المجسمات المطلوبة. كل هذا كان يجري بالتوازي مع البروفات اليومية، ومراقبة بدر ومتابعته القلقة والمتوترة لتفاصيل العمل كأي مخرج محترف. لم يكن بدر يخاف الفشل، بل بدا خوفه تفصيلياً أكثر. كان يخشى أن يخدش عرضه أي نقص أو هفوة بسيطة.
سينوغرافيا؟ لِمَ لا؟
«يجب أن نستخدم سينوغرافيا تعتمد الإضاءة المتحركة في مشهد حرق المعبد»، بهذه البساطة أطلق بدر زكريا فكرته العصّية على التطبيق في ظروف السجن خلال الاستعدادات لمسرحية «إنسواهيروسترات». وما دام بدر قد انتوى ذلك فسوف يكون. شاشات من القماش الأبيض سوف تتوضع بطريقة مدروسة لتنعكس عليها إضاءة صفراء وحمراء متحركة، بما يوحي بحركة ألسنة اللهب وانعكاساتها على عموم الفضاء المسرحي. شكلت تلك اللقطة لحظة عرضها مشهديةً مسرحيةً أذهلت الجمهور، ويمكن القول إنها أربكته أيضاً. «يا إلهي كيف حدث هذا؟»، سيهمس أحد المشاهدين خلال العرض.
ممثلون ولِدوا على خشبة مسرح
يمكن وضع كل ما سبق في كفّة، وفي الكفة الأخرى الأداء المفاجئ للممثلين، الذين فرضوا (وهذا لا يحدث كثيراً في عالم السجن) قُدسيّةً وصمتاً مذهلاً طوال فترة العرض. طبعاً باستثناء تفاعلهم الاعتيادي كأي جمهور مسرحي عريق. لن يصدق أي مشاهدٍ للمسرحية أنها كانت التجربة الأولى لأولئك الممثلين، وسيعلّق البعض أن هؤلاء لا بدَّ قد ولدوا وعاشوا على خشبة مسرح. فيما بعد، وإثر عرض مسرحية «إنسواهيروسترات» لغريغوري غورين أيضاً، والتي تتناول أحداثها أحد المغمورين من عامّة الإغريق الذي قام بحرق معبد دِلفي بهدف الشهرة، ثم مسرحية «الزيادة» لـلكاتب دينو بوتزاني، سيؤكد كثيرون ممن هم على دراية، أن عدنان البب (مهندس زراعي) وخلدون ضوّ (طالب هندسة كهربائية) لم يكونا أقل شأناً في امتلاكهما لأدواتهما في التمثيل المسرحي والموهبة عن ممثلي الصف الأول المحترفين في المسرح السوري. أتذكر الآن تعليقي يومها، بأن أداء خلدون المذهل أحالني مباشرة إلى أدوار الفنان المسرحي السوري العظيم يوسف حنا. كذلك كان تميز باسل خوري (طالب هندسة مدنية) بدور العانس (مع صدر نسائي من البالون) في مسرحية اللجنة. وفي ندوة نقدية بعد عرض هيروسترات سيعلق أحدهم جازماً أنه ليس بمستطاع أي ممثلة في فرق الهواة المتمرسة في سوريا، تجسيد دور الملكة في مسرحية «إنسواهيروسترات» كما فعل رشاد عبد القادر (اعتُقِلَ وهو طالب ثانوية عامة).
أدى خليل مسلم (فنان تشكيلي) الشخصية اللئيمة «كريسيب» في مسرحية «إنسواهيروسترات» بتميزٍ مبهر، مع إتقانه الخاص لتلك الضحكة اللئيمة المستفزة والماجنة، ما حدا بأحد الأصدقاء لأن يطلب من المخرج بدر (مازحاً) أن يغير دور خليل قبل أن نكرهه. في إحدى البروفات النهائية، وكان اللباس المسرحي خفيفاً في جو من البرد الشديد، مرض جميع أعضاء الفريق المسرحي. أخبرني خليل يومها، أنه بسبب نزلة البرد أدى دوره حركياً دون كلام أثناء «البروفا جنرال»، وبعد انتهائه من تأدية أحد المقاطع، نظر باتجاه المخرج ليرى انطباعه وإن كان راضياً. كان بدر يبكي من شدة التأثر.
لم يقتصر دور بدر زكريا على قيادة الفرقة والإخراج، بل كان يشارك تمثيلاً في معظم المسرحيات، وليس من المبالغة القول إن انشغاله بالإخراج جعلنا نخسره في العديد من المسرحيات كممثلٍ مذهل، حيث كان يكتفي ببعض الأدوار المساعدة. لكن في مسرحية «الأوراق» المأخوذة عن رواية عزيز نيسين أدهشنا بدر كممثل بقدر إدهاشنا كمخرج، وكذا فعلَ معن ابراهيم (طالب هندسة كهربائية) الذي شاركه بطولة المسرحية.
لو أردنا الحديث عن إنتاج محلي صرف لمسرح صيدنايا، فإن الإشارة ستتوجه فوراً إلى مسرحية «النظارة». كتب محمد ابراهيم (مهندس كهربائي) المسرحية، وقدمتها الفرقة بإخراج بدر. كانت تلك تجربة محمد الأولى في الكتابة المسرحية، ما جعل من تلك المسرحية تجربة تخصّ فرقة صيدنايا من ألِفِها إلى يائها. وسوف يعلّق أحدهم في تلك الأيام: يا الله! من أعطى لنفسه الحق بسجن هؤلاء الناس وسرقة أعمارهم كل تلك السنوات؟
عروض خارجية
انتشرت أخبار العروض المسرحية المثيرة من جناحنا (عبر وسائل التواصل الخاصة بالسجناء) إلى باقي الأجنحة، فما كان من رفاقنا القدامى (معتقلون قبلنا، بين عامي1980 و1986) الموجودين في الجناح جيم يسار طابق ثاني، إلا أن طالبوا بحقهم (المشروع) في حضور ومشاهدة العرض. «حسناً سننتقل إلى جناحكم ونقدم العرض فاستعدوا»، هكذا جاء رد الفرقة. وهكذا كان على الفرقة الانتقال إلى جناح آخر دون علم إدارة السجن، لعرض مسرحية «إنسواهيروسترات» التي كانت قد عُرضت مؤخراً في جناحنا. هل هذا ممكن في ظروف السجن؟ أجل.
مع خسارة عدة أجزاء من قطع الديكور التي لا يمكن إخفاؤها وتمريرها أثناء عملية الانتقال لهذا العرض الخارجي، تمت العملية بيسر بعد تنسيق دقيق استمر فترة ليست بالقصيرة حتى جاءت ساعة الصفر. في ساحة التنفس تبادل أعضاء الفرقة الأمكنة مع عدد مماثل من الجناح الآخر، أثناء وجودنا معاً في الساحة. صعد أعضاء الفريق المسرحي إضافة للموسيقيين إلى الجناح المُضيف، وعاد معنا إلى جناحنا البدلاء المتطوعون من أصدقائنا الذين تم التنسيق معهم مسبقاً وبدقة عالية، حتى لا يحدث أي خلل في العدد كان سيؤدي لعقوبات جماعية لا تحمد عقباها. تبديل الأشخاص لأجنحتهم لو تمّ بذات العدد هو أمر لن ينتبه له الحراس، فنحن لم نكن سوى عددنا في الجناح، ويتم تفقدنا كل مساء بالعدِّ، فأسماؤنا كحياتنا، لم تكن تعني الكثير لإدارة السجن، التي لم تعلم شيئاً عن هذه التجربة العظيمة لمسرح صيدنايا.
تم العرض في الجناح المُضيف، وخَلَقَ (كما علمنا فيما بعد) أجواء جديدة في حياة أصدقائنا الرتيبة نوعاً ما. تبع العرض ندوات نقدية، تماماً كما كان يحدث عندنا بعد كل مسرحية جديدة. نقاشات لم تكن تنتهي إلا بعد مرور أيام كثيرة. بعد عدة أيام وخلال فترة التنفس التالي تم التبديل المعاكس. وهكذا عاد الفريق المسرحي من رحلته وعرضه الخارجي الأول (والأخير طبعاً)، وانقضت تلك المغامرة المقلقة بسلام.
عرّافة دِلفي
أثناء الاستعداد والتحضير لمسرحية «إنسواهيروسترات»، احتاجت الفرقة لاحتلال مهجع لمدة أسبوعين من أجل إجراء البروفات. وكان أن تم الاتفاق معنا نحن نزلاء المهجع السابع أن نخلي مهجعنا ونتشرد في باقي المهاجع تلك الفترة المطلوبة. أثناء حمّى البروفات النهارية والليلية بقيت هناك معضلة لم تحل. إنها ملابس كريم السيد (مهندس مدني توفي خريف عام 2014) الذي سيقوم بدور عرّافة دِلفي. كان جمال الكردي (طالب هندسة عمارة) كلما جهز تصميماً للملابس السوداء للعرافة يعرضه على بدر، فيمط المخرج المتطلّب شفتيه تعبيراً عن عدم الاقتناع. في إحدى الليالي، وكان بدر غارقاً بين أوراقه في وقت متأخر بينما جميع أعضاء الفرقة نيام، غفا على فراشه ورأسه مستندٌ إلى الجدار. في نومه وجد بدر الزي المناسب للعرّافة. استيقظَ كالملسوع وانقضَّ على كريم يهزه ويوقظه. كريم المرعوب قفز من نومه مذهولاً، وما لبث أن استسلم لنوبة جنون بدر الذي راح يلفّ قطعة القماش السوداء على جسمه بطريقة خاصة، ويثبتها بالدبابيس. عندما انتهى من إلباسه الزي طلب من كريم أن يحفظ الطريقة بدقة من أجل العرض. كريم نصف النائم والمذهول سيقول لبدر: إن اكتشفتُ يوماً أن نسلي قد قُطع، فسوف تكون أنت السبب.
لم يكن من الممكن دائماً إجراء التدريبات والبروفات في نهاية الجناح، فتضطرُ الفرقة لاستعارة واستخدام المهاجع. خلال التحضير لعرض مسرحية «سويفت» أخبرَ بدر نزلاء المهاجع أنه يريد في كل يوم إفراغ مهجع من نزلائه لمدة أربع أو خمس ساعات. طبعاً وافقَ الجميع، مع شيء من التململ من البعض.
عندما جاء الدور على المهجع الأول، وكان نزلاؤه من الأصدقاء في الحزب الشيوعي، المكتب السياسي. تم إفراغ المهجع، لكن ولسبب ما، كان أبو محجوب (الذي يعتبر كهلاً قياساً لأعمار أعضاء الفرقة) مزعوجاً ذاك اليوم، كما كان الجو شديد البرودة والبقاءُ في الفراش أكثر دفئاً، فرفض مغادرة المهجع. «بلا بروفا بلا…… ما رح أترك فرشتي»، ردَّ الطيب أبو محجوب. كان فراشه يقع وسط ما يُفترض أنها المنصة، وهو المكان الذي سيحتله جمال الكردي «سويفت»، الذي يبقى صامتاً طوال العرض. سريعاً طلب بدر من جمال أن يتنحى عن البروفا، وأخبر أعضاء الفرقة أن أبو محجوب سيكون سويفت لهذا اليوم. عند انتهاء البروفا وبعد أن كان أبو محجوب (سويفت الصامت) شاهداً على الجهد والتعب والجدية في العمل. قام إلى أعضاء الفرقة والدموع في عينيه معتذراً: «لا تواخذوني يا شباب، خذوا المهجع، خذوا فرشتي، خذوا ثيابي، خذوا اللي بدكم ياه».
ممنوع التدخين، تقاليد مسرحية صارمة
أثناء الدخول لحضور عرض سويفت كان كل فرد من الجمهور يحمل بيده قصاصةً من الورق عليها بعض الكتابات وما يشبه الختم لتبدو كتذاكر دخول المسرح، مع وجود أحد أعضاء الفرقة على الباب ليتسلم التذاكر ويتأكد من صحتها. «أبو زياد. ما هذه الأوراق التي تحمل ختماً أيها المجنون؟»، سألتُ بدر. «إنها تذاكر الدخول من أجل تحديد العدد اليومي للحضور، ومن أجل تلافي أي فوضى، أما الختم الذي صنعناه من الخشب فهو للتأكد من البطاقة ولعدم حدوث أي خلل».
فيما بعد سيخبرني بدر أنها تقاليد المسرح التي يجب أن نعيش كل تفاصيلها ونحترم كل مفرداتها، حتى تلك التي ستبدو غير ضرورية في هذا السجن. في ندوة تالية للعرض سيذهب محمد ابراهيم أبعد من ذلك: «لقد أحسست وأنا أمسك بالبطاقة أنني فعلاً على باب مسرح، وأن صديقتي كانت ستصل بعد قليل، لندخل ونشاهد المسرحية معاً».
بطبيعة الحال، كان التدخين ممنوعاً خلال العروض. يوم العرض (الخارجي) لمسرحية هيروسترات كان منيف ملحم (أبو وليم، ضابط سابق) متردداً إن كان سيحضر العرض أم لا: «إنهم عدنان وجمال وكريم الذين أعرفهم، فلماذا سأحضر وأشاهدهم هنا؟» هذا ما أخبر به أبو وليم صديقه بدر. في التسوية النهائية وبعد الإصرار عليه للحضور، اشترطَ أنه سيغادر عندما يشعر بالملل، ولأن فتح الباب ممنوع خلال العرض فيما لو أراد المغادرة، اتفقا أن يجلس في الصف الأخير قرب الباب أمام بدر الذي كان يدير الإضاءة في تلك المسرحية إضافة للإخراج. سيخبرني بدر فيما بعد: «بقي أبو وليم خلال ساعتين وربع (مدة العرض) جالساً ومسنداً يده المرفوعة على ركبته. كان يحمل في يده المرفوعة سيكارة مطفأة بانتظار مغادرة العرض كي يشعلها». في نهاية العرض سيعلّق منيف الذي لم يغادر بالطبع: «لم يكن هؤلاء عدنان وكريم وعلي وهيثم الذين أعرفهم، كان هؤلاء العفاريت ممثلين حقيقيين لم يسبق لي أن شاهدتهم أو عرفتهم».
مسرح الهواء الطلق التفاعلي «فشيفش»
علي الحكيم (طالب هندسة مدنية) وهو أحد أعضاء فرقة صيدنايا الأساسيين، الذي يتميز في حياته الشخصية مع صديقه جمال الكردي الممثل أيضاً بالفرقة، بقدرات استثنائية على السخرية. السخرية من أي شيء. نعم أي شيء أو أحد يقرران السخرية منه حتى لو لم يكن يستحق. خطرت لعلي فكرة إنشاء «مقهى مسرحي». سريعاً تمّ تجهيز مستلزمات المكان في الفسحة نهاية الجناح. شاركه في التجربة عماد فطوم (عامل قطاع خاص. توفي ربيع عام 2014) وياسين شمسين (موظف في الإسكان العسكري) وخليل مسلم. فجأة تحول علي إلى اسمه الجديد «المعلم فشيفش» صاحب المقهى الذي حمل الاسم نفسه، والأصدقاء الثلاثة الآخرون تناوبوا على أداء دور (الكراسين). فشيفش اسم مكان على كورنيش بحر اللاذقية، استحضره علي بأفكاره المجنونة بطبيعتها، ليطلقه على المقهى.
دون معرفة مسبقة بتراث الكوميديا المرتجلة أو عروض الهواء الطلق والحوار الارتجالي بين الممثل والجمهور، أعلن المعلم فشيفش عن افتتاح مقهاه الذي سيقدم الشاي والقهوة، للزبائن المحتملين. كان على أي أحد سيصل المكان أن يتحول إلى ممثل على الفور، وإلا سيبدو حالة شاذة وغريبة وحتى كاريكاتيرية ضمن الفضاء المحيط. ولهذا لم يكن يفكر بمجرد الاقتراب مَنْ كان يخشى خوض هذه التجربة الفريدة. كان لافتاً في المقهى ومميزاً على الدوام الكرسون المهموم (عماد فطوم) المتزوج من اثنتين، والذي يحمل همومه ومعاناته مع زوجتيه من البيت إلى المقهى، ويبث شكواه لأي زبون في المقهى، ويخبره عن مشاكله العائلية (المفترضة)، أراد الأخير الاستماع أم لم يُرد.
حكواتي صيدنايا
كل أفكار علي الحكيم المجنونة، والتي لا يمكن أن تخطر لغيره، نفذها في هذا المسرح: موائد القمار الخضراء، المراهنات على نتائج كأس أوروبا لكرة القدم، البطولة الدولية للشطرنج وطاولة الزهر، اليوم العالمي للكذب، إضافة لفقرات اعتبرت يومية تقريباً. قام أيمن قاروط (طالب في قسم الفلسفة) بأداء دور الحكواتي. أيمن أيضاً من ممثلي الفرقة المميزين، كان يحضر كل يوم بهيئة كهلٍ يعتمر الطربوش الأحمر، مرتدياً (شروالاً) وواضعاً الشال على كتفيه، إضافة لنظارة قديمة متهدّلة على أنفه ميزت الكاركتر الذي أدّاه أيمن بإتقانٍ لا يصدق. كان الحكواتي يروي يومياً من كتاب ألف ليلة وليلة، مع إضافات إبداعية مستوحاة من أجواء وواقع حياتنا اليومية في السجن. هذا الخروج المتكرر عن النص إضافة لحركات مسرحية خاصة، هو ما كان يخلق الأجواء الكوميدية والساخرة التي أرادها من تقديم تلك الفقرة اليومية.
ارتجال: مخيلة الممثل الإبداعية
عدا ارتجالات صاحب وعمال المقهى التي كانت حاضرة على مدار الساعة، في مسرح فشيفش كان متاحاً لكل من أراد المشاركة، الانخراط بارتجالٍ ما، وكيفما اتفق. عصر أحد الأيام، ودون علم «المعلم فشيفش»، جهز كل من بدر زكريا وأيمن قاروط نفسيهما باللباس المناسب للعب دور «القبضايات» المتنمرين. حضرا إلى المقهى بنظرات تزدري باقي الحاضرين. وحسب ما كانا قد خططا، افتعلا مشكلة مع أحد الكراسين، وما لبث الأمر أن تطور فضربا المعلم فشيفش والعمال وكل من تدخل من زبائن المقهى. انسحبَ المعتدون بعد أن خلّفوا حالة من الفوضى بدا معها وكأن محتويات المكان قد تحطمت. سيخبرني علي في فترة لاحقة أنه لوهلةٍ ظنهما يضربانه بجد.
يومياً كانت تجري العديد من حالات القصّ الارتجالية لمن يريد المشاركة عفوياً ودون أي تنسيق مسبق. أكثر تلك التجارب لفتاً للنظر كانت مع الخيال بالغ الخصوبة الذي قدمه عبد الكريم متوِّج (طالب هندسة زراعية) في قصصه التي تحاكي إلى حد غير قليل، الواقعية السحرية عبر ارتجالات إبداعية كانت توحي أن صاحبها قد عاشها فعلاً.
فشيفش وغورباتشوف وداريو فو
تماشياً ومواكبة للأحداث العالمية، كان المعلم فشيفش يغير من روتين المقهى، كلما تطلب الأمر ذلك. أثناء الانقلاب العسكري على غورباتشوف زعيم الاتحاد السوفييتي في تلك الفترة، تناغمت القهوة سريعاً مع الحالة الروسية الجديدة. فرض فشيفش حالة الطوارئ، وصار على كافة الزبائن الانضباط والالتزام الصارم بالدور للدخول للمقهى وحتى خلال تحركاتهم ضمن المكان. رسم دروست عزت (فنان تشكيلي) لوحات فنية كاريكاتيرية للمعلم فشيفش تتناسب وتجاري الانقلاب الروسي وحالة الطوارئ وتم تعليقها في المقهى. وهكذا تحول المعلم فشيفش إلى ديكتاتور عسكري صارم يطلق الأوامر ولا يجيد الابتسام. الابتسام الذي لم يغادر المقهى في أية لحظة.
ما قام به علي الحكيم كان الأشد شبهاً لما فعله المهرج الإيطالي العظيم داريو فو في تجربته الشاقّة التي أسماها مسرح البلدية في روما. كان فو يقوم مع فرقته بتحويل مكان مهجور إلى مسرح للحرية بالجهود الفردية للممثلين. من المؤكد أن مسرح داريو فو هذا لم يكن يومها الملهم لعلي الحكيم ولا لمجمل تجربة قهوة فشيفش. لكن اليوم وبعد ربع قرن على التجربة، أجد شخصياً أن هذه المقارنة تبدو معقولة، لو أردنا اشتقاقاً، نحتَ مصطلح «المسرح المُقارَن».
موت مسرحنا صدفة
كانت مسرحية «موت فوضوي صدفة» لـ داريو فو ستغدو آخر المسرحيات كما كانت تشير مواعيد محاكماتنا في محكمة أمن الدولة العليا. أجرت الفرقة العديد من البروفات، ثم توقفت لفترة وعادت ثانية. تكرر هذا الأمر عدة مرات طوال سنة كاملة، ومع ذلك لم يكن مقدراً لهذه المسرحية الرائعة أن ترى النور على مسرح صيدنايا للأسف. كانت أخبار مؤكدة قد بدأت ترد إلينا عن قرب خروجنا من السجن (طبعاً لم يحدث ذلك إلا بعد سنوات). وكان لهكذا أخبار تأثير قوي على الوضع النفسي للسجناء عموماً بمن فيهم أفراد الفرقة، ولذا توقفت البروفات نهائياً. هذه النهاية الدرامية لمسرح صيدنايا صاحبتها غصّة (قد تكون شخصية). فمسرحية داريو فو تلك بالذات كانت كدراما، تلائم وجودنا التراجيدي في سجن الأسد الأب. إنها من أشهر مسرحيات صاحب جائزة نوبل، وقد كتبها عن قصة حقيقية لموت أحد السياسيين الفوضويين أثناء احتجازه لدى الشرطة، وتعتبر من أهم نماذج التوظيف السياسي للكوميديا السوداء في المسرح.
اليوم، ونحن نقرأ التقارير، ونستمع إلى قصص الناجين من (مسلخ) صيدنايا عن آلاف حالات الإعدام التي تمت وتتم فيه في زمن الأسد الابن، نردِّد (في دواخلنا على الأقل، نحن نزلاؤه السابقون) أن سجن صيدنايا في تلك الفترة كان منتجعاً من فئة الخمسة نجوم فعلاً، مقارنةً مع ما يشهده اليوم من جرائم. في أيامنا تلك كان الجحيم السوري الحقيقي الذي أنجزه الأسد الأب وأزهقَ فيه عشرات الآلاف من أرواح السوريين، هو سجن تدمر.
موقع الجمهورية