قبل “عاصفة الحزم” وما بعدها/ ميشيل كيلو
قطعت عملية “عاصفة الحزم” العسكرية مع ما سبقها من سياسات وأجواء محلية وإقليمية ودولية. وأتت رداً على حدث قطع بدوره مع ما سبقه، وضع سلطة دولة عربية خليجية مهمة ومصيرها في أيدي أصدقاء إيران من الحوثيين، وهم طرف خارج على النظام، سبق له أن خاض حروباً متعاقبة ضده، بمعونة قوة إقليمية هي إيران، لا تخفي عداءها للعرب، وعزمها على إدارة بلدانهم توابع لها، بما لها فيها من اختراقات منظمة أثبتت نجاعتها في لبنان والعراق وسورية، وها هو اختراقها اليمني يثبت بدوره فاعليته.
إذا كان معروفاً الواقع الذي نغادره، فإن المصير الذي ينتظرنا ما زال مجهولاً ومشحوناً بأخطار شتى، تتطلب التعامل مع الأحداث بروحية مفعمة بالحذر واليقظة، وبقدر من الانفتاح على الداخل والصلابة حيال الخارج، لم نعهدهما من قبل في خياراتنا وسياساتنا، وقدر من الجدية لا يستهين بعدو، أو يفرط في صديق، كما تحتم السير على طريق نرى نهايتها من بدايتها، فلا نتخبط أو نتوه فيها، ولا نقف حيث يجب أن نسير، أو نسير حيث علينا التوقف.
تقطع “عاصفة الحزم” مع ما سبقها، والقطع مع واقع قائم فعل شديد الصعوبة كثير التعقيد، يؤدي إلى المهالك، إلا إذا انطلق من أفضل ما هو قائم في الواقع الذي تقع القطيعة معه، وتحرر بسرعة مما هو فاسد، وفات زمانه فيه، واستند على قوى مجتمعية وسياسية مؤمنة به، مهيأة لحمله وقادرة عليه، هي طرف في مشروع التجديد، الذي يبدأ مع القطع.
لماذا يحتاج العرب إلى القطيعة مع واقعهم؟ الجواب المرجح لأنهم لن يتمكنوا من كسب معركة تحجيم الوجود والنفوذ الإيراني في الخليج والمشرق، ناهيك عن إخراجه منهما، إن بقوا على ما هم عليه من تشتت وخلافات، وظلت علاقاتهم الداخلية محكومة بالتناقض بين النظم وشعوبها، وبالقطيعة بينهما التي يمكن أن تتسع وتتعمق، خلال معركة طويلة ضد خصم يحسن اختراق مجتمعاتنا، له فيها أسافين أفاد في تكوينها من سياسات إقصائية دأبنا على ممارستها ضد فصائل وأطراف منا، رأينا فيها الآخر والمختلف، وليس فصيلاً أصيلاً من شعبنا، له ما لنا وعليه ما علينا، من حقه أن تكون له حقوق مصانة، وينعم بعدالة تساوى بينه وبين بقية مواطنيه. بما أن المعركة مع إيران تدور داخلنا، وتشبه عملاً جراحياً سيقتلع كياناً غريبا من جسمنا، فإن خسارتها، أو توقفها قبل تحقيق أهدافنا، سيقلبان علاقاتنا التاريخية مع طهران من حالٍ كنا فيها المركز وهي المحيط، إلى حال نقيض، هي فيها المركز ونحن الهامش التابع الممسوك بقوة من داخله. السؤال الذي يطرح نفسه علينا اليوم: هل اتخذنا في أي مجال من المجالات، الرسمية والوطنية، الخطوات التي يتطلبها كسب المعركة، أم أننا نخوضها لإنقاذ أوضاعنا الراهنة، الف
اسدة والواهية، وما يتطلبه من جنوح إلى حلول تبقي لها اليد الطولى في بلداننا، كما لمرتزقتها الذين سيصيرون سادة أوطاننا، كحالهم في لبنان والعراق؟
يقف الخليج أمام منعطف تاريخي، ستقرر نتائجه مصيره لعقود مقبلة، فهل أخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار في تفكيره وخططه، قبل أن يخوض الحرب؟ وهل وضع في حسبانه ما قد تمليه مجرياتها عليه من تدابير وإجراءات يرفضها قادته اليوم، قد تكون إنقاذية غداً؟
تواجه إيران وضعاً لا يقل صعوبة عن وضع الخليج، فالاتفاق النووي يفتح الباب أمام أشكال تدخل متنوعة في شؤونها، لأن تطبيقه يعني تقييد سيادتها، أقله فيما يخص برنامجها النووي، وتبديل علاقاتها مع العالم الخارجي نحو الأحسن مع البلدان الأكثر تقدماً والأقوى عسكرياً، التي فرضت عليها ما رفضته طوال عشرة أعوام ونيف، والأسوأ مع جيرانها المباشرين الذين نجحت في مد أيديها عميقا إلى عالمهم. أليس من اللافت أنها تتراجع أمام الغرب، بينما تقتحم اليمن، لاعتقادها أن الخليج ضعيف، وتكفي لاختراقه قلة منظمة، مدربة وجيدة التسليح والتوجيه، تفيد من تشتته السياسي والهوة القائمة بين حكامه ومحكوميه، ومن افتقار مجتمعاته إلى خبرات سياسية وتنظيمية كافية لصد غزاتها الداخليين الذين يستغفلون جماهيرها، ويدغدغون عواطفها باستخدام إعلامي مفرط لقضاياها الوطنية والقومية التي فشلت بلدانها في حلها أو التصدي لها، وفي مقدمتها قضية فلسطين؟
بالاتفاق النووي، يرجح أن تطبع إيران علاقاتها مع العالم الغربي، وتتكيف مع مصالحه، في المنطقة العربية بصورة خاصة، مقابل ممارستها دوراً يتكامل مع الدور الإسرائيلي، سواء حدث ذلك عن وعي أو بحكم الاصطفاف الذي سيفرضه انضواؤها في قضايا العالم وسياساته تجاه عرب يستضعفهم الآخرون، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، تعد طهران نفسها بدور خاص ومغانم وفيرة من الإمساك ببلدانهم، بواسطة اختراقات داخلية متموضعة في كل مكان منها، نجحت في العقدين المنصرمين في تعبئتها وفصلها عن بقية مجتمعها، وتنظيمها وتدريبها وتسليحها، وتحويلها إلى فصائل من جيوشها تأتمر بأمرها، بكل معنى الكلمة. لكن إيران تواجه وضعا سيكون شديد الخطورة عليها، وعلى أتباعها، إن تطور وتكامل وأنضج على الصعيدين، الوطني والقومي، واكتسب ديمومة يتحول العرب، بفضلها، إلى جسد موحد تحل مشكلاته المشرقية وتطرد إيران منه، كما تقوض قدرتها على اختراقه من جديد، ووضعه أمام أحد خيارين: الخضوع أو الحرب الأهلية، مثلما فعلت في لبنان وتفعل في سورية والعراق وأخيراً اليمن. تواجه إيران، اليوم، محدودية سيادتها في الاتفاق النووي، وحدود قدرتها في الخليج، بفضل “عاصفة الحزم” التي تطرح عليها معادلة صعبة هي: الوقوف مكتوفة الأيدي حيال تحجيم مرتزقتها، وتقويض قدراتهم العسكرية وطموحاتهم السياسية، أو الانخراط في معركة يحولها تدخلها إلى حرب قومية، لن يكون لديها القوة لكسبها، إن تجرأت وخاضتها أصلاً، لعلمها أنها ستكون طويلة، طرفها الآخر القسم الأكبر من بلدان العالم الإسلامي، وأنها ستنهي الشراكة التاريخية التي جمعتها بروح الإخاء مع العرب والمسلمين، واستغلتها لأغراض طائفية، تمزق العالمين العربي والإسلامي، وتخدم أعداءهما.
“ماذا يبقى أمام إيران من خيارات، إن قررت خوض المعركة، غير التحالف مع إسرائيل، مقابل الخروج من ورطتها والاندماج في استراتيجيات واشنطن العربية؟”
تواجه جميع أطراف الصراع الذي فتحت صفحته بصورة معلنة وعامة مع “عاصفة الحزم” مشكلات تتعلق بسياساتها ونظمها واستراتيجياتها، من المحتم أن تتحسب كثيراً وبكل جدية لانعكاساتها عليها. مثلاً، إيران مدعوة اليوم للرد على سؤال مهم هو: إذا كانت قد اضطرت إلى قبول اتفاق نووي مع الغرب، طالما رفضته في عشرة أعوام ونيف، ولا تستطيع ممارسة التدخل لمساعدة الحوثيين على الصمود والانتصار في اليمن، هل ستتمسك، من الآن فصاعداً، بسياساتها العربية التي تضعها أمام تحديات جدية في علاقاتها مع جيرانٍ، يملكون قدرات كبيرة بدأوا باستخدامها، راهنت دوماً على تعطيلها، وها هي تلعب الدور الأهم في تفعيلها؟ وماذا يبقى أمام إيران من خيارات، إن قررت خوض المعركة، غير التحالف مع إسرائيل، مقابل الخروج من ورطتها والاندماج في استراتيجيات واشنطن العربية؟
هناك طرفان يواجهان، اليوم، حقيقة أوضاعهما وسياساتهما وخياراتهما. أما الطرف الذي سيخرج فائزاً منهما، فهو بلا شك ذلك الذي سيسارع، قبل غيره، إلى إزالة ما في أوضاعه من عيوب ونقاط ضعف، وإجراء إصلاح تتطلبه معركة مفصلية، لن يبقى شيء بعدها، كما كان قبلها، حتى إن توقفت في منتصف الطريق، بقوة ما لها من أبعاد استراتيجية وعملية شاملة، من المحال حصرها ضمن حدود أي بلد، مع أن أي بلد لن يبقى على حاله الراهنة بعدها!
بـ”عاصفة الحزم”، يخرج الخليج من الجمود والسلبية إلى المبادرة، وتنتقل إيران من الهجوم إلى الدفاع، ويواجه الطرفان ضرورة التكيف مع حالهما الجديدة. فهل تصل المبادرة إلى الحوامل الداخلية للسياسات الهجومية في أوضاع الخليج، ويعني الدفاع الإيراني انكفاء طهران عن العالم العربي، بدءا من اليمن، أم أننا نحلم ونعبر عن أمانينا تجاه ما نبتغيه لعالم لا يعرف، ولا يريد، الخروج من بؤسه، يغرق تحت طوفان من الرصاص والقنابل، وبحار من الدم، لأن غرقه هو قدره الذي لا يعرف كيف يواجهه؟
العربي الجديد