قتل الأب في انتفاضة الشعوب العربية
ميشيل كيلو
يرى فرويد ان كل مراهق يتمنى ضمناً ان يقتل اباه ويتزوج أمه، بمعنى أنه يريد ان يملك مكان ابيه، هذه الرغبة الدفينة تجعل الولد يتمرد على اوضاعه وحياته، لا يعرف ما يريد سوى ان يغيب ابوه عن حياته، خصوصاً في مرحلة المراهقة حيث تضج الرجولة فيه وهو لا يتمكن من تحقيقها.
ان مسار الشعوب العربية بعد الاستعمار هو اشبه ببلاد ولدت من رحم الاستقلال وعاشت طفولة طويلة تحت وصاية آباء، إما تسلموا الحكم تتابعاً بالوراثة وإما بانقلاب عسكري، وقد دام حكمهم طويلاً ما جعل الطفولة تمتد، لأن الاب العربي يريد ان يبقى أباً وبالتالي على الاولاد ان يبقوا اولاداً ولا يكبرون.
لكن التقنيات التي دخلت العالم العربي وخصوصاً (الانترنت) جعلت المراهقة تنضج وتضج بالاحلام، واذا كانت الاحلام المراهقية هي جنسية بطابعها فإن الجنس الذي لا يتحقق يصبح تمرداً سياسياً، ولطالما ركزت مدرسة التحليل النفسي الاميركي على هذا الموضوع، واعتبرت ان الحرية في الممارسة الجنسية هي البديل عن الحرية في الممارسة السياسية التي غالباً ما تكون عنيفة، لذا طرحوا مقولة (نعم للحب لا للحرب) . وبما ان طبيعة المجتمعات العربية لا يمكنها ان تسمح بالحرية الجنسية الا بقوننتها ضمن اطار الزواج، وبما ان الاوضاع الاقتصادية لا تسمح بالزواج المبكر، فإن عنف الضغط النفسي- الجنسي تحول الى ضغط سياسي- عنفي تجمّع في نقطة انتظرت لحظة انفجار صاعق، وقد حدث هذا في حرق الشاب التونسي نفسه فانفجر الشباب يرفضون الموت، وضمناً القمع الذي يعيشون فيه، مطالبين بالحرية السياسية التي هي قناع مبطن للحرية بكافة اشكالها.
وقد حاول الأب السياسي في تونس منع اولاده من مغادرة طفولتهم والإبقاء على مراهقتهم من خلال الوعود الإصلاحية، لكن المراهق الذي يريد الحرية ولا يعرف كيف يحققها يصّر على قتل الأب لأنه مدرك ان لا حرية إلا بموته.
ولأن الشجاعة عند الفرد تكتمل عند رؤية اترابه يخوضون معه المعركة انتشرت هذه الارادة الشعبية الشبابية على كل مساحة الوطن العربي، لأن القمع هو ذاته والحرية المخنوقة هي ذاتها وأن المحرمات السياسية هي رديفة المحرمات الجنسية وما يجمعها من قمع حريات للفكر والقول والعمل، وأصبح كل الشباب العربي والاسلامي بشكل خاص يريد قتل الاب لديه. ومن الطبيعي ان يستغرب الزعماء العرب تصرفات ابنائهم ويتساءلون: ألم نقدم لهم حياتنا من اجل سعادتهم؟ ألم نفعل كل جهدنا من اجل خيرهم ورفاهيتهم؟ نعم لكن ليس هذا ما يريده الأبناء، يريدون الحرية لأنهم يريدون ان يعيشوا تجاربهم ويريدون ان يشعروا انهم ينتمون الى اوطان لا الى آباء فقط، يريدون ان يقولوا خارجاً عن امور التحريم وان يفعلوا ما يحلو لهم خارج العقوبات والاضطهادات. لذا فمطلب الشعب الشباب يُختصر بجملة واحدة هي قولهم لأبيهم السياسي: «إرحل».
ان المراحل الآتية لدى الشعوب العربية، والاسلامية تحديداً، التي قتلت الاب او التي هي على الطريق إلى ذلك، ستعيش مخاضاً صعباً آتياً يتمثل في شباب يبحث عن وسائل لم يتعود عليها في ادارة نفسه والآخرين، وسيتعامل مع حيتان من رؤساء دول اجنبية ستحاول تفرقته وتمزيقه والسيطرة على موارد بلاده. ان الاب الذي كان تارة يتحالف وتارة يخاصم وتارة يقتل ولا أب بديلاً، والأبناء ان لم يجمعوا على وسيلة اسمها الديموقراطية سيعيشون تمزقاً حاداً.
ثورة الشباب ستنضج ذات يوم، خصوم هؤلاء الشباب كثر، اهمها الأفواه الجائعة من وحوش الغرب والصهيونية بطبيعة الحال ورجال الدين الذين سيجدون الفرصة ذهبية امامهم من اجل ان يسيطروا تحت قمع «إلهي»، مستعينين باستحضار الأب السماوي مكان الاب الارضي، كي يكونوا ازلامه وسلطته. لكن الأكيد ان المراهق الذي استطاع ان يتحدى الأب وينفجر في الشارع لن يخضع بسهولة لتدجين ديني، وإذا كان البعض يراهن على ذلك، خصوصاً بعض الشرّاح والمحللين الاميركيين، من ان الإخوان المسلمين هم الذين سيسيطرون على المنطقة العربية، لأن الاسلام متجذر وسهل تحويله وتحويره كي يكون البديل، فإن هذا يكون رهاناً على تجربة فريدة وجديدة في العالم، والمستقبل القريب سيبيّن من هو الاقوى الحرية السياسية والفكرية والعملية والجنسية ام الدين ورجاله.