قتل الشهود
عبد الوهاب بدرخان
لولا الإعلام لما كانت هناك “مسألة سورية” مطروحة منذ نحو عام. هذا ما استخلصه الرئيس السوري إثر ادلائه بصوته في استفتاء لم يهدف الهدف منه سوى القول إن نسبة المحتجين الثائرين عليه لا تتعدى الـ11 في المئة. لكن هؤلاء هم الذين اضطروه إلى تعديل الدستور، ولولا انتفاضتهم لما كان الاستفتاء، ولما انتهز المناسبة ليقول إن المعركة هي بين “الأرض والفضاء”. هذا على أي حال ما أقنع نفسه به، غير أن الفارق واضح، هناك الكثير من الدم يراق على الأرض، وذنب الفضاء أنه شاهد يقول إن هناك قاتلاً ومقتولاً، في حين أن الأرض لا تعتمد سوى “الرواية الرسمية” التي لكثرة ما لفِّقت واختُلقَت وعبثت بالحقائق لم يعد أحد يصدقها، حتى عندما تحاول أن تكون واقعية.
الصحفيون الأجانب الذين نجوا، بإصاباتهم، من جحيم حمص، كانوا شهوداً على التدمير والقتل المنهجيين في بابا عمرو. قالوا إن القصف استهدفهم مباشرة، وكان معروفاً أنهم هناك في ما اصطلح على اعتباره “مركزاً صحفياً” ميدانياً. لذا كان يجب قتل الشهود لئلا يتمكن أحد من نقل الحقيقة. كل الجيوش، في كل الحروب، ارتكبت هذا النوع من “الخسائر الجانبية”، كما تسميها، بل ارتكبتها عمداً، لكن معظم الحقائق وصل، ويعود الفضل في هذه اللحظة من التاريخ إلى التقدم في وسائل الاتصال، فهي الثورة التي تصنع الثورات.
جرت محاولات عديدة في سوريا لاستعادة أسطورة “الستار الحديدي” لكن من دون جدوى. تقطع الماء والكهرباء والطرق والمؤن عن المدن والبلدات، جاع السوريون وعانوا حريق الصيف وصقيع الشتاء، اعتلّ الأطفال وانطفأ الجرحى بين أيدي المعالجين ودفن القتلى في الحدائق. لكنهم استمروا يخرجون إلى الشوارع لتحدي الموت والقهر، لأن هناك اتصالاً ولأن الصور واصلت تدفقها لتقول للعالم إن الرواية الصحيحة هي تلك التي تتفاعل -“حصرياً”- بين الأرض والفضاء.
لم تكن “ماري كولفن”، ولا رفاقها الذين قتلوا مثلها أو أصيبوا، يرون أن حياتهم أغلى أو أهم من مئات الحيوات التي فورقت أمام أعينهم.
ماري كولفن تجاوزت “المتاعب” في المهنة لتركب “المخاطر”. كانت ملتصقة بـ”الأرض” عبر صحيفة ورقية صعنت بعض أمجادها. كانت معولمة لا تعرف حدوداً ولا حواجز، وبالغة الحرص على البقاء لتتمكن من إيصال “القصة” التي التقطتها من مكان الحدث. وكانت شجاعة لا تعرف الخوف، بل لعلها قدرية تؤمن ضمناً بـ”المكتوب” وإن لم تعترف بذلك. هي من سلالة “مراسلي الحروب”، ولطالما اعتقدت، كما اعتقد زميلها الشاب “ريمي أوشليك”، أن الحقيقة تتحصن عندما تصبح كلمة أو صورة، لكنهما لم يكونا يجهلان أن هذه الحقيقة تقتل أيضاً. شاهدا بعيونهما ابن حمص، رامي السيّد، وهو يستبسل لتوثيق محنة شعب ومدينته قبل أن يقضي بقذيفة هو الآخر. لم يكن رامي ينافسهما علي أى “مجد” صحفي. كان يحاول أن يعيش، ويحلم بالحرية والكرامة.
قبيل ساعات قليلة من مقتلها، حادثت ماري أهل “الفضاء” في “بي. بي. سي” و”سي. إن . إن”، وكانت هادئة تقول مشاهداتها في بابا عمرو، وتسرد رعب يوم أسود آخر عاشته. لكنها، فقط حين قيل لها إن رواية دمشق مختلفة، ردت بالقول: “إنهم يكذبون”.
لم تعش “ماري” لتشهد الاعدامات الجماعية، كانت قد أصبحت مجرد جثة في مكان ما، قبل أن تعثر عليها القوات نفسها التي قتلتها عقاباً لها، لأنها لم تشأ الاكتفاء بـ”الرواية الرسمية”. وفي تلك الأثناء كان عدد من الشبان السوريين يفقدون حياتهم في عملية تهريب الصحفيين الجرحى “بول كونروي” و”آديت بوفييه” و”وليام دانيالز”، ليس فقط لإنقاذهم من الموت وإنما أيضاً بدافع الامتنان لهم. وحين تحدث الجرحى العائدون عن الرعب الذي عاشوه في بابا عمرو، تذكروا مجازر رواندا ووحشية الروس والصرب في “غروزني” الشيشانية وسريبرينتشا البوسنية.
لم يخسر النظام السوري معركة الحقيقة مع بدء الانتفاضة الشعبية، بل خسرها منذ عشرات السنين. ولم يخسرها لأن إعلام “أرض” وإعلام “فضاء”، بل خسرها لأنه لم يعترف بأن ثمة مشكلة بينه وبين شعبه ويتحمل فيها المسؤولية مهما حاول التملص منها أو منع الشهود وقتلهم. فكل ما توصل إليه بعد سنة أنه لو لم يكن هناك إعلام فضائي لما كانت هناك أزمة. لكن حتى أن الصليب الأحمر والهلال الأحمر ممنوعان من الدخول قبل تصفية جميع الشهود، جميع من يحتاجون للإغاثة.
عبدالوهاب بدرخان
كاتب ومحلل سياسي – لندن
الاتحاد