قدّاس في زمن الحرب
خالد صاغية
«اقتيد الفتيان ليصبحوا جنوداً، وبقيت الفتيات في القرية. الحصون عالية، ذات اثني عشر طابقاً. من هناك، يراقب الفتيان البحار المزبدة. سألهم القبطان إن كانوا يشعرون بالحزن، لأنّه لم يكن يسمع غناءً يأتي من حصونهم. أجاب الفتيان أنّهم ليسوا حزينين، رغم أنّهم ذاهبون إلى المحيط، في مهمّة قتاليّة. وحين بدأ الفتيان بالغناء من السفينة، ردّدت الشواطئ صدى أصواتهم. فسمعتها الفتيات اللواتي كنّ على الشاطئ، وامتلأت أعينهنّ بالدموع. ظننّ أنّها أصوات آلات موسيقيّة. لم يتخيّلن أنّ فتيان قريتهنّ يتقنون الغناء إلى هذا الحدّ. فالفتى المقاتل لا ينبغي أن يتمتّع بقلب طيّب. عندها فقط، يمكنه أن يذهب إلى أيّ مكان».
هذه المقاطع من أغنية للمؤلّف الأستوني تورميس، ردّدتها أمس فرقة موسيقيّة في بيروت. تورميس هو واحد من مؤلّفين موسيقيّين عديدين لجأوا إلى اقتباس ألحان فولكلوريّة في أعمالهم من أجل الحفاظ على وطنيّة حاولت السلطات السوفياتيّة تذويبها. هذه الأغنية الحزينة كُتبت عام 1983 في ذروة الحرب السوفياتيّة في أفغانستان. الفتيان الذين اقتيدوا إلى السفن ليسوا إلا الأستونيّين الذين أجبروا على القتال في الصفوف الأماميّة للجيش السوفياتي، في حرب لم تكن تعنيهم بشيء.
هل يمكننا اليوم أن نسمع هذه الأغنية من دون أن نتذكّر فتياناً عرباً يُقتادون هم أيضاً إلى حروب لا تعنيهم، لا بل إلى حروب ضدّ شعوبهم؟ هل تخلّص أولئك الفتيان، كما تقول الأغنية، من القلب الطيّب، حتّى يتمكّنوا من تنفيذ الأوامر، وإطلاق النار في أيّ اتّجاه؟ الفتيات والأمّهات ما زلن ينتظرن. هناك على الشاطئ. لكن، ما من أغنيات تصل إليهنّ، بل تأتيهنّ في أحيان كثيرة جثث أبنائهنّ مرفقة بلقب «شهيد»، فيظهرن على الشاشات منكسرات، ويتمتمن كلمات تخرج من أفواههنّ من دون صوت.
على أيّ جبهة يُستشهد أولئك الجنود؟ وضدّ أيّ أعداء؟ أيّة سفن حملتهم إلى معارك الذلّ؟ بأيّ رصاص سقطوا؟ ومَن حرمهم الغناء؟ لا تخبرنا الأغنية ماذا حلّ بالأستونيّين الذين رفضوا القتال، لكنّ أحدهم قرّر أن ينهي الحفل بـ«قدّاس في زمن الحرب» لهايدن. هايدن الذي لم يتحمّل، أغمض عينيه ما إن وصلت جيوش نابوليون إلى فيينا. وكان ذلك في شهر أيّار نفسه، قبل مئتي عام وعامين.
الأحبار