قد عرفنا مهرك الغالي فلم نرخص المهر ولم نحتسب*
علي سفر
على مسافة قريبة من مدرستي في المرحلة الإعدادية، كانت عيناي تطالعان كل صباح وظهيرة سور مقبرة، ورغم أني كأي طفل كنت أخاف الدخول إلى المكان، إلا أن الفضول ومعرفتي بابن الشخص المسؤول عن المقبرة جعلاني أكسر حاجز الخوف لأصبح زائراً دائماً للمكان، ولاسيما في تلك الأمسيات التي كنا ندرس فيها تحضيراً للشهادة الإعدادية، ومع الوقت بدأت تنشأ بيني وبين أسماء الموتى علاقة تتصل بتاريخ كل واحد منهم..! فالمقبرة هي تاريخ مضى والأسماء هي بواباته المتعددة، ورغم أن كل أولئك المدفونين في ذلك التراب في منطقة باب شرقي في دمشق هم جزء من تاريخ المدينة، إلا أنني كنت أتوقف عند الشهداء، شهداء الثورات والحروب التي خاضتها البلاد وهي تصنع حاضرها، وكذلك شهداء الجلاء الذين سقطوا وهم يحاولون أن يعيدوا إلى سورية استقلالها الذي سلب منها..!
ربما هي محض صدفة أن تعاودني صور الشواهد كل يوم، طالما أنني أمر يومياً من ذات المكان، ولكنها ليست صدفة أن أفكر في كل عيد جلاء بالمعادلة التي وضعها كل شهيد سقط على أرض سورية طالباً للحرية..!؟ هل كان هذا الشهيد أو ذاك يروم غايةً تخرج عن المعنى الأسمى لكلمة الحرية؟ السؤال ساذج في ظاهره إلى درجة أنك تحسّه مسحوباً من تلك الصفحات المتكررة في جرائدنا في هذه المناسبة من كل عام..! ولكن التفكير به في هذه السنة وفي هذه الأيام يأخذ طابعاً مختلفاً، فسورية التي دخلت مخاضها الجديد تبدو لي وللكثيرين غيري وكأنها تستعيد تاريخها الذي يمكن لنا أن نضع بين قوسيه كل تفاصيلنا، وكل منعرجات حياتنا، وكل الأسماء التي مضت على مذبح حريتنا، إنها تستعيد النبض الذي صنع الجلاء ذات يوم ليعود إلى الواجهة، فدون رغبة الناس في أن يكونوا أحراراً من القيود التي تكبلهم لايمكن لأي مسيرةٍ إصلاحيةٍ شعبيةٍ كانت أو مؤسساتيةٍ أن تكتمل..
لقد صنع شهداء الحرية في مرحلة النضال ضد المستعمر أمثولةً عظيمةً هشمتها بلادات ورتابة الحياة اليومية، ولكن هذه الأمثولة كانت تستعاد خارج الأوقات المناسباتية، أي في تلك اللحظات الحرجة والخاصة من حياة الشعوب، وأقصد تلك الأحداث الكبرى التي تعترضها، ودون أن أفكر بالاحتيال على المعنى أجد نفسي هنا منساقاً للقول إن الأثمان الكبرى التي تدفعها الشعوب وهي تعيد صناعة حياتها ليست سوى أولئك الذين يسقطون على طريق تحقيق الأهداف الكبرى..! إنهم هؤلاء الشهداء الذين لايمكن لأي منا أن يكون سعيداً بحاضره دون أن يعرف أنهم هم من صنع هذه اللحظة وذلك الحاضر..
كل ما يمكن لي أنا وغيري أن نكتبه عن شهداء سورية في الماضي والحاضر والمستقبل لا يساوي نقطة واحدة من ذلك الدم الذي سقط ومازال يسقط في سبيل الحرية وفي سبيل صيانة الاستقلال وفي سبيل حفظ أمن السوريين.. فالكلمات هي أقل من أن تتساوى مع الحيوات، ولكن الحرية ككلمة ذات حمولةٍ إنسانية عالية الطاقة والمعنى تتساوى مع حيواتِ من مضوا في سبيلها.. وإذا كان لنا أن نحافظ على إرث الشهداء الذين صنعوا الاستقلال فإن ذلك لن يحصل ولن يكون إن لم نقدس معنى الحرية ولم نقدس الإنسان، فلا أوطان مكتملة السيادة والاستقلال دون بشرٍ أحرار يتوجون حياتهم بإكليل الكرامة..
لنفكر عميقاً بالجمل والكلمات التي نعتبرها مجرد شعارات إنشائية، حيث سنجد أن ما أفقد المعاني رسوخها إنما هو ذلك الاستسلام المرضي لتحولات الواقع، دون محاولة تعديل مسارها.. فلو قبل الثوار بوجود المحتل لما صنع الاستقلال.. ولو قبل أصحاب الأفكار الكبرى الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي كما هو، لما صنعت الثورات التي غيرت من تاريخ المجتمع، وهنا نعود للحديث عن الجلاء كمناسبة لنقول: لقد صنع شهداء الجلاء استقلال سورية، وها هم شهداء الحاضر يصنعون سورية الجديدة حيث لابد للجميع من أن يجدوا أنفسهم مسؤولين عن الحاضر والمستقبل..! وهذا القول سيظل مجرد كلام إنشائي إن لم يمسك به الجميع ليجعلوه شعارهم الراهن في الحياة
..!
من قصيدة «عروس المجد» للشاعر الكبير الراحل عمر أبو ريشة
اثنين, 18/04/2011- النهضة