صفحات الرأي

قراءة سوسيولوجية في الثورات العربية: مصادر الزخم الثوري

عبد الغني عماد
متى يتحرك الشعب في إتجاه الثورة؟ وكيف يتحول تحركه ويتطور من إحتجاج الى انتفاضة ثم الى ثورة تستهدف مجمل النظام السياسي؟ ولماذا يحدث مثل هذا في حركة الشعوب؟
قدم البعض إجابات على شكل نظريات في الثورة. ولا نعتقد أن المحاولات التي جرت ناجحة إلا بقدر تعبيرها عن ثورات بعينها، فالعوامل الخاصة التي تتحكم بحركة الناس وثورات الشعوب ضد الظلم والإستبداد يصعب حصرها ونمذجتها، مع أنه يمكن تحليل بنية كل مجتمع واستخلاص إستنتاجات نظرية تمكن من ترجيح إحتمال وقوع إحتجاجات او ثورة في بلد من البلدان، ولكن كإحتمال فقط علما أن حالات كثيرة وقعت فيها ثورات حيث لم يتوقع احد. لذلك كانت تلك النظريات أقرب الى الإستقراء القابل للدحض او الترجيح.
هل كان العقل العربي ينتظر ثوراته الربيعية؟ هل كانت النخب السياسية المعارضة في عالمنا العربي مستعدة لمثل هذا الاحتمال؟ أم ان حالة من الركود السياسي والإكتئاب القومي الشعبي سيطر على المشهد العام؟
لا شك في ان الثورات الشعبية العربية لم تولد من فراغ، وهي ليست نبتاً شيطانياً أو مؤامرة كما يدعي الحكام. انها الإنفجار النوعي المترتب على الفشل الكمي المتراكم بفعل سياسات الانظمة على المستوى التنموي والتربوي والسياسي. فسياسات الإستبداد والإقصاء لم ينتج عنها إلا التهميش والفساد، ولم تؤد إلا الى تمديد قوانين الطوارئ وانتهاك الحريات والكرامات والعنف الامني المفرط، فضلاً عن التلاعب بوحدة المجتمعات والتمييز بين طوائفها ومذاهبها بعيداً عن دولة المواطنة والعدالة.
من ابرز خصائص هذه الثورات انها اعادت للرأي العام حضوره ومكانته وأعادت للشارع والساحات والميادين فاعليتها، معيدة بذلك انتاج “المجال العام” العربي، وهي بقدر ما كانت ثورات شعوب بالمعنى العام للكلمة تعبر عن مختلف أطياف المجتمع العربي، كانت ايضاً ثورات شبابية في بعدها الميداني والسوسيولوجي، فقد استطاع هؤلاء “الفاعلون الجدد”، ان يفرضوا مزاجهم وشعاراتهم وتكنولوجيتهم في مسيرة هذه الثورات وادارتها حتى على المعارضات الايديولوجية والتاريخية التي ثبت هشاشتها وقصر نظرها في التقاط اللحظة التاريخية التي تنبئ بأن أوان الثورة قد حان.
والواقع ان الثورات العربية قدمت نموذجاً جديداً لم يكتمل بعد، وهي حيث أسقطت الرؤساء وبدأت رحلة التغيير بإنتخابات ديموقراطية، برز فيها بوضوح ان الاحزاب الإسلامية الاكثر تنظيماً تسيطر على الثورة بعد تحولها سلطة، وتبدأ بالقول أنها صانعة الثورة، في حين أن الفاعلين الجدد والقوى أخرى الاقل حضورا في الانتخابات تتهمها بأنها لم تفعل إلا سرقة الثورة، وهذه بعض دلالات الثورتين المصرية والتونسية اليوم بعد الإنتخابات، وهذا في الوقت نفسه أحد مظاهر ديناميكية الثورات الديموقراطية في كل مكان.
يبقى هذا أفضل بكثير من نُذر تفكك الدولة في بعض الحالات، حيث وضع تعنت حكام الاستبداد وتغوّل أجهزتهم السلطوية البلاد والعباد أمام خيارات الحرب الأهلية أو التدخل الخارجي، فانكشفت المكوّنات السلطوية الأولية لهذه الأنظمة، فظهرت قبلية ومذهبية وطائفية أو عرقية وجهوية، معطوفة على فشل تنموي ذريع أمام فجوة متنامية بين الأرياف والمدن والضواحي المهمشة على أطراف المدن التي يتكدس فيها الفقر والإهمال والحرمان حيث كانت البداية مع بو عزيزي وعربته، وخالد سعيد وقصته وأطفال ريف درعا وخربشاتهم الحائطية.
والأنكى من ذلك ان الدولة العربية الحديثة لم تكتفِ بفشلها في إدماج مكوناتها الأولية، القبلية والطائفية والمذهبية، بل عززتها وعمدت إلى توظيفها كأدوات في صراعها للاستحواذ على نصاب السلطة، فظهر ما كان مستورا، وبان المشهد مغرقا في طائفيته ومذهبيته وعشائريته وعصبياته.
يمكن القول إن الدولة العربية الإقليمية فشلت تماماً، ليس فقط في بناء نماذجها “القومية” بل في بناء “الدولة” كمؤسسات وإطار للمواطنة، ومرجعية للحكم والفصل في المنازعات بين الناس، الذين عادوا وقت الشدّة نحو الكيانات التي سبقتها، أي عادوا إلى أصولهم، تماماً كما فعل أهل السلطة حين إنكشفوا فتحولوا قبيلة سياسية تحتشد حول عصبوية ما.
في التحليل السوسيولوجي لا يمكن الوعي والسلوك الطائفي أو القبلي أو الجهوي وغيره أن يتحرك إلا ضمن الشبكة المصلحية الإجتماعية التي ترسم حدود الصراع على السياسة والاقتصاد في البلاد، وعلى هذا الأساس تصبح المصالح الاقتصادية وشبكات الفساد والمحسوبية والزبائنية، قوى مهيمنة تحتاج إلى الأمن والاستقرار كي تقيم سياسة الدولة الإقليمية والدولية بما يؤمن ديمومة المنافع والمكتسبات، بعيداً عن حسابات المنطق الفئوي، الطائفي او المذهبي او القبلي او غيره، حيث تجمع شبكات المصالح أطيافا وشرائح من المذاهب كلها، دون أن يلغي هذا الهيمنة العليا للشريحة الأكثر نفوذاً حول الحاكم وحاشيته.
يبقى السؤال عن الكيفيات والآليات والأدوات التي استخدمها النظام العربي الرسمي للإمساك باقتصاد بلاده وتعامله مع الثروة الوطنية والتي قادت إلى كوارث اجتماعية والى تهميش قلّ نظيره؟ يتبعه تساؤل عن تشابه هذه الآليات والأدوات وعلاقة ذلك بانفجار الزخم الثوري العربي؟ وهل أن التشابه في الآليات والأدوات يعني تشابهاً في النتائج؟
إتبعت حكومات الدول العربية برنامجاً اقتصادياً استند في معظمه إلى وصفات برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي لصندوق النقد الدولي، لكن الخصخصة المباشرة أو غير المباشرة أفرزت طبقة من رجال الأعمال الجدد إحتكرت ثمار النمو الاقتصادي. فبرزت أسماء شهيرة تبدأ من ابناء الرؤساء والاقرباء وتنتهي بمن يدور في فلكهم.
وفي المجمل أنتج هذا النهج النيو ليبرالي التسلطي تحكم فئة قليلة جداً من رجال الأعمال في اقتصادات الدول العربية، على الرغم من أن تجارب عديدة في العالم الثالث أثبتت فشل هذا النهج في تحقيق التنمية الشاملة، حيث قد ينجح في تحقيق نمو اقتصادي، لكنه يخفق في توزيع الثروة. الأمر الذي يخلق طبقة تزداد ثراءً، فيما الشعب يزداد فقراً. وهو ما حدث في الدول العربية، وأدى إلى تقليص الطبقة الوسطى وتحجيمها وإفقارها.
وكلنا يعلم الدور الوطني والتنويري للطبقة الوسطى في فترتها الذهبية، فهي لعبت دوراً أساسياً في مواجهة الاستعمار، ثم بعد ذلك في بناء الدولة الوطنية بسبب انتشار التعليم في أوساطها، فكانت بمثابة الرافعة التي نهضت بالتغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مراحل معينة، وأسست القواعد الحقيقية للثقافة والتغير الديموقراطي، وربما يكون من أبرز نتائج الثورات العربية انها أعادت الاعتبار للطبقة الوسطى ولدورها في المجتمع.
ما حدث عملياً أن الدولة العربية الحديثة إلى جانب الفشل التنموي والاقتصادي أنتجت تهميشاً سياسياً إلى ابعد الحدود يتمثل في عدم تمكين المواطنين من المطالبة بحقوقهم السياسية وحاجاتهم الاقتصادية، في ظل سيطرة الحزب الواحد المقنع بصورة الجهة أو المؤتمر او ما يشبه ذلك، يترافق ذلك كله مع تدني الكفاءة الداخلية والخارجية لمؤسسات الدولة وتحولها أدوات بيد البيروقراطيات السياسية، وتحول السلطات التشريعية ملحقاً بالسلطات التنفيذية، ومن يقبع خلفها من تحالف العسكر ورجال الأعمال وأباطرة السياسة، فضلاً عن تفشي الفساد في السلطة القضائية وهشاشة استقلالها.
ولعل أبرز مثال على تعطيل عمل البرلمانات العربية عن القيام بدورها، تلك النزعة لتوريث السلطة من جهة، وتغييب المعارضة، حيث لم يرَ مجلس الشعب المصري في بيع الغاز الطبيعي وتصديره لإسرائيل بأسعار لا نظير لها في العالم ما يستدعي اعتراضه، كما فعل نظيره مجلس الشعب السوري الذي لم يثر قضية دفن النفايات السامة إلا عند خروج عبد الحليم خدام من السلطة، وسكوته طيلة الفترة السابقة عن هذا الأمر، فضلاً عن مسألة رفع الدعم عن المحروقات والتي لم تلقَ اعتراضاً رغم آثارها السلبية على الطبقات الفقيرة، ورغم أن نصف أعضاء المجلس يجب أن يكونوا من العمال والفلاحين وفقاً للدستور السوري.
لقد أفرز المعطى السوسيولوجي على المستوى السياسي والاجتماعي العربي، تحالفا واضحا بين الاستبداد والفساد، بين التسلط والتخلف، الأمر الذي أشاع أجواء من عدم الاستقرار السياسي الداخلي في ظل غياب كامل للديموقراطية. في مثل هذه الظروف من الطبيعي أن تتنامى الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية، خصوصاً في ظل غياب المؤسسات المدنية القادرة على إدماج المواطنين وحمايتهم من تغوّل الأجهزة السلطوية الأمنية والاقتصادية.
بين شقوق وخطوط الواقع المتردي دخلت مجتمعاتنا في مشهد مأزوم، وأصابتها الهزيمة من الداخل قبل أن تواجه ضغط الخارج، ولم يكن عسيراً على جيل الثورة أن يكتشف تلك العلاقة الجدلية بين ثالوث البؤس والشقاء العربي المتمثل بـ”الاستبداد والتخلف والهزيمة” وما بينها من ترابط عضوي وتبادل وتلاحم في الوظيفة والنتائج. فهذا الثالوث الشقي تتغذى عناصره من بعضها البعض، وتستقوي إحداها بالأخرى لتشكل حائط السد “المانع” لأي تغيير نحو نقيضها ولو بالإصلاح التدريجي. لذلك كان لا بد من الثورة لإسقاط أنظمة الاستبداد والتخلف والهزيمة.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى