قراءة في “الجهاد في الغرب: صعود السلفيّة المقاتلة”/ علي البشلي
السلفيّة المقاتلة، واحدة من أبرز الظواهر المثيرة للجدل في الحياة السياسيّة المعاصرة. كُتب عنها من قبل باحثين ومختصّين الكثير من الأبحاث والتحليلات والكتب، من بينها كتاب “الجهاد في الغرب”، الذي يتناول بشكل حصري ظاهرة السلفيّة المقاتلة في الغرب؛ أي أولئك الأشخاص الإرهابيون الذين ولدوا في الغرب، أو عاشوا فيه لفترة طويلة؛ إذ يعتقد الباحث مؤلّف الكتاب فرايزر إيغرتون، أنّه إذا لم يتنبّه دارسو ظاهرة السلفيّة المقاتلة لمعنى التمايز الجغرافي ما بين الذين ولدوا ونشأوا في حضن المدينة الغربيّة، عن الذين عاشوا شخصيّاً ويلات الحروب والنزاعات والفقر والتهميش والتلقين الديني المتطرّف في بلدانهم، لن تكون هناك دراسة حقيقيّة تؤدّي إلى تحليل نظري للظاهرة، وفهمها بشكل صحيح.
ويرى أنّ النبش في النصوص والتعاليم الدينيّة للحصول على تفسيرات مباشرة وثابتة عن الإرهاب، ليس أسلوباً ناجعاً؛ إذ بالإمكان إيجاد الكثير من الدعوات التي ترفض العنف، إلى جانب تلك الدعوات العنيفة في داخل النصوص الدينيّة، ولكلّ منها حجج متباينة، فضلاً عن معناها الحقيقي في سياق لحظتها التاريخيّة التي وجدت فيها. لذلك يجب فهم الجوانب الدينيّة والسياسيّة الآنيّة للكفاحيّة القتاليّة على أنّها موجودة في بؤرة خاصّة جداً، ترى في الغرب عدوّاً للأمّة، ما يستدعي من المقاتلين ردّاً عنيفاً على تلك العدوانيّة!
وبعدما يُقدّم شرحاً حول ماهيّة السلفيّة المقاتلة على أنّها حركة مستوحاة من سرديّة كبرى دينيّة وسياسيّة، تدعو إلى التشدّد الكفاحي في وجه عداء الغرب المزعوم للإسلام، قوامها المقاتل المسلم الذي يصف نفسه بالمسلم المنتمي إلى هويّة إسلاميّة خاصّة، تمثّل مكانة مميزة، تُبنى على أساسها فكرة المعركة بين الإسلام والقوى المهدّدة له. يعرض تالياً، وجهات نظر ودراسات غير مُتّفق معها رغم أهميّتها لباحثين غربيين، قالوا إنّ سبب الأصوليّة القتاليّة هو الاغتراب بشقّيه الفردي والبنيوي. فالاغتراب الفردي برأيهم، ناتج عن الفشل؛ فشل الفرد في التعليم، والعمل، والتجارب… ما يُشعره بالاغتراب عن مجتمعه، ويؤجّج لديه الرغبة في الانتقام من أولئك المسؤولين عن هذا الفشل، وفي الكفاحيّة القتاليّة، جاذبيّة كبيرة لتحقيق ذلك الانتقام عبر تقسيمها العالم إلى خير وشرّ؛ إذ تقدّم بذلك للخاسر أو الفاشل الخيِّر المظلوم الفرصة للانتقام من المنتصرين والناجحين الأشرار. أمّا الاغتراب البنيوي، فهو الاغتراب ضمن جيل الأبناء، الجيل الذي ولد في الغرب من أهل مهاجرين. واغترابهم ناتج عن التمييز والحرمان الاقتصادي؛ فشعور هؤلاء بالتمييز العنصري داخل المجتمعات الغربيّة، آتٍ من الاعتماد عليهم في أعمال الخدمات، والأعمال القذرة، وتقاضيهم مرتّبات أقلّ من غيرهم، ما خلق فجوة واضحة ما بين الجيل الثاني الذي ولد وعاش في أوروبا، عن الجيل الأوّل الذي هاجر إليها، وذلك في ما يخصّ التوقّعات الاجتماعيّة؛ أي أن تكون حياة جيل الأبناء، أفضل حالاً من عائلاتهم المهاجرة. لكنّ ذلك لم يحدث، وبقي جيل الأبناء يعاني الإقصاء العرقي كجيل آبائه. وفي هذا الرفض الذي واجهه جيل الأبناء، إضافة إلى فشلهم في التكيّف على نحو هادف مع المجتمع الغربي، خُلق لديهم اغتراب في هويتهم. هنا تأتي السلفيّة المقاتلة لتقدّم هويّة لهؤلاء الشبّان الذين يعانون من الاغتراب الانتمائي، فيكتشفون عبرها هويّتهم المؤكِّدة لذوات عابرة للأوطان، وهي أنّهم مسلمون. في النتيجة، يخلص الباحثون، أنّه عندما تعاني اغتراباً فرديّاً، أو بنيوياً أو انتمائيّاً، تصبح هدفاً سهلاً للجهاديين. غير أنّ الباحث مؤلّف الكتاب، لا يتّفق بالمطلق مع هذه الدراسات على أهميّتها، والتي تنال في الغرب رواجاً غير مبرّر برأيه؛ فالقول إنّ أحدهم يشعر بالاغتراب، هو اختصار لشيء أكثر تعقيداً. لذلك يعمد إلى تفنيد هذه المقاربات، أنّه لو كان الاغتراب سبباً للتشدّد، فلن ينحصر في هذا العدد القليل من المقاتلين. عدا عن أنّ الدراسات الغربية لظاهرة الإرهاب، لم تُولِ اهتماماً للدور الذي يؤدّيه المخيال السياسي، والذي يشكلّ برأيه عنصراً مهمّاً في الكفاحيّة القتاليّة.
فالمخيال السياسي، يتشكّل من الشروط التي تُسهّل إمكان نشوئه: “الإعلام وحركة الانتقال”. ولطالما عبّر الإسلام عن تطلعات عالميّة؛ فهو دين للجميع، ولكلّ الأوقات، والأمّة ليست بدعة من بدع المقاتلين؛ إذ إن المذاهب الإسلاميّة منذ ظهورها، وعلى اختلافها، أكّدت الأهميّة الكبرى لأولويّة الأمّة كمصدر رئيس للهويّة؛ لذلك يتمثّل الدور الرئيس للإعلام ـ وسائل اتصال مباشر، إنترنت، وسائط رقميّة، مواقع تواصل اجتماعي ـ لدى السلفيّة المقاتلة، في تكوين الوهم على قدرتها في بناء مجتمع الأمّة الخيالي وتعزيزه، وتعزيز مكانة الفرد فيه، وذلك من خلال الدور الذي تلعبه تلك الوسائط في القضاء على المكان/ الحيّز. وكان ماركس قد توقّع ذلك في منتصف القرن التاسع عشر: “قضاء الزمان على الحيّز”؛ لأنّ رأس المال بحكم طبيعته، يخترق أيّ حاجز في الحيّز المكاني، بغية السيطرة على الكرة الأرضيّة وأسواقها. كذلك قال هايدغر بعده بمئة سنة، منتصف القرن العشرين: “بروز اللا مسافة”. وها هو ذلك يحدث؛ إذ كثّفت العولمة العلاقات الاجتماعيّة على مستوى العالم، بربطها المواضع المتباعدة، إلى درجة تتأثّر فيها الحوادث المحليّة بحوادث في أماكن بعيدة جدّاً، والعكس صحيح؛ وهذا ما يمنح المخيال السياسي كي يعمل بطريقة فاعلة لا غنى عنها؛ إذ استغلّت المواقع الإلكترونيّة للسلفيين المقاتلين تلك الحوادث ببثّها عبر الصور: صوراً مروّعة لأطفال مشوّهين، أو مقطّعي الأوصال، أو مذبوحين أو…في العراق، وفلسطين، وأفغانستان، والشيشان… صوراً غير خاضعة لإمكانيّة التحليل؛ كأن تصبح صورة امرأة قُتلت على يد طالبان في أفغانستان جزءًا من حكاية طفل قُتل على أيدي الجنود الأميركيين في العراق. وفي ذلك لا يقدر المتلقّي أن يتفاعل مع تلك الصور كما يتفاعل مع نقاش مكتوب مدعّم بأدلّة، بل يأخذها من شكلها المباشر، كما وضعت فيه. في النتيجة، لقد مارست الأصوليّة القتاليّة في الغرب المخيال السياسي باعتمادها على شروط الإمكان في عصر الحداثة المعولمة، وبذلك قدرت على تجنيد المقاتلين.
ويرى الباحث، أن تأثير نشر الصور عبر وسائل الإعلام الإلكتروني، يتضاعف عندما يتداخل مع الشرط الثاني للمخيال السياسي: “حركة الانتقال”؛ فحركة الانتقال، تقود إلى عدم الانتماء إلى منطقة أو مكان أو إقليم؛ ما يقوّض الانتماء للهويّة الوطنيّة، لصالح خلق هويّة دينيّة عابرة للحدود. لذلك نرى أنّ الكثير من الأصوليين الذين قاموا بأعمال إرهابيّة في الغرب، قد سافروا إلى أماكن التوتّر في العالم: “أفغانستان. الشيشان. كشمير. باكستان. العراق…”، بغية لقاء إخوانهم، والتدرّب والقتال معهم، ما أدّى إلى رفع وتعزيز شعورهم بأنهم ينتمون إلى مجتمع إسلامي عالمي، إلى هويّة إسلاميّة، إلى أمّة إسلاميّة أساس الأيديولوجيا لفكرهم غير المهتم بتقسيم العالم بلداناً وانتماءات إقليميّة؛ إذ ينقسم عالمهم فقط إلى مسلمين وكفّار. إذن، لقد تحّرر المقاتل السلفي عبر حركة الانتقال من حياته الاجتماعيّة، ونشاطها الكثيف، إلى أمكنة متعدّدة، جعلته يُعيد تكوين تصوّره السياسي، عبر انتمائه إلى مجتمع عالمي مجاهد، يشكّل هو جزءاً منه.
أمّا المنهل الأساس للأصوليّة المقاتلة، يعتمد على سرديّة اعتقاد المسلمين أن الغرب يعتمد النفاق في سياسته الخارجيّة تجاه البلدان المسلمة. لذلك يتمّ العمل على هذه السرديّة من قبل الدعاة والوعّاظ. ومن ثمّ تطوير استغلالها بالاستناد على ما جاء في السرديّة التاريخيّة الإسلاميّة الأشمل والأوسع، بتسليط الضوء على الشخصيات الدينيّة البارزة، الشهداء منهم خاصّة؛ فقصصهم ليست قصصاً عن الشجاعة في الماضي فحسب، بل هي سلوك مستقبلي أيضاً. وبذلك تنتصب هذه الشخصيات نموذجاً للشهيد المنتقم الذي يواجه الظالمين، بغية تقليده ومحاكاته بوصفه مثالاً ضرورياً في الزمن الراهن وكما كان دائماً؛ فلكي تكون مسلماً عليك أن تقّوم بالجهاد بالطريقة ذاتها!
هذا ما خرج به الباحث فرايزر إيغرتون في كتابه “الجهاد في الغرب”. والذي يُشرّح نظرياً بشكل خاص ظاهرة السلفيّة المقاتلة في الغرب. كذلك، رغم أهميّة البحث وجدّيته العالية، لا بدّ أنّ يخرج القارئ في نهاية قراءته بجملة من الهواجس والتساؤلات:
هل حقيقة يمكن دراسة ظاهرة الإرهاب في الغرب بشكل منفصل عن ظاهرة الإرهاب من شكل عام في العالم كلّه؟
ألا يتعرضّ الشرق المسلم حقيقة إلى مظالم سياسيّة من قبل الغرب؛ إذ قال الباحث في أكثر من موضع مشكّكاً: “يعتقد المسلمون أنّهم يتعرّضون للمظالم…”؟
ألا يتمّ التركيز في “الإعلام العالمي كلّه” الشرط الأول من شروط الإمكان الذي وضعه الباحث لعمل المخيال الساسي على العنف من شكل مكثّف، ويتم التغاضي عن المظالم والمعاناة الحقيقيّة للشعوب؟
ألا يزال الغرب حتى اللحظة، يقيم علاقات حقيقيّة مع أنظمة وحكومات لا تزال تمارس الإرهاب الديني والسياسي والفكري والاجتماعي على مواطنيها، وأن الكثير الكثير من أولئك الناس قد فرّوا إلى الغرب جرّاء هذا الاضطهاد، وأنّ هذا الفرار، يندرج تحت مسمّى الهجرة التي هي جزء لا يتجزّأ من “حركة الانتقال”، الشرط الثاني من شروط الإمكان لعمل المخيال السياسي؟
ألم يردّ الغرب على هجمات 11 أيلول الإرهابيّة بإرهاب مضادّ على أفغانستان، وتالياً العراق، وتمّ تدمير البلدين؟
ألا تزال العمليات الإرهابيّة تحدث في الغرب حتى اللحظة. رغم كلّ التوصيفات والدراسات، والتحليلات، والتصدّي من قبل الحكومات؟
هل الإرهاب حقيقة إرهاب قلّة قليلة أصوليّة كما جاء في الكتاب، لا تلقى القبول من قبل باقي المسلمين. أم أنّه إرهاب منظّم تديره أجهزة استخبارات، ورأسمال متوحّش، ودول متصارعة فيما بينها، كي تستولي على مقدّرات العالم كلّه؟
عنوان الكتاب: الجهاد في الغرب: صعود السلفيّة المقاتلة المؤلف: فرايزر إيغرتون المترجم: فادي ملحم
ضفة ثالثة