قراءة في ‘رائحة القرفة’ للروائية السورية سمر يزبك: إنه خط الضوء المائل/ إدريس اقراص
أحيانا تحمل كلمة واحدة أو جملة في عمل إبداعي ما، سر أو أسرار فتح مغاليق كثيرة فيه، إذ أنها تكون بمثابة المفتاح السحري الذي يفتح دهاليز مضامين العمل ويضيء العوالم الواردة فيه، ويتضمنها بين دفتيه ككتاب..
من هنا، فليس عبثا أن ترد جملة’إنه خيط الضوء المائل’ في رأس الفصول الثلاثة الأولى من رواية ‘رائحة القرفة’ للروائية السورية سمر يزبك، وترد في ثنايا الصفحات بعد ذلك، لأن ذلك الخيط من الضوء الذي تلح عليه الرواية سيكون خيطا فاصلا بين مرحلتين أو حياتين عاشتهما بطلتا الرواية السيدة الثرية ‘حنان الهاشمي’ وخادمتها الفتاة السمراء’عليا’ القادمة من العالم السفلي وجلبتها للاشتغال عندها في البيت.هو خط ضوء مائل رسمه باب غرفة الزوج الذي نسيت عليا إحكام إغلاقه لما دخلت لترتمي في حضنه على السرير بعد أن أنهت سهرتها الاحتفالية بجسد السيدة من قبله.هو خط ضوء سيفصل بين لحظتين اثنتين، لحظة الرضا والانتشاء والامتلاء من العطاء المتبادل للجسدين الأنثويين، وبين لحظة افتقاد الاستمتاع والحرمان، هو خط سيفصل كذلك بين لحظتي الحضور والغياب، الحضورالذي يعني المتعة والاستلذاذ، والغياب الذي سيأخذ معه أوقات التهاب الرغبات واشتعال اللذة، هو الخط الضوئي المائل الذي فصل بين حالتين نفسيتين لحنان الهاشمي، حالة الهدوء والنوم المريح بعد قطف اللذة من جسد عليا وبين اكتشافها بجانب زوجها العجوز تنام في فراشه وتعبث بجسده، فيتلبسها الغضب والحنق فيبدأ التصارع مع النفس فتقضي ماتبقى من أوقات الفجر في صراع مجنون مع الذات تحاول معه وفيه أن تستوعب اللحظة بكل ثقلها وزلزالها :’ هل جننت؟رأيتها بعيني.كانت في سريره.عقلك الباطن أيتها العاهرة، أنت تعرفين ما الذي يستطيع أن يفعله عقل باطن بامرأة مهووسة بالبذاءات..’
‘ليست بذاءات، عليا رقيقة.هشة، ناعمة. ‘…تصرخ المرأة الأخرى داخل المرآة:’ هي مجرد أصابع، إستبدليها بغيرها’..ص 22 …حالة الهستيريا والشرخ اللذين ألما بحنان الهاشمي وجعلاها في قبضة كوابيس ورعب ماحقين تحاول أن تهرب من آثارهما المدمرة لنفسيتها وتلتجىء إلى المسك بالشراشف لتتشمم رائحتهما التي ماتزال بقايا منها عالقة بها تشبه رائحة القرفة التي كانت تغليها في إبريق الشاي داخل الحمام أثناء إقامة طقوس الإحتفاء بالجسدين معا، تحمل إليها طرفي الشراشف لعل الرائحة تعيد إليها بعض توازنها النفسي وبعض الهدوء العصبي…هذا الـ ‘خط الضوء المائل’ سيشطر حتى الداخل في شخصية حنان الهاشمي، وذلك حين تصير ‘حنانين’ اثنتين متقابلتين، الأولى ترى أنها فعلت ما يجب أن تفعله حين غضبت على الخادمة وطردتها من البيت عقابا لها على خيانتها لحبهما و لجسديهما، والثانية تجلس قبالة حنان هذه لتبادلها اللوم وتشير لها بأنها أخطأت وأساءت التصرف حين تسرعت ولم تضبط أعصابها أمام موقف رؤية الخادمة في أحضان الزوج العجوز، ولم تستطع امتصاص غضب اللحظة فتجعلها كأنها لم تحدث أبدا، فتحافظ بذلك على استمرار المتعة الجسدية ولحظات السعادة، وبقاء عليا بالقرب كي تناديها إلى السرير فتجدها في المتناول..’لا أستطيع.أنا مشتاقة إليها.لم طردتها؟ هل فقدت عقلي لأرميها هكذا؟ ربما تعود. من المؤكد أنها ستدق الباب بعد دقائق. لامكان في العالم تذهب إليه بعيدا عنيي’ ص ص 24و 25 …
رائحة القرفة هي رواية تحكي المسكوت عنه في مجتمعاتنا العربية، من خلال علاقة حنان الهاشمي، السيدة الثرية من عائلة دمشقية ذات الإسم في عالم الأعمال والمال والصلات العليا والقوية وبين عليا الفتاة الخادمة التي جاءت من الهامش الغارق في فقره وخصاصته المدقعين، علاقة تعرف تواطؤا بين الأنثيين، حنان تجلب خادمتها للسرير ليلا للاستمتاع بالجسد وبلذاته، وهي سيدة البيت الآمرة والمتحكمة، وعليا التي ستعرف مع مرور الزمن كيف تستثمر تعاملها مع نزوات سيدتها الجسدية لتصير هي بدورها سيدة في الليل تضبط إيقاع ارتعاشات جسد مشغلتها، وتكون ملكة اللحظات الليلية لتعود إلى وضعية الخادمة مع بزوغ خيوط الفجر الأولى..لكن هفوة من عليا ستنزلها عن عرشها الليلي وعن تحكمها في جسد التي تأمرها خلال النهار، هفوة تجلت في عدم إحكام غلق باب غرفة نوم زوج السيدة لما تسللت إلى جواره في السرير تعبث بأعضائه المترهلة وربما إكمالا لحفل الجسد الذي كان قبل وقت قصير مع حنان. فجوة باب غرفة النوم وانبعاث خط أو خيط من ضوء مائل من داخل الغرفة سيثير انتباه السيدة، واكتشافها لمايجري، لتقرر في لحظة عاصفة من الغضب طرد عليا الخادمة في الحين، فتجبرها على مغادرة البيت مع تباشير الفجر الأولى لتعيش بعدها ندما وصراعا مزقاها كثيرا ودفعاها لتخرج في الصباح تركب سيارتها لتطوف في الحارات والشوارع تنادي باسمها دون أن تحصل على رد من عليا الراحلة….
رائحة القرفة: رواية ـ سمر يزبك الطبعة الثانية 2009 دار الآداب اللبنانية.
القدس العربي