قراءة متانية في خطاب الرئيس بشار الأسد
منذر خدام
يقع الخطاب الثالث للرئيس بشار الأسد، الذي ألقاه على مدرج جامعة دمشق بتاريخ 20/6/2001 في نحو ست عشرة صفحة من القياس الكبير، وقد كرسه للشأن الداخلي السوري بكل تفرعاته مع بعض الإشارات للعوامل الخارجية.
لقد بني الخطاب أساسا، كما قال الرئيس، من حيث ” الجوهر والمضمون” على لقاءاته مع الوفود الشعبية التي التقى بها خلال الشهرين الماضيين، حتى ” لا يكون منبراً دعائياً”، بل حديثا في ” المضمون لا الشكل”. ويعلم السوريون جميعا كيف يتم تشكيل الوفود التي كانت تدعى لمقابلته، وما هو تمثيلها، وما هو الخطاب الذي يمكنها أن تنقله إليه. كنت أتمنى عليه، أن يقول مباشرة: هذا خطابي استوحيته من مطالب المتظاهرين، من صرخاتهم المدوية ” نريد الحرية نريد الكرامة، نريد دولة مدنية ديمقراطية”، أعرض فيه رأي، أو رأي السلطة، للخروج من الأزمة التي تعاني منها سورية، هاتوا رأيكم. لو فعل ذلك لوقع في نفس المحتجين موقعا حسناً، ولشكل بداية جيدة على طريق الحل للخروج من الأزمة البنيوية التي يعاني منها النظام السياسي في سورية، وتعاني من جرائه سورية وشعبها.
من الجيد أن يقول الرئيس :” نلتقي اليوم في لحظة فاصلة في تاريخ بلدنا” ومن الجيد أيضا أن يشير إلى أننا نريد هذه اللحظة أن تكون فاصلة “بإرادتنا وتصميمنا”، لحظة فاصلة بين ” أمس مثقل بالاضطراب والألم… وغد مفعم بالأمل”. لكنه كان سيكون معبرا وحقيقيا أكثر لو قال بين ” أمس استبدادي مثقل بالألم والمعاناة.. وغد ديمقراطي مفعم بالأمل”، عندئذ لكان قد رسم فارقا جوهريا من عيار تاريخي. هذا الأمس الذي لا يزال مستطيلا في حاضرنا هو وحده المسؤول عن ” حوادث الشغب وأعمال القتل وترويع المواطنين وتخريب الممتلكات العامة والخاصة”، هل علينا أن نذكر بما قاله احد أعضاء مجلس الشعب من درعا في مجلس الشعب وأمام عدسات المصورين، أم علينا أم نذكر بما صرح به محافظ حماه عن المجزرة الرهيبة التي ارتكبتها عناصر الأمن ضد المتظاهرين في حماة. ثم ما هذه المعادلة المستعصية على الحل: عندما يغيب الأمن عن الشوارع التي يتظاهر فيها المحتجون، تغيب العصابات المسلحة، وعندما يظهرون بأسلحتهم تظهر هذه العصابات. ثم لماذا تختفي هذه العصابات عندما تكون المسيرات تملأ الشوارع، وتظهر مع خروج المظاهرات. مع ذلك ورغم “أحجية” السؤالين السابقين كان متوقعا منذ البداية أن يتم استغلال المظاهرات الاحتجاجية للشعب من قبل بعض المتضررين، وقسم كبير منهم من النظام وحواشيه، أو من قبل بعض الجماعات المتطرفة. لقد كان من المفيد بدلا من توجيه اللوم كله للعصابات والمندسين، تحميل بعض المسؤولية عن العنف الذي حصل وعن سقوط الشهداء للأجهزة الأمنية.
نعم إن خسارة آلاف الشهداء هي خسارة للوطن والشعب، وكان يمكن تلافي كل ذلك لو تمت قراءة ما يجري في الوطن العربي بصورة صحيحة، وهذا ما نبهنا إليه في وقت مبكر، وناشدنا في حينه السلطة السورية بان ترسم فارقا جوهريا عن السلطات العربية التي كنستها شعوبها، فذهبت صرختنا سداً. وإذا كان الزمن ” لا يعود للوراء” كما ذكر الرئيس، وإن الخيار الوحيد المتاح هو ” التطلع إلى المستقبل”، فإنني أرجو أن لا يحتاج تكوين هذا المستقبل إلى مزيد من الدماء لرسم ملامحه، وتحديد مكوناته.
ثمة الكثير من السلبيات التي يمكن التحدث عنها في الخطاب، وكنا قد ذكرنا بعضاً منها في قراءتنا الأولية له،وهي عموما سلبيات غير جوهرية تتعلق بقراءة الحراك الشعبي وأسبابه ومظاهره. لكن ونحن نتطلع إلى المستقبل الديمقراطي الذي صار ممكنا بفضل دماء وتضحيات الشهداء، وعزيمة وإصرار المتظاهرين في الشوارع احتجاجا على نظام فقدوا ثقتهم به، نود التوقف عند إيجابيات الخطاب وهي مهمة جداً.
1- لقد اعترف الخطاب بشعور المواطنين بأن ” دولتهم ابتعدت عنهم سواء ببعض السياسات أم ببعض الممارسات”، وهذا يشكل مدخلا للبحث في الأسباب لا في المظاهر والأعراض. فـ “انحدار الأخلاق”، وما نتج عنه من “تفشي الفساد، والمحسوبيات، وغياب المؤسسات”، سببه طبيعة النظام القائم، وإن القضاء عليها ليس ممكننا إلا بتغيير النظام.
2- إن تركيز الخطاب على فكرة الحوار الوطني، هو أمر جيد في ضوء الاصطفافات القائمة حاليا ، وموازين القوى المعبرة عنها على الأرض، وهي موازين متحركة متغيرة، كما ذكرنا في أكثر من مناسبة، باتجاه تعزيز جبهة التغيير. ويبدوا لي، من خلال قراءتي للخطاب، أو من خلال الحوارات اليومية التي أجريها مع المؤيدين للنظام، خصوصا في المؤسسة الأكاديمية التي أعمل بها، أن بعض قوى السلطة صارت أقرب إلى تقبل فكرة التغيير، سواء عن “اقتناع” أو تحت تأثير الضغط المتزايد من قوى الشعب الاحتجاجية، ويصل الأمر ببعضهم إلى حد المطالبة بحل حزب البعث.
3- لقد أزال الخطاب الغموض الذي رافق الإعلان عن تشكيل لجنة الحوار عندما أشار إلى أن ” مهمتها وضع الأسس والآليات الكفيلة بقيام حوار شامل لمختلف القضايا..”. هذا يعني ببساطة أنها ليست طرفا في الحوار، فهي ” لا تحاور بل تشرف على الحوار” وترعاه وتديره ريثما يتشكل المؤتمر الوطني للحوار الذي أتوقع أن تدعى للمشاركة فيه جميع القوى السياسية في المجتمع السوري في الداخل والخارج، وكذلك ممثلين عن المجتمع المدني والأهلي،وآمل أن يتم دعوة ممثلين عن الحراك الشعبي الاحتجاجي في الشارع للمساهمة فيه. وعموما بدون مشاركة ممثلين عن الحراك الشعبي الاحتجاجي السلمي في الشارع سوف يفقد الحوار الكثير من مصداقيته وجديته.
4- يسجل للخطاب في باب الايجابيات أيضاً بأنه رحل كل القضايا إلى مؤتمر الحوار الوطني الذي هو وحده المخول ” بمناقشة مسودات القوانين المطروحة في هذه المرحلة”، ويساهم في ” صياغة مستقبل سورية بمعناه الشامل للعقود والأجيال المقبلة” ويدفع ” الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي في وطننا ريثما تأخذ الأحزاب دوراً أوسع في الحياة العامة”. مؤتمر يناط به هذا الحجم من المسؤوليات الكبيرة والخطيرة، ينبغي التفكير جديا في تكوينه بالتشاور مع جميع القوى الاجتماعية والسياسية في البلد وخصوصا مع القوى المعارضة بما فيها الحركات الاحتجاجية في الشارع.
5- من الجيد أيضا أن الخطاب لم يقطع في ” الصيغ الممكنة للحوار” وتركها لهيئة الحوار الوطني” للتشاور مع مختلف الفعاليات” من أجل الوصول للصيغة الأفضل التي تسمح بتنفيذ المشروع الإصلاحي(التغيير ) ضمن “برامج محددة…وآجال محددة”. وهو لم يقطع أيضا بمن سوف ” يشارك في الحوار..وما هي المعايير..وكيف تضع المحاور…ومن يشارك في كل محور…” وغيرها من التفاصيل التقنية التي تركها لهيئة الحوار أيضاً.
6- لقد أشار الخطاب إلى تعقيد عملية الحوار، لذلك طالب بأن تعطى “فرصة” لأن “كل مستقبل سورية” سوف يبنى على هذا الحوار، وبالتالي لا خيار سوى النجاح، ولكي ينجح ينبغي أن ” يشارك فيه مختلف الأطياف الموجودة على الساحة السورية”. من غير المقبول على حد قول الخطاب أن نتوقع دائما ” رؤية تظهر من الدولة والحكومة…فبضع عشرات من الأشخاص لا يمكن أن يخططوا لعشرات الملايين..وهنا تكمن أهمية الحوار”.
7- أشار الخطاب إلى التجاوزات التي تحصل فيما يتعلق بموضوع التوقيف وطالب بضرورة التقيد بعدم اعتقال أي شخص إلا بإذن من ” النائب العام” وخلال المدد المحددة بالقوانين المختصة.
8- أشار الخطاب إلى تشكيل لجنة لإعداد مسودة قانون انتخابي جديد، وقد أنجزت اللجنة عملها ونشرت مشروع القانون للنقاش العام( انظر موقع التشاركية السورية). لقد قرأت مسودة مشروع القانون وأستطيع القول بأنه جيد، يحتاج للتعديل في القليل من مواده وخصوصا تلك التي تستند إلى الدستور الحالي. وعموما سوف يكون للمؤتمر الوطني للحوار كلمته الفصل فيه.
9- ربط الرئيس في خطابه بين “النزاهة” وحسن تمثيل المواطنين، وجعل من النزاهة عنواناً من عناوين ” المستقبل الذي ننشده”،وسوف ينظم كل ذلك قانون مقترح لهيئة الحوار.
10-أشار الرئيس إلى وجود ” ورشة كبيرة لتحديث وعصرنة الإعلام وتوسيع نطاق حريته..” وسوف يطرح القانون للنقاش العام بعد إنجاز مسودته، وأيضا سوف يكون لمؤتمر الحوار القول الفصل فيه.
11- فيما يخص المواطنين السوريين الأكراد فقد أشار الرئيس إلى بدء منح الجنسية لطالبيها، مع أنه كان من الواجب الإشارة إلى حقوقهم القومية والثقافية كمواطنين سوريين. وعلى كل حال لا يمكن تجاهل مناقشة هذه القضية في مؤتمر الحوار الوطني.
12- أما فيما يخص مسودة مشروع قانون الأحزاب الذي أشار إليه الرئيس، والمنشور على موقع التشاركية، فهو مشروع جيد جدا، أستطيع بلا تردد الموافقة عليه. وعلى كل حال سوف يكون لمؤتمر الحوار الكلمة الفصل فيه.
13- وفي إشارة الرئيس إلى الدستور قال ” ربما الأفضل تغييره كاملا” وفي هذه الحالة نحن بحاجة إلى ” هيئة تأسيسية” تعده وتطرحه على ” الاستفتاء الشعبي”.أما في حال تطلب الأمر في المرحلة الأولى الاكتفاء بتعديل بعض المواد ومنها المادة الثامنة فهذا يتطلب إقرار هذه التعديلات في مجلس الشعب. بكلام آخر أحيل القرار النهائي إلى مؤتمر الحوار الوطني.
14- وقال الرئيس ” سنعمل على ملاحقة ومحاسبة كل من أراق الدماء أو سعى إلى إراقتها…فالضرر الحاصل أصاب الجميع والمحاسبة على ذلك حق للدولة بمقدار ما هو حق للأفراد”
15 -في خطاب الرئيس إيجابيات أخرى كثيرة تتعلق بمحاربة الفساد والإصلاح الإداري وتحديد النهج الاقتصادي الذي سوف تسير عليه سورية.
في نهاية هذا الاستعراض لما وجدناه في خطاب الرئيس من إيجابيات، لا بد من طرح السؤال الآتي مباشرة: ماذا بعد؟ والجواب المسؤول الأكثر احتمالاً هو العبرة في الأفعال لا في الأقوال؟ وفي تعليق الرئيس على من يشككون بجدية السلطة فيما يتعلق بالإصلاح يقول الرئيس ” عملية الإصلاح بالنسبة لنا هي قناعة كاملة ومطلقة..”، ويتابع ” ما نقوم به الآن هو صناعة المستقبل….سيؤثر على الأجيال المقبلة لعقود قادمة..” لذلك كله فهو يؤكد على ” أهمية الحوار الوطني”.
لقد قالت السلطة، بلسان الرئيس، كلمتها، وفي اليوم التالي قال وزير الخارجية ” جربونا ” هذه المرة، و”اختبروا” جديتنا. بقي على المعارضة بكل أطيافها أن تجيب وهي تجيب. لقد جاءت إجابات بعض المعارضين في الخارج انفعالية، مبنية على رفض أي حوار مع السلطة، بدعاوى وذرائع مختلفة، يتقدمها في الغالب الأعم سقوط الشهداء برصاص الأمن. والبعض الآخر لا يزال يشكك في مصداقية السلطة، وهو على حق في الغالب الأعم. فالسلطة لم تقدم أي شيء جدي ومقنع سواء فيما يتعلق بخطابها أو ممارساتها تجاه المعارضين وتجاه الحراك الشعبي على وجه الخصوص، فنزيف الدم لم يتوقف. وهناك البعض يحبذ ما جاء في الخطاب، وينتظر ما سوف تكون عليه لجنة الحوار. وهناك أيضا موقف الحراك الشعبي في الشارع الذي رفض الخطاب، وخرج في بعض المدن للتظاهر في رد مباشر عليه. أنا هنا لست في وارد تقويم هذه المواقف والحكم عليها، من جهة لست مخولا لذلك، ومن جهة ثاني سيكون مثل هكذا حكم بمثابة التعدي على حق الآخرين في التعبير عن مواقفهم وقناعاتهم. مع ذلك لا يستطيع أحد من المعارضة التهرب من الإجابة عن السؤال الآتي: ما العمل؟ لأن المقصود هو وجود سورية ودورها ونمط حياة شعبها ومستقبلها، سؤال بهذه الخطورة لا يترك أحدا خارج دائرة الاهتمام به.
بودي التذكير بمسألة في غاية الأهمية كنت قد تحدثت عنها مرارا، وهي أن الحوار مع السلطة له معنى سياسي فقط، ولا يجوز تحميله أية حمولة أخلاقية، لأنه بطبيعته لا يستطيع حملها أو تحملها. وينبغي أن يكون واضحا أيضاً أن الحوار لا يكون إلا بين أطراف مختلفة سواء في مصالحها، أو في رؤيتها لهذه المصالح، أو في طريقة دفاعها عن هذه المصالح. والحوار لا يهدف بالضرورة للوصول إلى حلول وسط، بل مساعدة “المهزوم” موضوعيا على تحقيق “هزيمته” فعلياً بأقل ثمن يمكن أن يدفعه الطرف المنتصر، وربما الطرفين معاً.
إذا، نحن هنا أمام عملية إنقاذية، المدخل إليها هو الحوار، فإما نتحمل المسؤولية ونشارك فيها بقصد النجاح، أو نبقى خارجها وهو الخيار السهل، وفي هذه الحالة لا نستطيع إعفاء أنفسنا من المسؤولية. انطلاقا من ذلك، ومن تقديري لخطورة المرحلة التي تمر فيها سورية فإنني أدعو بكل صدق جميع القوى المعارضة في الداخل والخارج بما في ذلك ممثلي الحركات الاحتجاجية للنظر في إيجابيات الخطاب فهي الجوهرية، دون أن يعني ذلك إهمال السلبيات، والمبادرة للاستعداد للحوار لإنقاذ سورية من براثن الاستبداد ونقلها إلى فضاءات الحرية والديمقراطية. وإذ تشارك في الحوار فهي تشارك من موقع القوة لا الضعف، قوة تستند إلى حركة الاحتجاج الشعبي في الشارع، وإلى طابع العصر وضروراته. إن الرهان على إسقاط النظام في الشارع هو رهان غير واقعي، وهو مكلف جداً، ربما لا تستطيع سورية تحمله، فالنظام يمتلك عناصر قوة كثيرة محلية وإقليمية لا تسمح بسقوطه الحر. لذلك من الأفضل التفكير في إمكانية تغييره عبر صناديق الاقتراع،في حال قرر الشعب ذلك.
كلمة أخيرة بودي قولها للمعنيين عن الحوار، ولأصحاب القرار في النظام السوري، أنكم مسؤولون مسبقا عن فشل الحوار في حال حصوله، لذلك انتم معنيون بتأمين البيئة الملائمة للمشاركة في الحوار، وفي مقدمتها وقف الاعتداء على المتظاهرين، وتغيير خطابكم الإعلامي والسياسي تجاه المعارضة، وقوى الاحتجاج الشعبي في الشارع.