صفحات الثقافة

قرقعة عظام/ عبده وازن

 

 

أن تصدر رواية مجهولة للكاتب صموئيل بيكيت بعد ثمانين عاماً على نومها في الأدراج، حدث لا يمكن إلا الاحتفاء به وإن كانت تعود الى بداياته، في ما تحمل البدايات عادة من حيرة وارتباك في احيان. ولكن أن تكون هذه الرواية قد رُفضت و «اضطُهدت» وأُدرجت في خانة الادب الرديء و «المقرف» وفق الناشرين، فصدورها لا بدّ من ان يكون حدثاً مزدوجاً، بل أكثر من حدث. فقضية هذه الرواية القصيرة تكشف كم ان بيكيت كان سابقاً عصره ومتجاوزاً ذائقة النقاد والقراء والناشرين، وكيف انه كان في طليعة تأسيس ادب جديد يناهض الثقافة التقليدية والاخلاقية السائدة، لا سيما في مدينته دبلن التي كانت تسيطر عليها جماعة الأكليروس، فارضة رؤيتها المتزمتة الى الإبداع والكتابة، وداعية الى مراقبة الأعمال الأدبية والفنية، ومتوجسة من «حرية التعبير» التي تحمل على الفسق والشر. وعلى خطى بودلير الذي كتب عن جمال «الجيفة» وكافكا الذي مسخ بطله غريغوار سامسا «حشرة» في قصته الشهيرة، اختار بيكيت الشاب ان يجعل بطل روايته أو قصته «عظام الصدى» (من الافضل اعتماد «عظام إيكو») شخصاً مضطرباً وشبه مهلوس.

إلا ان اللافت جداً هو ان بيكيت الذي عانى الألم جراء «حماقة» الناشرين عمد الى كتابة قصيدة اطلق عليها عنوان القصة المرفوضة والمضطهدة «عظام الصدى» وأصدرها عام 1935 في ديوان يحمل العنوان نفسه بمثابة تحية لها. هذا الديوان رفض بيكيت ترجمته الى الفرنسية لغته الثانية التي كانت بمثابة اللغة الام بعدما كتب بها بدءاً من العام 1937 بضعة من اعماله الكبيرة. ولم يترجم الديوان إلا متأخراً عام 2002 بعد رحيل صاحبه.

ولئن راج ان بيكيت استهل تجربته شاعراً بالانكليزية، ناشرا قصائده في مجلات عدة في دبلن وباريس، فصدور هذه الرواية اليوم بعد ثمانين عاماً على كتابتها، يدل على ان بيكيت كان حائراً أو موزّعاً بالاحرى، بين كتابة الشعر والقصة والنصوص المسرحية، ولم يكن وجد هويته التي لن يؤكدها أصلاً، ولن يقصرها على نوع واحد، بل سيدعها مفتوحة على آفاق الكتابة، سرداً وشعراً ومسرحاً.

صدر ديوان «عظام الصدى» («عظام ايكو») عام 1935 وظل شبه مجهول وكأن بيكيت شاء أن يدع ديوانه الأول بالانكليزية طي النسيان. ولا ينم تجاهله هذا الديوان عن عدم رضاه الشخصي عنه أو رفضه إياه فحسب، لكونه من نتاجه الباكر أو اليانع، بل ينم أيضاً عن إصراره على تناسي المرحلة التي كتبه فيها وهي من أشد مراحله قنوطاً ويأساً وكآبة… وهذا ما يؤكده جو الرواية التي تحمل العنوان نفسه. ويكفي تحليل العنوان الرئيس للكتاب «عظام إيكو» وعنوانه الثانوي «رواسب أخرى» ليبين مقدار «الخراب» النفسي الذي عاشه بيكيت في مقتبل حياته الأدبية. فعبارة «عظام إيكو» مستعارة من الميثولوجيا الإغريقية، وكان الشاعر أوفيد أوردها في ملحمته الضخمة «التحولات» متناولاً أسطورة «إيكو» وهي الحورية الجميلة، حورية الغابات والينابيع، التي التقت نرسيس ذات يوم وأُغرمت به، لكنّ العاشق «النرجسي» صدّها بقسوة وتوارى .أما هي، بحسب ما يروي أوفيد، فتاهت وحيدة في الغابات وحاكت من أوراق النبات حجاباً أخفت به وجهها خجلاً. وراحت تهزل من شدة حزنها حتى أضحت «صوتاً وعظاما»، لا يراها أحد لكنّ صوتها هو الذي يُسمع وكأنها مجرد صوت.

لا تخفي قصائد ديوان «عظام إيكو ورواسب أخرى» تماماً مثل الرواية المكتشفة حديثاً، بعدها «الأوتوبيوغرافي» (السير-ذاتي) على رغم طابعها «الهرمسي»، المغلق والغامض، ونزعتها التجريبية القاسية ولغتها الممزقة التي يمكن وصفها بـ «أشلاء لغة». يبدو بيكيت في هذا الديوان، كما في الرواية نفسها، أشبه بالكائن المدمر الذي يراقب عالماً يشعر في قرارته أنه غريب عنه، ويبغي في الحين عينه أن يبعد نفسه عنه ويعجز .إنه الفتى الإرلندي الذي يجذبه وطنه – الأم إليه ويصدّه عنه في وقت واحد. هكذا تحضر إرلندا ودبلن وبعض الأحياء والأماكن، وتغيب في آن واحد وكأنها لم تكن. وفي نظر بيكيت الشاب، ان الشاعر لا يستطيع أن يحوّل الحياة فناً إذا لم تكن حقيقة الموت منبع هذا الفن ومرجعه وملجأه. لكن الحب يستطيع أن يحتل حيزا في صميم الشعر المحاصر بهاجس الموت. فالحب لحظة إشراق وسط ركام الخراب الذي هو الحياة نفسها.

في ديوان «عظام إكو» كما في كل شعره بالانكليزية والفرنسية، سعى بيكيت الى تحقيق «شعر خالص» و «مسلوخ» من الكلام، وهو شعر لم يبق إلا مجرد توقيع صوتي، ولكن بعيداً من معطيات العروض التقليدية، شعر يغلب عليه الاختبار والتجريد، ويختصر في أقل ما يمكن من الكلام أكثر ما يمكن من الأحوال والرؤى والأحلام والمشاهدات… ولعل هذا ما حملته لغة رواية «عظام الصدى» أو «عظام إيكو» التي خرجت الى الضوء منتقمة للكاتب من الظلم الذي ألحقه به الناشرون.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى