صفحات الرأي

قرن من الفرص الضائعة

خيري الذهبي

حين فتح ابراهيم باشا سوريا كان يحمل معه مئات الأشتال من الكرمة التي أمر بزراعتها في عشرات الأماكن، جبلية وسهلية، قريبة من الغابات شبه المظللة، وفي السهول المشمسة، وأخذ هو والكولونيل سيف، أو سليمان باشا الفرنساوي كما عرفه التاريخ المصري للعقود التالية، أخذا ينتظران نجاح هذه الشتلات، وأي الأراضي ستكون الأفضل لإنجاح هذه الشتلة الجديدة.

كان ابراهيم باشا قد جرب هذه الأشتال في مصر، ولكنها فشلت، فالشمس الحامية، وطول الفصول المشمسة لم تساعد على نجاحها، ولما كان وصديقه القائد البونابارتي السابق «سيف» شديدي الحرص على إنجاح هذه الكرمة في الشرق، فكلاهما معتاد على الاسترخاء مساء وشرب كأس أو كأسين من نبيذ «بوردو»، ولما كان جلبها من فرنسا ليس ميسوراً دائماً، فهناك دائماً حرب ما قد تعيق استيرادها، أو حصار ما قد يوقف وصولها، فقد تساءل ابراهيم باشا: ألا يمكن زراعة كرمتها هنا في بلادنا؟ ولما جرباها في مصر وأخفقت، فقد قررا نقلها إلى الشام، فالشام تشبه فرنسا، أو بعض أقاليم فرنسا، ولذا فلابد أن تنجح هذه الكرمة في مكان ما في سوريا.

لم يكن ما حمله ابراهيم باشا وسيف إلى سورية كرمة البوردو فقط، فقد حملا إليها وللمرة الأولى مفهوماً جديداً هو مفهوم «المواطنة»، فبعد مفاهيم، مثل العربي القبلي والعربي المولى، والمولى فقط، والمسلم و… الذمي، ودافع الخراج، ودافع الجزية، أدخل ابراهيم باشا المفهوم البورجوازي الجديد «المواطن»، وهذا المفهوم ليس تعبيراً لغوياً، بل تعبير حقوقي يعني أني أنا الدولة، لا أهتم لدينك، ولا لمذهبك، ولا لعرقك، ولا لطبقتك، فأنت أمام الدولة «مواطن» لك حقوق المواطن، وعليك واجبات المواطن، الضرائب نفسها، والخدمة العسكرية نفسها، والتداوي في المستشفيات العامة نفسها، والتعليم نفسه، وهكذا أسقط بفرمان واحد بنى متحجرة انقضت عليها القرون حتى تحولت إلى مسلّمات كإحساس التركي أو المملوكي بالتفوق والتميز الطبقي، فهم» أبناء الناس» أي «سلالة المماليك» والأتراك، والآخرون هم «الفلاحون»، ثم أدخل محمد علي الفلاحين في الجيش في مصر للمرة الأولى منذ أكثر من ألفي عام، وهؤلاء الفلاحون هم من سيهزم بهم العثمانيين، وهم من سيكتشفون أفريقيا العميقة التي ظلت عصية على العالم حتى ذلك الحين، وهم من سينشئون الجمعية الجغرافية المصرية مفخرة العلم المصري المبكر، وهم من سيهزم بهم الامبراطورية التي لم يستطع شرقي هزها حتى ذلك الحين، ولم يهزها الألباني الشاب فقط، بل هدد بإلغائها كلياً وإحلال نظام شاب «بورجوازي» محلها لو لم يرفض الباشا الأب الإقدام على مثل هذه الخطوة.

احتل الباشا الشاب سوريا، وزرع فيها ليس شتلات البوردو فقط، بل زرع فيها أيضا بذور الثورة البورجوازية التي هزّت أوروبا قبل أربعين سنة، والتي ظن عجائز أوروبا بقيادة «مترنيخ» أنهم قد أنهوا شرورها مع موت الكورسيكي القصير في الجزيرة النائية التي أودعوه فيها، ولكنهم أخطأوا الخطيئة الكبرى حين تركوا جنرالاته المطاردين، والملاحقين يتناثرون في العالم كبذور النباتات تحملها الأحلام إلى أقاصي الأرض، هذه البذور التي ستنتش أبو خليل القباني، وتنتش عبد الرحمن الكواكبي، وعائلة مراش، وقسطاكي الحمصي، وسلالة اليازجي، والمعلوف، وأحمد فارس الشدياق، إلى آخر تلك الأسماء التي أنارت لنا القرن التاسع عشر، وبعض العشرين، ولكن سوء حظ سوريا جعل البنى القديمة فيها تثور على ابراهيم باشا وتحيل وجوده في الشام إلى عذاب… طبعاً لم يثر السوريون بدافعهم المحلي فقط، بل كانت الأيدي الانكليزية والعثمانية ترشو، وتحرض، وكانت هزيمة الإنكليز للباشا المصري وإبعاده من سوريا نهاية المغامرة الانقلابية الجديدة المستزرعة في الشام، أو نهاية رغبة الباشا المصري باستزراع الثورة الفرنسية في سوريا ولو بالواسطة.

في سنة «1848» توفي ابراهيم باشا في حياة أبيه وكان هذا من سوء الحظ لمصر وللعالم العربي، مات ولم يذق نبيذ البوردو السوري الذي زرع شتلاته فيها ورحل، فلقد فشلت أو أهملت معظم الأشتال التي زرعت هناك، وكان عليها أن تنتظر لأكثر من سبعين سنة حتى يصل إلى سوريا ضابط فرنسي هو ابن لصانع نبيذ من بوردو، فيعيًن قائداً لحامية مدينة الضميرالقريبة من دوما، ويحمل إليه حاجبه سحارة من العنب الدوماني معتذراً: صحيح أنهم يدعونه «عنب الطيانة» لشدة حلاوته ولكنه الأطيب (والطيانة ج طيان، وهي المهنة الأشد إرهاقاً، والأشد حاجة للطاقة)… جربه يا سيدي، وإن لم يعجبك، فسأحمله إلى بيتي، فهم يحبونه! لم يكن الكرًام الفرنسي الشاب بحاجة فعلية لتذوقه، فلقد عرفه تقريباً منذ اللمحة الأولى.

حين عرف كرًامو دوما برغبة الضابط الفرنسي في شراء عنبهم لتحويله إلى نبيذ بوردو النفيس والغالي الثمن كما حاول الضابط إقناعهم، والذي سيحولهم إلى أثرياء في فترة قصيرة رفضوا بشدة، وأرسلوا من يحمل شكواهم إلى المندوب السامي مهددين بعظائم الأمور، فالرجل يريد تحويلهم إلى خمّارين!! ولما كان الجميع في المندوبية يشمون رائحة الحرب العالمية القادمة، ويخافون من الاضطرابات زمن الحرب، فقد أعادوا الضابط الشاب إلى فرنسا، وظل العنب اللذيذ والشديد الحلاوة «عنباً للطيانة» حتى جاء الرئيس الراحل ببطل تل الزعتر، فجعله محافظاً على ريف دمشق، و… بدأ السباق على مجزرة بيع ريف دمشق مقاسم للبناء العشوائي الذي لن يتوقف حتى تتحول الغوطة التي طالما تغنى بها الشعراء إلى مكعبات معمارية قبيحة، ويندفن تحتها كروم «عنب الطيانة «إلى الأبد.

البعث يكرم الحركات الفلاحية

قبل عقدين فقط من هذا الدفن الطقوسي لكروم «عنب الطيانة» كان حزب البعث قد قام بـ«ثورته» التي انطلقت معلنة أنها ما قامت إلا حرباً على البورجوازية «العفنة» هذه البورجوازية التي لم تتح لها الفرصة أصلاً للوجود حتى تتعفن، فقد كان الهدف الأساس لهذه «الثورة المباركة» المقولة التي سمعتها من واحد منهم عرضاً: «ونحنا؟ ما إجا دورنا؟»!! وكان… دورهم الذي استمر لخمسين سنة دمرت فيها الغوطتان حين حولتا إلى مجسم للقبح المعماري والبناء العشوائي، وجففً فيها بردى والخابور، وتملحت عشرات آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية في الرقة ودير الزور، فخرجت من الدورة الزراعية، وربما ستحتاج سوريا إلى المليارات من الدولارات فقط لغسيل الملح عن الأراضي التي ما أتلفتها إلا الشعارات التي كانت تطلق لتنسينا كمية الفساد التي ندر أن توجد في بلد آخر، فلا يثور.

بعد حوالي العشرين عاماً من هذه الثورة «المباركة»، طلب اتحاد الفلاحين من مجموعة من المؤرخين السوريين وضع كتاب عن «نضال الفلاحين» و«الحركات الفلاحية» قبل الثورة، وكان المطلوب كما يعتقدون إثبات أن هذه الثورات الفلاحية ما قامت إلا إرهاصاً بقيام «الثورة المباركة» التي ستعيد للفلاحين حقوقهم. و… عمل الأساتذة المؤرخون والحق يقال بجد لسنوات يطالعون الوثائق والشهادات ويعملون على وضع هذا الكتاب الوثيقة للتاريخ، وأخيراً… ظهر الكتاب، وكان واحد من أصدقائي ممن شاركوا في تأليفه، فأهداني نسخة منه، وكان الكتاب شهادة تنتمي إلى مظالم العالم الثالث، وشهادة عن اللصوصية المرعبة التي كان الفلاح السوري يخضع لها، كان الفلاحون، كل الفلاحين دون أي انحياز ديني أو مذهبي يخضعون لهذه اللصوصية، ولكن أشد ما لفت نظري في هذا الكتاب أن معظم الأسماء الواردة فيه وهي أسماء الجلادين من رجال الأغوات، ومضطهدي الفلاحين، إذ بها الأسماء نفسها التي سنقرأها كثيراً وسنسمع بها كثيراً في أسماء قادة الحزب المبارك، وفي أسماء رجال الأمن والثورة… «المباركة».

كان الكتاب وثيقة هامة عن اضطهاد الفلاح السوري، وكنت أتمنى أن أستبقي الكتاب لمكتبتي أرجع إليه عند الحاجة لو لم يوقظني صديقي المؤرخ وهو يعرف أني ممن ينامون باكراً، فيتحدث إلي معتذراً بصوت متهدج راجياً أن أستقبله الآن. الآن؟ سألت مستنكراً، فكرر في ارتباك مذعور: الآن… ضروري!! ولم أستطع إلا أن أوافق، وغيرت ثيابي لأكون في استقباله، كانت كلمته الأولى بعد أن جلس: أرجوك… الكتاب، ولم أفهم عن أي كتاب يتحدث، وكأنه أدرك حيرتي فقام بنفسه إلى المكتبة، واستل مجلداته عن الرف، ولاحظ دهشتي لتصرفه غير المعتاد، فجلس وحدثني عن استدعاء المخابرات له، واتهامه بمعاداة الثورة، وإلا فكيف يسمح لكتاب مثل هذا لاهمً له إلا إدانة رجالات الثورة بالصدور دون أن ينبه أجهزة الأمن إلى خطورة الكتاب؟ ولما احتج صديقي بأن كل ما كتب وزملاؤه إنما استلوه من الوثائق التي أعطيت لهم، وفاجأته صرخة رجل المخابرات حاسمة: اللعنة على الوثائق! ثم استدرك خجلاً من اندفاعته: وهل نسمح لوثائق كتبها أعداء الثورة أن تدمر رجال الثورة!!

اختفى الكتاب الذي تمنى المؤرخون السوريون حين كتبوه أن يوقظوا به المواطنية والمدينية في بلد كانت مهداً للمدينية والمواطنية قبل أن يتسلط عليها مماليك آسيا.

اختفى الكتاب كما اختفت الشتلات التي دفنها المماليك الجدد تحت العشوائيات التي تشبه في قبحها الروح التي بنتها، الشتلات التي حاول التلميذ المصري للثورة الفرنسية زرعها في أرض تشبه الأرض الفرنسية في كل شيء إلا في العتمة المملوكية الطويلة التي بركت على صدرها، الأمر الذي لم يحسب له حساباً.

اختفى الكتاب كما اختفت الشتلات التي جاء بها من فرنسا وزرعها حالماً بكأس بوردو هادئ في مدينة لا يتسلط عليها المماليك.

(كاتب سوري)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى