قصائد بلا عناوين/ براني موزيتش
1
وأنا صغير
كانوا يسخّنون الماءَ على النار مرة كل أسبوع
يصبّونه في دلوٍ وسط المطبخ
يضيفون شيئاً من الماءِ البارد، ويضيفونني إليه
ليغسلوني
وحين يجفّفونني يستخدمون الماء ذاته لابن عمي
يغسل نفسه ولا يدخل في الدلو
كان ضخماً وأكبر عمراً، لهذا السبب
سرعان ما تعرفتُ على مظاهرات الطلبة
قالوا لي هذه خطرة، على المرء أن يبقى في البيت،
يتجنّب الثورات. وحين كبرتُ بما يكفي لأفهم
لم تكن هناك ثورات؛ مجرد مواكب هزيلة
ولهذا السبب بدأت أرسم
رسوم مقاومة تخطيطية، لم تكن جلية، وبالكاد يفهمها الناس.
بدأت أثور على الأوضاع البدائية حولي
بدا أن الدلو ذاته يستخدم لإعداد المزيج اللعين
من أجل دم النقانق
يستدعون القصاب ليقوم بالعمل القذر، ربما
من هنا نبعت التماعات تعطشي للدم.
هي لا تحدث إلا مرة أحياناً، للحظة
حين تبدو أشياء ما زال يمكن تنظيفها
بالماء أو الدم أو الكلمات.
2
والدي غير موجودٍ إلا على بطاقاتِ البريد. منذ أكثر
من سنتين قبل ولادتي وهو يكتبُ من استوكهولم
أولاً إلى البيتِ، ثم إلى مكان عمل أمّي، سينما سيسكا
من الواضح، لم يحبّه والدا أمّي
وحتى بعد وقت طويل، حين لم يتزوج، وحملتْ.
أدى خدمته العسكرية، زادار، بلغراد، طيلة سنة ونصف
أثناء ذلك، أمّي مع بطنها، لم تعد موضع حبّهم أيضاً
وكان عليها أن تغادر إلى ليوبليانا، إلى كوخ،
وحين ولدتُ لم يعد يُسمح لها بطفل في غرفة صغيرة مؤجرة
فأرسلوني إلى محمية أطفال.
كم من السنوات؟ بعد الخدمة العسكرية يظهر والدي
في بعض الصور الفوتوغرافية، أهذا حين وقفتُ على قدميّ، أو حتى
وأنا أخطو خطواتي الأولى؟ ثم مرة أخرى
على بطاقات بريد من بولندا، تشيكوسلوفاكيا، ألمانيا الغربية.
وحتى وأنا في الثامنة من عمري،
كان ما زال يقول: “أنا بعيد كي تتحسّن أحوالنا”
ذاكرتي الوحيدة عما حولي آنذاك ذاكرةٌ حيّةٌ. تأخذني أمّي
إلى لقاءٍ معه في مطعم ريو. بعد ذلك
لم تتحسّن أحوالنا. لم أره مرة ثانية.
توقف عن إرسال البطاقات البريدية أيضاً. النقود فقط تصل بانتظام
طيلة الوقت حتى انتهاء دراستي.
حين كنت في الثالثة من عمري مرضت أمّي. عولجت في مستشفى.
لم تعد تستطيع المجيء إلى محمية الأطفال يومياً لتأخذني في نزهة،
كما فعلت من قبل، وكما تفعل كل الأمهات. عندئذ لانت جدتي
وأخذتني عندها،
تماماً مثلما أخذوا ابن عمي قبل بضع سنوات حين ماتت أمّه.
لم أعد إلى أمّي في المدينة إلا حين ذهبتُ إلى المدرسة.
في هذا الوقت انتقلتْ إلى شقة بناية بنوها لسكان الأكواخ. استبدلتْ
البيئة الريفية بأطفال المدينة المزعجين، بالإضافة إلى سكان أكواخ وعمّال
والبرجوازية الصغيرة، والبرجوازية الطفيلية، وكسالى الكنيسة.
وأحدث هذا تشويشاً هائلا في رأسي إلى حد أنني انسحبتُ
إلى غرفتي، وبدأت أجمع البطاقات البريدية
من كل الناس وأي أناس مثل مجنون.
3
دائماً كنا نذهبُ إلى شارع روشكا حيث يتجمّع المحتجّون. أصغينا
إلى خطاباتٍ، أصواتِ استهجان، تصفيق. كنا ممتلئين بالثورة. قرأنا
كتاباتٍ جنوبية على مستنسخاتٍ باهتة لمؤلفين
سيقودون مجزرة بعد بضع سنوات.
أيُّ عمى أصابنا بحيث لم نبصر؟ خلال بضع سنوات فقط
سيصعد المضطهدون إلى السلطة، وفي مركز ميتيلكوفا
قطعوا إمدادنا بالكهرباء والماء، فنقلنا الماء في حاويات ضخمة
ذراعاي تؤلمانني حتى اليوم.
عرفنا كلُّ عامل محطة غاز في المدينة. صعبٌ
تغيير العالم. إن لم يكن مُحالاً البتة. اليوم ماتت وتني هيوستن،
أنت غنّيت أغنيتها قبل سنوات في شارع روشكا، غنّيت ستحبّني دائماً، ولكنني لم أصدّقك. تلك كانت مجرد أغنية.
ومع ذلك كان عذباً سماعك. وحين تتردّد أصداؤها في المذياع
آلاف المرات، تستثير فيّ تلك الأخرى الرديئة في الشارع،
في الحشد، ولا يمكنني القول لنفسي بارتياح
تلك كانت مجرد سياسة.
4
حين كنتُ صغيراً، جعلونا نلوّح بأعلامٍ صغيرة
للرئيس. كانت مدرستنا بجوار شارع سيلوفشكا
على الطريق الاستراتيجي من مطار برنك إلى لوبليانا
أحياناً كنا نلوّح بأعلام أجنبية أيضاً. حين يكون لدينا ضيف.
الآن يجعلوننا ندلي بأصواتنا. ليبدو الأمر عادلاً.
الحكومة الجديدة تقف متأهبة أمام عدسات التصوير. أين يجدون
أملاً للإيمان بأن شيئاً ما يزال متروكاً ليُسرق.
هبّاتُ رياح عنيفة من التلال، الجو باردٌ، ولا ندفة ثلج
أنظرُ عبر النافذة إلى الناس الذين بدأوا يفهمون ببطء
أنهم يؤخذون في جولة، ولكنهم لا يفهمون
كيف يمكن أن يحدث هذا؛
الأرض يغرقها طوفان منذ سنوات وسنوات.
5
التقطتُ كتاباً مستعملاً ومضيتُ
إلى حديقة مجاورة لأنظر فيه؛
على الصفحة الأولى البيضاء، بخط رفيع
على رأس الصفحة، كتب من يسمى يوجين
إلى من يسمى جيم في يناير 1988:
“اقرأه وحيداً”.
ماذا حدث لجيم بحيث انتهى الكتاب
إلى مخزن كتب مستعملة طيلة خمس عشرة سنة؟
هل استغرق الأمر منه وقتاً طويلاً ليقرأ في عزلة؟
ويوجين، ماذا حدث له؟
قلّبتُ الصفحات بحثاً عن ملحوظة أو هامش
يمكن أن يقول لي شيئاً عن أي واحد منهما،
كلمة تحتها خط ربما، بصيص ضوء
لا شيء، الصفحات فارغة تماماً، عارية
كما لو أن لا أحد قرأ الكتاب أبداً.
كما لو أن من المنتظر أن أصبح جيم ذاك. أقلّبُ
الصفحات تحت الأشجار، أقرأ السطور، وأتساءل،
ماذا يحاول يوجين أن يقول له.
ربما لا معنى للذهاب والبحث عنه الآن،
ربما لم يعد حيّاً حتى.
وأين كنتُ آنذاك، هل شظايا ذكرياتي
نوع من واقع؟
إذا حفرتُ عميقاً فعلاً قد ألتقط وأستخرج
ما كان يحدث آنذاك، أين كنتُ، مع من، ماذا فعلتُ،
وإلا فالأمر مثل أن تلك السنة لم تحدث،
وأنني يمكن أن أكون يوجين أو جيم
وأترك هذا الكتاب الماكر ينزلق خلف الرف
وأتوقف عن الوجود عدداً من السنوات.
6
في مدنٍ ضئيلة هامشية مثل هذه، لماذا دائماً
أدخل محلاًّ رثاً للفطائر حيث النسوة
يحشين وجوههن بالكعك، أو يرشفن قهوة،
يثرثرن جانباً مسروراتٍ بلغة ما غير مألوفة
وكل شيء بسيط. بدل أن أذهب إلى مشربٍ ما،
مع أنني أشاهدهنّ هناك، إلا أنني أنتهي دائماً
بقرار ضدهن؛ هناك الزبائن الذكور
يناقشون السياسة والألعاب الرياضية وسط الدخان
والبيرة، متوترين توتراً جاداً.
هذا الجزء من العالم يضعني في نقطة ضيقة كل يوم، ينهكني.
يصيبني بالمرض. ومرة بعد مرة الأمر نفسه.
وأنا ألوك القشدة الحلوة في فمي، أنظرُ
إلى دكان القصاب عبر الشارع،
إلى اللحم معلقاً بالخطاطيف، وأتذكر
كيف جلسنا بغباء في مشربٍ مكتظ بشبان انكليز،
وحين بدأت مباراة كرة القدم على الشاشة الواسعة،
كان الوقت قد تأخر، تبادلوا الأنخاب
قرعوا كؤوس بيرتهم، لوحوا بأعلامهم، صرخوا، لديك
وجه مسلمٍ مكتوب على وجهك كله. ونحن جلسنا هناك،
غريبين شاذين في نوع من مطمرِ زبالة كئيب،
في مكان ما من قبرص، نرتشف ببطء، وبشكل غير واضح،
شرابنا، آملين أن تسير المباراة سيراً حسناً. ربما
الأكثر حكمة زيارة المقابر مرة بعد أخرى،
هنا يتركك الناس وحيداً، وليس عليك الاختيار بين عوالمهم،
الموتُ يجعلهم ضئيلين وبائسين،
الموتُ يمنحهم قدرة على المعاناة.
* BRANE MOZETIČ، شاعر سلوفيني مولود في لوبليانا (1958)، كاتب ومترجم ومحرر صحافي وناشر، وناشط يعمل على تعزيز مكانة الأدب السلوفيني خارج وطنه. نشر 14 مجموعة شعرية، وثلاث روايات، ومجموعة قصص قصيرة، وأربعة كتب مصوّرة للأطفال. ترجم إلى الإيطالية والإنجليزية والإسبانية والألمانية، فيما ترجم إلى اللغة السلوفينية أكثر من 30 كتاباً غالبيتها عن الفرنسية، تضمّنت أعمالاً لرامبو وجان جينيه وفوكو.
** ترجم القصائد عن الإنجليزية: محمد الأسعد
العربي الجديد