قصائد/ عباس بيضون
كتب لم يقرأها أحد
كتب لم تُفتح من سنين
في الحقيقة لم يقرأها أحد
حتّى الذين نسخوها خافوا من ان يفعلوا
قالوا إنّهم ينقلون أسراراً لا تجوز معرفتها
و لا طاقة على فهمها
الذين كتبوها خافوا منها
ورموها على قارعة الطريق
توجّسوا من ان تخنقهم في نومهم
لم يعرفوا كيف تصوّرت على الرقّ
مَن وضعها على الريشة
ومَن حرّك بها أصابعهم
رصفوها خلف الزجاج
وأغلقوا عليها
قالوا الكلام يحيا مع الوقت
وعلينا أن ننتظر أجيالاً
بمجرّد فتحه سيبصق روحه
وتشتعل النار في أطراف البيت
لكنّ أحداً لا يعلم كم تحاول الكتب فتح نفسها
ولا تجد أمامها
سوى الغبار لتمضغه
كم هي الأخرى أميّة
ولا تقرأ ما في داخلها
أميّة وعمياء ومقعدة
ولا تقدر على الحركة
يخطئ من يظنّ
انّ المجلدّات الكبيرة
تمضي وقتها
في العاب ذهنيّة
او أنّها مع الأيّام
تزداد فهماً لما تحويه
انّها في نهايات الأزمنة
تغدو واضحة ومفسّرة
في نهايات الأزمنة
لن يبقى شيء منها
سيغدو الفراغ في وسطها
سيكون ايضاً سقفها
ستعلو وتطول
لكنّها لن تحكم العالم
سيبقى لها سحرها
بكلمة
تحوّل بوتوغاز المطبخ الى مكتبة
لكنّها لا تستطيع
أن تبعد عنها
العناكب السّامّة
وتستمرّ، مع ذلك، في اكل الذباب
مع العمر تبيضّ اعينها
وتعضّ اكثر على اضراسها
تنتأ ويغدو لها حجم
وتروح الكلمات تأكل بعضها
ما يتبقّى لن يكون قليلاً ويشكّل بنفسه كتباً
قصيرة بل قزمة
علب مصفوفه كأحكام
وربّما كلعنات، ربّما كأسماء امراض قاتلة
يحدث ان نستيقظ
فنجد المجلّدات مقطوعة نصفين
او نجدها كوماً من نشارة خشبيّة
سحبوا خيطانها وفرموها
بدون حنكة
لن يبقى فيها اسرار اكثر من ورقة خريف
لن يسقط منها مخطّط للعالم
انّها تفور بنمال ترسم دوائر كاملة حولها
لقد فتحت نفسها
ابتلعت دفعة واحدة
الفراغ و الذياب
لم يبق أمامها ما تأكله
سوى الجذور التي تجدها مخلوطة بالتراب
ربّما هكذا لن تنقل ألينا امراضاً
ولن تخنقنا في نومنا
من ثقب إلى ثقب
منتصف الشهر ثقب
أصل إليه من ثقب آخر
أنظر إلى حيث كنت
فلا أرى الاّ العشب
أمضغ بدون قابلية
صباحات ناشفة
وأيّاماً متساوية متثائبة في الظلّ
أتناول الحياة كسرة كسرة
وما يبقى أتركه للذكرى
المبعثرة خلفي
والّتي تتحوّل إلى آثار
وإلى عملات ممسوحة
أدخّن الوقت مخلوطاً بالهواء
وأزفره مع الكلمات
الّتي تنزل أعقاباً على الأرض
لو كان لي أن أدّخر أيامي
او أحفظها في مصرف
ان ابني هيكلا من يوميّاتي
شخصاً من شمع او خرق
أن اربّي منها شجرة
او قرداً
… أو حتّى فزّاعة
لكنّ الغربان الّتي تنقضّ من علٍ
تحمل الى المجهول
القشّ الّذي نسجتها منه
وتخلّص الخيوط والبراغي منها
يبقى زرّ واحد على صدر المانيكان
نصيبه من الحياة التي امضاها
تحت الأضواء
أنّه وسام خدمة طويلة
لم يدرك الى الآن
أنّها انتهت
فليس له جثّة نرميها في خندق
أو نغطّيها بمعطف عسكريّ
رآه الجميع وهو يبتسم لحذائه
حذاؤه يبتسم له ايضا، يتبادلان اللاشيء
الّذي هو سعادة
من يوم الى يوم
وتحتاج الى جلد لمّاع وفكّ قويّ
يحدث أنّني أخبط قدمي في ثقب جديد
انتصف شيء ما
ونحن تماماً في وسطه
كمن يقطع شعرة بسيف
مرّ الشهر تحت آباطنا
ولم نره
ولم نفكّر في أن نؤخّره
قد أكون مانيكان شجره
قد أكون مجرّد يوم أضافيّ
لا أعرف ماذا اضيف للشروق او الغروب
ماذا أمنح للفجر
لا شيء أقطعه بقدمي
كمن يقطع شعرة بسيف
لا أتصدّق على المانيكان
إنّه يعرف من أين سرقت قبّعتي
كم خسرت في شهر
ولماذا أفشل في تقليده
انّه يختارني من بين المجتمعين خلف الزجاج ويناديني
جنبي المرأة المقامرة
وقد جاءت تشتري حظا
جنبي النمر الطاعن
وقد جاء يطلب أسنانا
جنبي الجنيّة الهوجاء
توزّع بطاقات لكلّ الأماسي
الجميع ينظرون اليه
خجلين من ان يبتسموا لأحذيتهم
الّتي اندعكت منذ لبسوها
ما زال الحذاء المثالي
سؤالهم الميتافيزيقي
مع أسئلة أخرى عن اشياء السقف
وعن المصابيح
أتنفّس الوقت وأزفره
بدون أن انتبه
الى انّ في أصابعي
وفمي
واذنيّ
القدرة ذاتها
على تبديده في الهواء
ثمّة حطام يتحوّل طحينا
وطحين يغدو هباء
ثمّة نسيان يغيم فوق كلّ شيء
ايتّها السبعون تصلين وحدك
ليس خلفك عربات ولا أحمال
لا يحتاج النسيان الى حقائب
إنّه يسأل فقط عن الحلاّق
ومزيل الرائحة
لا يأبه لكل الشعر الّذي يتساقط
ولا لسلسلة المفاتيح الّتي تخرج من حلقه
ولا حتّى لتلك الرائحة المتخيّلة
الّتي يفترض أنّها تنسم فيه
اكبر الحروب تخمد بلا آهة
فقط صفحة بيضاء
نملؤها بضجيجنا الداخليّ
وخوفنا
لم أستطع ان أؤخّر الأعوام
ألوم نفسي لأنّي لم أحاول
لم أقدر على تجنّب الوقت
لا بدّ أنّ هناك طريقة ما
حتّى اللاشيء يمكن حفظه وتخزينه
حتّى السراب تمكن تعبئته
وبيعه في قنانٍ
حتّى النسيان يمكن تحويله الى طاقة
لا بدّ أنّ هناك طريقة ما
لم تكتشف بعد
سنقدر بمزيل الرّائحة
أن نمتصّ الزمن
سنقدر بساعة بسيطة
أن نغيّر الوقت
السبعون
يمكن أن ادّعي أنّي لست حيّاً ولا موجودا
قد أجبرهم تماما
فيضطرون الى إهمالي
ونسياني وسط الحياة
لا مكان، لا أحد
أحمل سقفاً معي
أجرّه من سماء الى سماء
إنّها بلاد ككلّ البلاد
مع ذلك لا أجد حصيرا
أرقد فوقه
ولا حجرا
اريح رأسي عليه
أسند رأسي الى الفضاء
ومع بداية الغروب
يبدأ ألم صامت
في مشاغلتها
فقرات ظهري
تستمرّ في اللمعان
وكذلك مفاصلي وأسناني
اضيف اليها بضع كلمات
وأنصب منها خيمة في الجوّ
هكذا نستعمر السماء بألمنا
بينما لا نجد كوخاً على الأرض
ارفع السقف فوق كلمة
فتستحيل بلدة
أنقله من كلمة نزوح الى منفى الى شتات
فأجدها جميعاً ماطرة
ألعب غالباً بالرعد والبرق
أفصّل منهما جببا
لكن الأكيد انّ رحّالة سبقوني
ذبحوا الرعد و جوّفوه
ذبحوا البرق وجعلوه يلمع في المفاصل والأسنان
انّها ثريّات معلّقة
اصنع منها غرفا
اقف فيها مع كثير من البرد والعطش
كثير من الفقر
اسقفها بكلمتين: لا ممرّ، لا مكان
ومع كلمة «لا امل»
ابني خيمة من عظامي الكبيرة
ازوّدها بمكتبة
مليئة الرفوف باللاكتب
انّها قرية ابتكرها اللاأحد
من لا أشجار ولا بيوت
لكن أيضا
من معاناة فظيعة وهروب كبير
من صفر يبتلع الجموع
من معارك تستمرّ صامتة عمياء
من لا امكنة ولا طرقات
حيث تحرق المساجد
وتعلّق النساء من فروع الشجر
وتنتزع الحناجر بالملاعق
ويصيح النهب في البيوت والأسواق
ذئاب كبيرة آتية من الخلف
عادت تحبو كجراء وديعة
دم أسود
لم يملأ الصفحة
أوراق مجموعة من التاريخ
لا نجد نسختها الآن
البرابرة غادروا قبل ان يتموا محصولهم
من الرؤوس
جماجم كثيرة ليست حقيقية
لا تجد من يجمعها
أو يقدمها «عشاء للرؤوس»
العاصفة تقتلع السقف
وثمّة محاربون لا مرئيون في العمق
شواهق تتدمّر بأيد خفيّة
وكلّ ما يمكن رؤيته
طوابع بريد تتراشق
وأحياناً نرى
نسخة طازجة بحبر طريّ
المؤكّد انّه من دموع الأطفال
أحمل سقفاً معي
وليست معي عاصفة ملائمة
لذا أجد نفسي خارج الخيمة
في السماء التي هي ميدان
وهي ايضاً مقبرة
ويمكن ان تكون صندوق بريد
السقف المشرّد معي
يريد كلبا حارسا
ويريد ان ينزل بسلام
على مرحاض في حديقة
لكن هذه الأحلام الرعويّة
ليست بدون ثمن
وثمن باهظ
كلّما ضؤل الحلم
احتاج الى معدّل اكبر من الدّم
الدفع بالجثث
تنخفض قيمته باستمرار
الدفع بالأثاث القديم
قد يكون أعلى
مع ذلك فإنّ النجاة بسقف
يبقى مكسبا
وإن كان غير منظور
حرب اللامرئيين تدور من سنين
وتغدو أكثر في لا مكان
ونحن نهرب منها
نغدو خفيين
ولا نحتاج ألى ان نظهر في الظلام
اللاأحد وحده يظهر عن الجميع
اللاأحد هو الكتاب
«اللا» المتألّهة هي المجهول
والسقف الذي يسقط على الجميع.
السفير