مراجعات كتب

“قصة الفن” .. من رسومات الكهوف الى بابلو بيكاسو/ جمال شحيّد

 

 

أصدرت هيئة البحرين للثقافة والآثار ترجمة “قصة الفن” (2016)، للباحث البريطاني إرنست غومبرتش (E. Gombrich)، بترجمة عارف حديفة ومراجعة زينات بيطار، وضمن سلسلة “مشروع نقل المعارف” الذي يشرف عليه الطاهر لبيب، وتضم 50 كتاباً صدر منها حتى الآن 13 كتاباً. وكتاب “قصة الفن” (ويقع بـ700 صفحة) الذي تجاوز عدد نسخه سبعة ملايين نسخة وبترجمات عالمية مختلفة، صدر للمرة الأولى عام 1950، وأضيفت إليه معلومات جديدة عديدة ووصلت طبعاته حتى عام 1994 إلى 16 طبعة؛ والترجمة العربية اعتمدت طبعة 1994، وهي الأخيرة التي أشرف عليها مؤلفها.

وُلد غومبرتش في فيننا (1909 – 2001)، ودرس تاريخ الفن في جامعتها، ثم انتقل إلى لندن عام 1936 حيث عمل كباحث في معهد واربورغ ثم كمدير له. وانتقل إلى جامعة لندن عام 1959 كأستاذ لتاريخ التراث الكلاسيكي، وبقي فيها حتى سن التقاعد (1976). وألف غومبرتش عدة دراسات تتعلق بفنون عصر النهضة، منها “معنى النظام” (1979)، و”الصورة والعين” (1982)، وكلاهما يدرسان سيكولوجية التصوّر حسبما طرحها أرسطو وآخرون، وفيه ربط بين الدهشة والمعرفة وقال: “من كفّ عن الدهشة، كفّ عن المعرفة”. ويبقى كتاب “قصة الفن” منذ أكثر من ربع قرن المرجع الأساسي للاطلاع على تاريخ الفن في كبرى حضارات العالم.

كتاب للقراء وليس للمتخصصين

ينوّه غومبرتش بأن الكتاب ليس للدهاقين النخبويين في تاريخ الفن، بل للذين يرومون اطلاعاً رصيناً على هذا التاريخ وسماته ومزاياه. لذا استخدم “لغة سهلة وبسيطة”، ولو بدت في ظاهرها غير احترافية. ولم يشأ أن يتحدث إلى قرائه “من فوق، ومن الغيوم”، كما قال. والطريقة التي استخدمها لتوصيل المعلومات الفنية قائمة على القواعد الثلاث التالية: 1) “لن أكتب عن أعمال لا أستطيع أن أعرض صورها في الكتاب، فأنا لا أريد أن يتحوّل النص إلى قوائم أسماء قد لا تعني إلا قليلاً”. 2) “أن أقتصر على أعمال الفن الحقيقية” التي لا تمتّ بصلة إلى الدُرْجة أو الموضة. 3) أن أختار الأعمال الأكثر تمثيلاً للحقبة الفنية التي أتكلّم عنها، والتي هي في نظر المؤلف أكثر فائدة.

وآثر غومبرتش أن يروي قصة الفن “بلغة بسيطة ستمكن القراء من رؤيتها وحدة متماسكة وتساعدهم على تذوق الفن”. وزيادة في الإيضاح، وضع المؤلف الأعمال الفنية التي اختارها في بيئتها التاريخية، مشيراً إلى أن كل جيل يتمرد على الجيل السابق، مع أنه يسترشد به ليناقضه أو ليختلف عنه. وذكر أن “العالم الغربي مدين لطموح الفنانين إلى أن يتجاوز بعضهم بعضاً. وهكذا تنشأ في الفن حركة جدلية لا تلغي الماضي ولا تنصاع له، بل تتجاوزه لفتح آفاق جديدة ورؤى عتيدة وتعبّر عن أمزجة مبتكرة.

ويتوقف الكاتب عند عدد من اختيارات الفنانين، انطلاقاً من دراسة الرواسم التي وضعوها قبل البدء برسم لوحاتهم. وكمثال على ذلك يتوقف عند لوحة “العذراء في المرج” (1505-1506) التي وضع لها رفائيل أربع ترسيمات؛ واختار في المحصلة واحدة من هذه الترسيمات. ويعلّق على ذلك قائلاً: “إنه لشيء ساحر أن نراقب الفنان وهو يجتهد هكذا كي ينجز التوازن الصحيح، ولكن لو سألناه لماذا فعل هذا أو غيّر ذاك لربما عجز عن الإجابة.  فهو لا يعمل وفق قواعد ثابتة، بل يتحسس طريقه لا غير. صحيح أن بعض الفنانين أو النقاد قد حاولوا في مراحل معينة أن يصوغوا قوانين للفن، ولكن تبيّن دائماً أن الفنانين استطاعوا أن يخرقوها وينجزوا مع ذلك نوعاً جديداً من التوافق لم يخطر على بال أحد من قبل” (ص 35).

اليقظة الفنية العظمى

وتبدأ قصة الفن، كما رواها غومبرتش، بفن البدائيين وشعوب ما قبل التاريخ. ويتوقف عند رسوم جدران الكهوف (كهف التاميرا في إسبانيا وكهف لاسكو في فرنسا)، وعند الأقنعة وصور الطواطم، لا سيما عند شعوب المايا والأزتيك. وينتقل بعد ذلك إلى فنون مصر الفرعونية وبلاد الرافدين وكريت. يتحدث عن مراقد الفراعنة الكبار التي أدهشت العالم بدقتها وألوانها وأشكالها، وعن الأوابد الرافدية السومرية والأكادية والأشورية [نصب الملك نارام سين المنحوت حوالي 2270 ق.م.]. ثم نصل إلى اليقظة الفنية العظمى التي عرفتها بلاد الإغريق ما بين القرنين السابع والخامس قبل الميلاد. ويتوقف المؤلف عند رسوم الأوعية الفخارية التي تصور مشاهد أسطورية أو تفاصيل عن الحياة اليومية عند الإغريق. ويرى أن “ثورة الفن الإغريقي الكبرى، أي اكتشاف الأشكال الطبيعية والخطوط المتقاصرة، قد حدثت في عصر هو بالإجمال أكثر عصور التاريخ الإنساني إدهاشاً… وهو العصر الذي شهد أول مرة صحوة العلم والفلسفة وتطور المسرح” الذي ارتبط بالاحتفالات التي كانت تقام تكريماً للإله ذيونيسوس. ويربط غومبرتش بين تطور الفن الإغريقي وبين الديمقراطية الأثينية في عهد بركليس خصوصاً، والتي أنجبت روائع الأوابد الإغريقية كالبارثينون وتماثيل فيدياس، لا سيما تمثال الإلهة أثينا وتمثال زيوس في أولمبيا، وتماثيل النحات الأثيني ميرون الذي نحت تمثال رامي القرص، والنحات براكسيتليس الذي أحدث ثورة فنية تجلت في تمثال أبولو بلفيدير وفينوس ميلو، وترك بصماته على عدد من التماثيل الشهيرة، لا سيما منها تمثال “لاووكون وولديه”.

وينقلنا الكاتب من ثم إلى الفن الروماني الذي ورث كثيراً من طرز الفن الإغريقي، التي تجلت خصوصاً في أقواس النصر المنتشرة في إيطاليا وفرنسا وشمال أفريقيا وأصقاع المشرق، وفي صرحي الكولوزيوم والبانثيون وعمود تراجان… وبعد تحوّل الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية، تأثر الفن المسيحي بالفنين الإغريقي والروماني، وزاد عليهما بعض سماته. وتجلى هذا الفن عند البيزنطيين بالإيقونات المرسومة أو الفسيفسائية.

النهضة الايطالية

ويعطي المؤلف فكرة سريعة ومقتضبة عن الفن الإسلامي والصيني، ويعود من ثم إلى العالم الغربي، وهو المجال الذي درسه أكثر من غيره. ويتوقف بخاصة عند الكاتدرائيات الكبرى والرسوم التي توضّح أحداث الإنجيل؛ ومن هذه الكاتدرائيات يخص بالذكر كاتدرائية دورهام وآخن وتورني وكنيسة القديس تروفيم في أرل (جنوب فرنسا)، وبخاصة كاتدرائية نوتردام في باريس والسانت شابيل فيها أيضاً؛ ويحلل بعض المنحوتات التي تزين مداخل الكنائس الكبرى.

وفي نهاية القرن الثالث عشر وبداية الرابع عشر، ننتقل إلى الرسم الإيطالي بخاصة، مع الفنان جيوتو، لا سيما الجداريات. ونتوقف ملياً عند عصر النهضة الإيطالية في بداية القرن الخامس عشر، مع الفلورنسي فيليبو برونلسيشي (1377 – 1446) والكابيلات التي بناها وزيّنها؛ وهو الفنان الذي ينسب إليه علم المنظور والأبعاد الثلاثة الذي هيمن عن فنون القرون التالية. ويحلل المؤلف عدداً من لوحات الفنان الفلامنكي يان فان أيك (1390؟ – 1441)، لا سيما لوحة المذبح المطوية في كاتدرائية القديس بافو. وهو الفنان الذي حسّن تقنية الرسم وابتكر تقنية التصوير الزيتي.

ويلاحظ المؤلف أن “الفن في مختلف أنحاء أوروبا تطور في اتجاهات متماثلة حتى عام 1400″، وبعده شرع الفنانون في البحث عن تأثيرات جديدة، ما أدى إلى قطيعة مع القرون الوسطى. وتفرّع الفن إلى مدارس، وكانت لكل مدينة كبرى مدرستها. وتميّزت فلورنسا بأسلوب الرسام الكبير فرا أنجيليكو (1387 – 1455)، وباولو أوتشيلو (1397 -1475)، وساندرو بوتتشللي (1446 – 1510) [بلوحته الشهيرة “ولادة فينوس” 1485].

أما العصر الذهبي لفن عصر النهضة فهو عصر توسكانا وروما الذي تألق فيه ليوناردو دافنشي وميكيل أنجلو ورفائيل وتيسيان وكوريجيو. ويتساءل المؤلف: لماذا ولد هؤلاء الرسامون العظماء في زمن واحد؟ ويرى أن رعاة الفن كانوا يتوقون إلى الشهرة، فتهافتوا على الفنانين الكبار، لتخليد أسمائهم. واتسم هذا العصر بالروائع: كنيسة القديس بطرس، الأعمال المذهلة التي قدمها دافنشي وميكيل أنجلو. ويقول المؤلف عن ليوناردو: “كان عبقرية ستبقى قدراتها العقلية الجبارة موضوع عجب الناس العاديين”.

القبة الهائلة

واللافت أن مواهبه المتعددة جعلت بعض معاصريه يطلق عليه لقب الساحر المدهش. ومن أعمال النضج عند ليوناردو، لا بد من ذكر “العشاء السري (1495 – 1498)، في دير سانتا ماريا دل غراتشى (ميلانو)، ولوحته “موناليزا” (1502) التي يحللها غومبرتش بأستاذية لافتة.

والفلورنسي الثاني الذي كان يصغر ليوناردو بـ23 عاماً، هو ميكيل أنجلو (1475 -1564)، الذي تأسس في مرسم الفنان دومينيكو غيرلندايو وتعلم منه جميع المهارات الخاصة بالرسم، ولا سيما الجداريات، كما تعلم طريقة المسودات. ومن أهم جدارياته لا بد من ذكر رسوم السكستينا التي أمضى الفنان أربع سنوات في إنجازها وحده، بعد أن أغلق باب الكنيسة عليه. رسوم السكستينا الدينية نابعة من رؤية دينية مبتكرة لميكيل أنجلو. وأكبّ الفنان في عام 1512 على مقالع الرخام في كارارا ليختار القطع المناسبة لأعماله النحتية التي أدهشت العالم (موسى، دافيد، البييتا، هرقل، باخوس، عذراء مدينة بروج، القديس بولس، القديس بطرس، العبد المتمرد، العبد المحتضر، راحيل…)، وفي شيخوخته أنجز ميكيل أنجلو القبّة الهائلة، التي تتوّج كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان.

وينقلنا المؤلف إلى مدينة البندقية التي كانت لها علاقات تجارية قوية مع السلطنة العثمانية والشرق؛ وتميَّزَ فيها الرسام تيسيان (1485 – 1576) بعدد من اللوحات، مثل “فينوس أوربينو” و”فينوس وأدونيس” و”باخوس وأريان” و”موت أكتيون”… والبورتريهات مثل بورتريه “شارل الخامس” و”الأريوست” و”الإنكليزي الشاب” و”البابا بولس الثالث”.

صحيح أن الفن الإيطالي قد أحدث تأثيراً كبيراً في باقي الأقطار الأوروبية، ولكن فناني هذه الأقطار قد ابتكروا أساليبهم. ومنهم الرسام اليوناني الإسباني الغريكو الذي أمضى شطراً كبيراً من حياته في طليطلة وتميّز بلوحة “فتح الختم الخامس” المستوحاة من رؤيا القديس يوحنا. وبرز في بلدان الشمال أعظم الرسامين الفلمنكيين وهو بيتر بروغل (1525 – 1569)، الذي رسم حياة الفلاحين والطبقات الاجتماعية الدنيا [راجع لوحة “العرس القروي (1568) و”الصيادون في الثلج” (1565) و”برج بابل” (1563)].

الكنسية والملوك

ويتوقف الكاتب سريعاً عند بعض فناني القرن السابع عشر: كارافاجيو (1571 – 1610)، في لوحة “توما المرتاب” (1602 – 1603)، ونيكولا بوسان (1594 – 1665)، لا سيما في لوحته “أنا موجود حتى في أركاديا” (1638 – 1639)، وبيتر بول روبنز (1577 – 1640)، وبخاصة في لوحته “نِعَم السلام” (1629 – 1630) وتلميذه أنطوني فان دايك (1599 – 1641) [انظر لوحة “شارل الأول ملك انكلترا” 1635] والإسباني دييغو فيلاسكيز (1599 – 1660)، الذي رسم بورتريه “البابا إينوسنت العاشر” (1649 – 1650)، و”وصيفات الشرف” (1656). وينقلنا الكاتب من ثم إلى الفنانين الهولنديين إبان القرن السابع عشر، وأشهرهم رامبرانت فان راين (1606 – 1669)؛ ومن أشهر لوحاته صورة ذاتية (1655 – 1658)، لم يخف فيها الفنان بشاعته ورسم نفسه بصدق وواقعية؛ وأيضاً لوحة “المصالحة بين داود وأبشالوم” (1642).

وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر أدركت الكنيسة الكاثوليكية وملوك أوروبا وأمراؤها قدرة الفن على التأثير في الناس/ الرعايا. وتمثّل ذلك في قصر فرساي الذي صممه لويس لو فو وجول هاردوان – مانسار، وقصر يوجين في فيينا؛ وفي كاتدرائية القديس بولس في لندن؛ وتأثرت هذه الأعمال بالفن الباروكي. وأعطت الثورة الفرنسية دفعاً كبيراً لإقبال الفن الحديث على الحدث التاريخي، لا سيما مع الفنان جاك لويس دافيد (1748 – 1825)، الذي واكب بلوحاته أحداث الثورة الفرنسية في لوحة “اغتيال مارا” (1793)، و”قَسَم الإخلاص للثورة” (1789)، و”بونابرت ممتطياً جواده” (1801)، و”تتويج نابوليون” (1808). وبرز في إسبانيا الرسام المجدِّد فرنشيسكو غويا (1746 – 1828)، الذي اقتبس من الغريكو، لا سيما في بورتريه “فرديناند السابع” (1814) و”العملاق” (1818).

باريس بدلا من فلورنسا

وفي القرن التاسع عشر، أصبحت باريس عاصمة أوروبا الفنية على غرار ما كانت عليه فلورنسا إبان القرن الخامس عشر. وبرز كل من جان أوغست دومنيك أنغر (1780 -1867) [لا سيما في لوحة “مستحمة فالبنسون”، 1808]، وأوجين دولاكروا الذي ضاق ذرعاً بالحديث عن الإغريق والرومان والكلاسيكيين، وكان يعتقد بأن اللون في الرسم أهم من التخطيط، وأن الخيال أهم من المعرفة. وذهب إلى أفريقيا الشمالية ليدرس الألوان المتوهجة وحركة الخيول الجامحة. هذا دون أن ننسى نشأة المدرسة الانطباعية في قرية باربيزون الفرنسية، بعيد ثورة 1848، وظهور جان فرانسوا مييه (1814 – 1875)، الذي رسم لقطات من حياة الفلاحين، لا سيما لوحة “اللاقطات” الشهيرة (1857)، وغوستاف كوربيه الذي ساهم في تأسيس المدرسة الواقعية [انظر لوحته “طاب يومك يا سيد كوربيه” (1854)]. وبعد ثورتي دولاكروا وكوربييه، ينقلنا الكاتب إلى الثورة الثالثة التي مثّلها إدوار مانيه (1822 – 1883) وأصدقاؤه [انظر لوحة “مونيه يعمل في زورقه”، 1874]، لا سيما منهم بيير أوغست رينوار (1841 – 1919) [لوحة “رقص في مولان دو لا غاليت”، 1876]، وكاميّ بيسارو [لوحة “جادة الإيطاليين صباحاً”، 1897]، وادغار ديغا (1834 – 1917)، ولوحات رقص الباليه، والنحات أوغوست رودان (1840 -1917)، الذي كان يزدري “اللمسة الأخيرة” ليترك المجال لخيال المشاهد [تمثال “يد الله” 1883، و”المفكِّر” 1902، و”القبلة” 1889، و”بالزاك” 1897، و”يوحنا المعمدان” 1880…].

ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، بدأ البحث عن معايير فنية جديدة، مع بول سيزان (1839 -1906)، الذي انسحب من تجمّع الانطباعيين واختص بلوحات تمثّل طبيعة البروفانس في جنوب فرنسا ولوحات الطبيعة الصامتة، ومع جورج سورا (1859 – 1891) ولوحاته التنقيطية، ومع الهولندي فانسان فان غوغ (1853 – 1890)، الذي استقر في مدينة آرل (جنوب فرنسا) واشتهر بلوحات عبّاد الشمس والذرة و”الكرسي الفارغ” وانتحر في السابعة والثلاثين ورسم لوحاته كلها خلال ثلاث سنوات. أراد فان غوغ أن تعبّر لوحاته عن مشاعره، واستخدم تحريف الأشكال عندما ساعده ذلك لتحقيق هدفه” (ص 548). وينهي المؤلف هذه المرحلة الخصبة من قصة الفن بتجربة بول غوغان (1848 – 1903)، الذي سئم الثورة الصناعية وحضارتها، وملّ من مشاحنات الفنانين، ففرّ إلى تاهيتي بحثاً عن الحياة البسيطة التي قتلتها الثورة الصناعية وتوقاً إلى الصفاء والنقاء.

زمن بيكاسو

وفي النصف الأول من القرن العشرين، وعلى الرغم من نشوب حربين عالميتين فيه، انحاز الفنانون إلى التجريب، مستلهمين الصور اليابانية المطبوعة والنحت الزنجي. فربط بعضهم الرسم بالموسيقى، كما فعل فاسيلي كاندنسكي (1866 – 1944)، أو بألوان السجاجيد الشرقية كما فعل هنري ماتيس (1869 – 1954). وصار التجريب هو الشغل الشاغل لفنان عملاق هو بابلو بيكاسو (1881 – 1973)، الذي تناءى عن المعايير الكلاسيكية في الفن، وقال في هذا الصدد: “لقد تخلينا منذ وقت طويل عن الادعاء بأننا نمثّل الأشياء كما تظهر للعين، فذلك كان سراباً لا جدوى من متابعته. نحن لا نريد أن نثبّت على القماشة انطباع اللحظة السريعة الزوال… هدفنا التركيب وليس النسخ. فإذا فكرّنا في شيء كالكمان، مثلاً، فإنه لا يبدو للعقل كما قد نراه رأي العين. نحن نستطيع في الوقت ذاته أن نفكّر في وجوهه المتنوعة، وهذا ما نقوم به في الفعل” (ص 575). وصار الشكل هو مربط الفرس في الفن الحديث. وهذا ما ركّز عليه الرسام والموسيقي السويسري بول كلي (1879 – 1940)، ولم يقصد بالشكل ما تراه العين المجردة، بل ما تحلم وتهجس به؛ كذا صار التلاعب بالأشكال مفتاح الفن الحديث. وحذا حذوه في هذا المفهوم الفنان الإنكليزي بن نيكولسون (1894 -1982)، والنحات البريطاني هنري مور (1898 – 1986)، والفنان الروسي مارك شاغال (1887 – 1985). واستغل هذه المقولة عدد من الفنانين السورياليين وبخاصة النحات الإيطالي السويسري ألبيرتو جياكوميتي (1901 – 1966)، والرسام الإسباني الشهير سلفادور دالي (1904 – 1989).

وينهي غومبرتش رواية قصة الفن “على أنها قصة التشكيل والتغيير المتواصلين للتقاليد التي يرجع فيها كل عمل إلى الماضي، ويشير إلى المستقبل… وأن سلسلة التراث الحية ما زالت تربط الفن في أيامنا بالفن في زمن الأهرامات” (ص 595). ولا شك أن الفن الحديث قد تأثر بشتى العلوم الإنسانية المعاصرة، ولا سيما الأدب والموسيقى. وأعارت الدول المتقدمة، في برامجها الدراسية، اهتماماً خاصاً بقصة الفن في جو من الحرية حتى يتم إعداد التلاميذ لإدراك المعايير الفنية.

صحيح أن كتاب “قصة الفن” لم يكتب للأخصائيين، وإنما للقراء المستنيرين، ولكنه على كثافة المعلومات التي قدّمها – لا بالكلمات فقط، بل بصور الأعمال الفنية خصوصاً – أتاح رؤية شمولية ومعمّقة في آن لتطور الفن عبر العصور. فأتى عمله أشبه بلوحة بدأت برسوم الكهوف في عصر ما قبل التاريخ ومرّت بمصر وبلاد الرافدين واليونان وروما وصولاً إلى القرون الوسطى وعصر النهضة وانتهاء بالقرون الأربعة التي أعقبتها.

 

لقد قدّمت هيئة البحرين للثقافة والآثار كنزاً نفيساً للقارئ العربي، بترجمة متقنة ودقيقة وأنيقة للمترجم السوري عارف حديفة وبإخراج فني عالي الجودة، وبدقة طباعية وإخراجية لافتة قلما نجد لها مثيلاً في النشر العربي.

ضفة  ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى