قصة حلا: من حكايات الإتجار بالبشر على هامش الحرب السورية/ صادق عبد الرحمن
بدأ الأمر هكذا، اتصلَت صديقةٌ تقول إنها التقت بفتاة سوريّة كان قد تمَّ بَيعُها، وإن هذه الفتاة التي تجاوزَ عمرها 18 عاماً منذ فترة قريبة، تحلمُ أن يكتب أحدهم قصتها وينشرها. كان ينبغي اتخاذُ القرار سريعاً، فاللقاء عابرٌ والفتاة ليس لديها هاتفٌ أو أي وسيلة تواصل أخرى، ولذلك كان الاتفاق أن نلتقي بها في العاشرة صباحاً بعد أربعة أيام، في مكان مُتفق عليه في واحدة من مدن جنوب تركيا القريبة من الحدود السورية. كان الاتفاق أننا سنذهب إلى هناك كي نستمع إلى حكايتها، وأنها ستأتي إن استطاعت في الموعد المحدد.
هناك سؤالٌ يلّحُّ عليَّ دائماً عند كتابة حكايات الآخرين: كيف يمكنني أن أعيد كتابة قصة شخصٍ آخر دون أن أمارس سلطة الكاتب على حكايته، دون أن أستخدم كلماتي بدل كلماته، ودون أن أفرضَ رؤاي على رؤاه؟ وفي حكايات تتضمن مسائل بالغة الخطورة كهذه، يستولي عليَّ هاجسٌ آخر أيضاً: كيف أكتب الحكاية دون أن يتسبب نشرها بأي ضررٍ لصاحبها أو عائلته أو أحبائه؟
كانت الصبيّة، التي اخترنا بالاتفاق معها أن نسميّها في هذا النص «حلا»، قد سَبَقَتنا إلى المكان، ومنذ الدقائق الأولى بدا أن الإجابة على السؤالين أعلاه ستكون أكثر تعقيداً من المعتاد. ذلك لأن حلا كانت تُريد أن تتم كتابة حكايتها بكل تفاصيلها حتى الصغيرة منها، دون أن يكون هناك احتمالٌ مهما صَغُر أن يعرف أحدٌ في الدنيا غيرنا أنها صاحبة الحكاية. وأيضاً لأن حلا تسمّي ما بدأ في سوريا عام 2011، الذي أسميّه أنا ثورة، «غلط الإنسان».
هو «غلط الإنسان» إذن عندما تروي حلا حكايتها:
«ولدتُ في أحد أحياء مدينة الحسكة عام 1999، كنتُ الصغرى بين إخوةٍ وأخواتٍ كثيرين، ولا أعرف متى توفي أبي على وجه التحديد، لكنني لا أتذكره. انتقلنا بعد ولادتي بعدة سنوات إلى إحدى بلدات ريف دمشق، كان إخوتي يعملون أُجرَاء في مصانع وورشٍ صغيرة، وأنا عملتُ بعد أن كبرتُ قليلاً في جمع البلاستيك وتنظيف البيوت. لم ننقطع عن الحسكة، وكُنّا دائمي التنقل بينها وبين ريف دمشق، وبسبب ظروف العمل والتنقل لم أستطع دخول المدرسة مطلقاً. كنتُ أريدُ أن أتعلّم، لكن هذا كان مستحيلاً.
عندما بدأ غلطُ الإنسان في سوريا عام 2011، انقسمت العائلة إلى قسمين، بقي بعض إخوتي يعملون في ريف دمشق، وأنا كنتُ من العائدين بشكل نهائي إلى الحسكة، ولم أذهب بعدها إلى ريف دمشق. تم استدعاء أحد إخوتي إلى الخدمة العسكرية عام 2011، وتم فرزه بعد دورة الإعداد العسكري إلى مدينة بعيدة.
في تلك الفترة بدأ الشبان العاطلون عن العمل في حيّنا في الحسكة بالخروج في مظاهرات، وعندما دخل حفظ النظام، جاءوا بالسلاح وبدأوا بإطلاق النار، ثم تحوّل الأمر إلى حرب. أصبح حيّنا تحت سيطرة الجيش الحر، وبعدها أُصيب أخي بانفجار وقع في مكان خدمته. أصبح لديه إصابةٌ صعبةٌ في رجليه، لكن لم يتم تسريحه، بل تم نقله إلى خدمة مريحة في مكان قريب من الحسكة بعد تدخلٍ من أمي لم أعرف كيف قامت به.
كان وضعنا المادي صعباً، كان أحد إخوتي يعمل فقط، وعملتُ أنا فترةً في تنظيف بيت رجل كان يعمل مع الأطراف كلها، مع النظام والجيش الحر والمسلحين الأكراد، لا أعرف كيف».
لا تحملُ حلا في ذاكرتها ملامح واضحة عن أحداث 2011 و2012، كان عمرها وقتها 13 عاماً، لكن ما استحضرَته من ذاكرتها أن الشباب العاطلين عن العمل، الذين كان بعضهم يتعاطى المخدرات كما قالت، هم السبب في هذه الحرب، رغم تأكيدها عدة مرات أنها ليست في صفِّ أيٍّ من الطرفين. يبدو واضحاً أن حلا ناقمةٌ على أولئك الذين تمردوا على النظام، فهي ترى أن حياتها ما كانت لتتحطم لولا ما قاموا به:
«في هذه الأزمة التي دخلنا فيها بسبب غلط الإنسان، أصبح كثيرٌ من الأهالي يريدون الخلاص من بناتهم، وأصبحت البنات تُباع وتشترى. كثيراتٌ كُنَّ يأتينَ إلى الحسكة من دير الزور وحلب وغيرها، وكان يتم بيعهنّ، ذلك بالإضافة إلى بنات من الحسكة وريفها. لم يكن أحدٌ يسمّي هذا بيعاً، بل كان الجميع يسمّونه زواجاً. كان الناس يقومون بتزويج بناتهم إلى تركيا عبر وسطاء يسمونهم سعاة خير أو وسطاء خير، ويحصلون في مقابل ذلك على مبلغ من المال يسمّونه مهراً، يخففون به عن أنفسهم أعباء الفقر. كان الأمر سهلاً لأن الحدود أصبحت مفتوحةً للتنقل بين سوريا وتركيا دون أوراق نظامية عبر خطوط التهريب، أو ضمن مجموعات اللاجئين التي تعبر الحدود.
في أحد أيام 2013، جاء إلينا رجلٌ قال إنه واسطة خير، وقال إنه يعرف أن في بيتنا بنتاً للزواج. لا أعرفُ اسمه، لكني عرفتُ أنه من الحسكة. قال إنه سيزوجني لشاب ممتاز في تركيا، وسيدفع لعائلتي مبلغ 250 ألف ليرة سورية. كان وضع عائلتي بالغ السوء، وأخي الذي ينفق علينا جميعاً لديه أولاد صغار، وراتبه بالكاد يكفي ثمن الخبز، وأخي الآخر المصاب يحتاج إلى جلسات علاج فيزيائي مكلفة.
ما شجّعني أن الرجل، واسطة الخير، قال إنني سوف أتخلص من فقري، وإن الشخص الذي سيتزوجني لن يجبرني على شيء، وسيرسلني إلى المدرسة، المدرسة التي لم أدخلها يوماً في حياتي، وكنتُ أحلمُ دائماً بدخولها. كانت بنتٌ من أقربائنا قد تزوجت إلى تركيا بهذه الطريقة قبلي وساعدَت عائلتها، وهذا أيضاً شجعني على القبول. كنتُ أريدُ مساعدة أسرتي وتخفيف فقرها.
ذهبتُ إلى تركيا مع واسطة الخير، وذهبَ معنا أحد إخوتي وسيدة من أقربائنا، كانت مهمتهما استلام المبلغ المالي، الـمهر، والتعرّف إلى الرجل الذي سيتزوجني. عبرنا الحدود بسهولة من القامشلي إلى نصيبين، ثم إلى مدينة تركية أخرى.
وصلنا هناك إلى بيت شخص سوري آخر، عرفتُ أنه من القامشلي، وفي صالون البيت كان هناك عدد كبير من الرجال المسنين. استغربتُ وجودهم في البداية، ولكن بعد قليل فهمتُ كل شيء. طلبوا مني أن أمشي أمام الرجال المسنين، ثم قام أحدهم، وكان عجوزاً تركياً، وطلبَ مني أن أتحرَّكَ جيئةً وذهاباً عدة مرات، ثم طلبَ أن آكل أمامه، وبعدها قال إنه يريد أن يتزوجني.
شعرتُ في تلك اللحظة أنني حيوانة، وأنه سيتم بيعي كما يباع الغنم، فبدأتُ البكاء، ورفضتُ الزواج، لكن العجوز قال إنه مستعدٌّ أن يدفع المبلغ الذي نريده. قلتُ لأخي إنني أفضّلُ الموت على الزواج من هذا الرجل، فقال إنه لن يجبرني على شيء، ثم قررنا العودة إلى سوريا.
الآن بات واضحاً بالنسبة لي أن فاعلي الخير هؤلاء ليسوا إلا تجار بشر. غضبَ التاجر الذي جاء بنا من سوريا جداً، وقال إن علينا أن ندفع له كلفة السفر، وفعلاً تم تأمين المبلغ عن طريق إحدى قريباتنا في تركيا، وبعد يومين عدنا إلى الحسكة».
رَفَضَت حلا ذاك الزواج المهين بشجاعة، وساندها أخوها في رفضها. بدا واضحاً من نبرة صوتها كم أنها فخورةٌ اليوم بما فعلته آنذاك، لكن يبدو أن المحيطين بها في الحسكة قد عاقبوها على ما فعلته بعد عودتها، حتى أن دفاعها عن كرامتها ورفضها لذلك الزواج الذي رأت فيه بيعاً، انقلبَ إلى خطيئة لم تستطع تبريرها والدفاع عنها في ذلك الوقت:
«بعد عودتي، بدأ الناس يتحدثون عني وينالون من سمعتي. قالت إحدى قريباتي إن أخي يدق أبواب الناس كي يتزوجوني، لكن لا أحد يريدني. لم تصدق أنني أنا التي رفضتُ الزواج. ثم بدأت الأحاديث تكثر في أوساط العائلة، ومعظمها أحاديث كاذبة ومتناقضة، كانوا يقولون إنني كنتُ أستطيع مساعدة أهلي لكنني لم أفعل.
في البداية لم تلُمني أمي، لكنها بعد فترة بدأت تلومني، وتقول لي: ألا ترين حالة إخوتك والفقر الذي يعيشونه؟
بدأتُ ألومُ نفسي وأشعرُ بالذنب، مرضتُ حتى لم أعد أقوى على المشي، وحاولتُ قتل نفسي أكثر من مرة. بعدها ببضعة أشهر، جاء تاجرٌ آخر إلى إحدى نساء عائلتنا، وقال إنه سمع بقصتي وإن لديه عريساً جديداً لي في تركيا.
عندما جاء إلى بيتنا، قال إن الأمر هذه المرة سيكون مختلفاً، وإن هناك عائلة محترمة فيها رجلٌ يريد الزواج مني. وهكذا وافقتُ على الذهاب مجدداً إلى تركيا، كنتُ أريدُ الخلاص، والاستراحة من تأنيب الضمير. لم يكن أحدٌ من إخوتي أو أخواتي أو أمي قادراً على الذهاب معي هذه المرة، ولذلك أرسلوا معي إحدى قريباتنا، وأوصتها أمي أن تطمئن عليّ ولا تفارقني حتى ترى العريس وعائلته وتحضر كتب الكتاب بنفسها».
ما بدا ملفتاً بالنسبة لي، هو ذلك الالتباس الذي كرَّرَت حلا الحديث عنه بين الزواج والبيع، إذ بينما كان واضحاً بالنسبة للطفلة ابنة الأربعة عشر عاماً أن ما يحصل هو عملية بيع وشراء، يصرُّ الذين يوافقون عليه أنه زواج، ويحاولون أن يفعلوا ما يخفف عنهم تأنيب الضمير، من خلال القيام بما يجعله أقرب إلى الزواج الحقيقي قدر الإمكان:
«في أوائل عام 2014، وكان الطقس بارداً وماطراً، توجهنا هذه المرة إلى الدرباسية للعبور منها إلى تركيا. كانت الأوضاع على الحدود قد تغيرت، وكانت الدرباسية تحت سيطرة المسلحين الأكراد. ذهبنا إلى بيت مهرب في الدرباسية، تناولنا الطعام، ثم توجهنا لعبور الحدود. وفي الطريق أوقفنا حاجزٌ للمسلحين الأكراد، وشاهدوا هويات البالغين، ودفتر العائلة الذي كان معي، لأنني لم أكن قد حصلت على هوية شخصية بعد. قلنا لهم إننا ذاهبون للعمل في تركيا، فسمحوا لنا بالمرور. وقفنا عند الحدود، وعندما انطفأت أضواء الجيش التركي في الجهة المقابلة، بدأت عملية العبور.
كانت الأرض موحلة والسماء تمطر، كنا مجموعة كبيرة، معنا شبان هاربون إلى تركيا، وفتاتان من عمري نفسه، جاء بهما تاجران آخران كي يتم تزويجهما مثلي في تركيا، إحداهما من محافظة دير الزور والأخرى من ريف الحسكة، وكان المهرّب قد قال لي إنه في المرة السابقة كان هناك عشر بنات، وليس ثلاثة فقط.
سقطتُ على الأرض عدة مرات، خلعتُ شحاطتي وجوربي وربطتُ عباءتي على بطني كي يصير الركض أسهل، وتمزقت أطراف ملابسي وأصبتُ بجروح في قدمي من الأسلاك الشائكة. عبرنا سكة القطار القديمة الفاصلة بين البلدين، وعندها بدأ الصراخ ونباح الكلاب وإطلاق الرصاص. أُصيبَ عددٌ من الشبان، وجاء عناصر الجيش التركي وأمسكونا.
خفتُ كثيراً وبدأتُ البكاء، فحاولَ الجنود الأتراك تهدئتي. كنتُ حافيةً فداسَ أحدهم على السلك الشائك ورفعني من فوقه، ثم أحضروا لنا المحارم والمياه. كانت معاملتهم اللطيفة مُفاجئةً بالنسبة لي، لأنهم كانوا قد قالوا لنا إن الجنود الأتراك سيئون، وأنه ينبغي ألّا نقول لهم شيئاً لأنهم يمكن أن يقتلونا أو يغتصبونا.
وضعونا في غرفة كبيرة كان فيها سوريون كُثُر، كانوا قد عبروا الحدود من نقاط أخرى. صورونا وأخذوا بصماتنا وأحضروا لنا طعاماً وشراباً وبطانيات، وأخذوا أوراقنا، الهويات ودفاتر العائلة، وفي اليوم التالي نقلونا إلى بلدية مدينة تركية مقابلة للدرباسية لا أعرفُ اسمها، وهناك تم تصويرنا وتبصيمنا على أوراق، وتم التحقيق معنا.
قلنا في التحقيق إننا هاربون من الحرب، وقادمون للعمل في تركيا، ولو كنتُ أعرفُ أنهم سيساعدونني لقلتُ لهم كل شيء، لكن التجار والمهرّب قالوا لنا إن الأتراك سيئون جداً. جاء صحافيون أيضاً، وصورونا، وتحدثوا مع السوريين الأكراد فقط، أما نحن فلم يتحدثوا معنا لأنهم لا يجيدون العربية.
أعادوا لنا أوراقنا الشخصية، ثم خرجنا، وجاءت سيارة أخذتني أنا وقريبتي والتاجر، والبنتين ومن معهما أيضاً، وذهبنا إلى بيت التاجر الكبير، أو الرأس الكبيرة، في مدينة مديات التركية.
كان رجلاً سورياً من الدرباسية، اسمه أبو صلاح، وهو يعيش في بيت كبير مع عدد من أولاده وزوجاتهم، كان قصيراً وسميناً وأصلعاً، وتبدو عليه علائم الثروة والراحة، لا يمكن أن أنسى وجهه في حياتي. لم تكن زوجته موجودة، وعندما سألناه عنها قال إنه يتزوج ويطلّق كثيراً. كان واضحاً أن جميع التجار الصغار الذين يجيئون بالبنات من سوريا يعملون معه ولحسابه، وأنه رجل شريرٌ وخطيرٌ جداً.
تناولنا الطعام، وفي الساعة السادسة جاء الرجل الذي سيتزوجني. عندما رأيته أصبتُ بالخوف، كان عجوزاً جداً. رفضتُ الزواج منه في البداية، لكن أبا صلاح أدخلني إلى غرفة أخرى، وقال لي إنني إذا رفضت، يجب أن أقرأ الفاتحة على أرواح أفراد عائلتي في سوريا».
لم تصف حلا لنا الرجل العجوز، وبدا عليها التوتر الشديد عندما طلبتُ منها أن تصفه، بدت ملامح وجهها كما لو أن أحداً يضغط بيده على جرحها. كذلك لم تعرف حلا مصير البنتين اللتين عبرتا الحدود معها، لأنها ذهبت من بيت التاجر قبلهما:
«قالت قريبتي إنها تريد الذهاب معنا كي تطمئن عليَّ وتَحضُرَ كتب الكتاب، لكن العجوز والتاجر قالا إن هذا غير ممكن، وأعطاها العجوز مبلغاً إضافياً من المال كي تتخلى عن فكرة مرافقتنا. ذَهبَت قريبتي بعد أن أخذت المهر المتفق عليه، والمبلغ الإضافي الخاص بها. عرفتُ لاحقاً من العجوز أنه دفع للحصول عليّ 10 آلاف ليرة تركية، لقد كانت حصة التجار كبيرة.
وضعوني في سيارة العجوز، ثم انطلقنا إلى بيته في مدينة تركية أخرى إلى الشرق من مدينة مديات، بقينا في السيارة ست ساعات. كان العجوز يعيش مع ابنته وعمرها نحو 18 عاماً، وابنه المصاب بإعاقة عقلية وجسدية، وعمره 20 عاماً. في الأيام الثلاث الأولى عاملوني بلطف، ثم أخذني الرجل إلى مدينة أخرى تبعد نحو ساعة ونصف في السيارة، وهناك تم تزويجنا على يد شيخ بحضور شهود، وبعدها عدنا إلى بيته، ثم تغيرت المعاملة كلها، وبدأتُ أعرفُ تفاصيل عن العائلة.
لم يكن الرجل غنياً، كان يعيش على راتبه التقاعدي وراتب المعونة الاجتماعية المخصص لابنه المريض. ابنته كانت شريرة وقاسية، وعرفتُ أنه كان يضربها كثيراً عندما كانت صغيرة، وأنها عاشت في ملجأ، ثم عادت إلى البيت بعد أن تجاوزت 18 عاماً، ولم يعد يضربها أو يضيّقُ عليها.
كان يحاول الاقتراب من جسدي، لكنني كنتُ أقاومه، ولذلك حاول اغتصابي عدة مرات، لكن سنه المتقدمة وضعف جسده ساعداني على مقاومته. كانت ابنته تضربني وتقول إنها ستستمر في ضربي حتى أقبلَ أن أفعلها مع والدها، وهي أيضاً تحرشت بي، أرادت أن أفعل معها مثلما يفعل الرجل والمرأة، ولكنني أيضاً كنت أقاومها، وتعاركنا وضربنا بعضنا بعضاً عدة مرات. لم أكن أعي ما يريدونه مني تماماً في البداية، لكنني شيئاً فشيئاً بدأتُ أدركُ الأمر. أيضاً كانوا يجبرونني على خدمتهم، تنظيف البيت، وتنظيف فضلات ابنهم المريض.
لم أكن أعرف غير اللغة العربية، ولم أكن أستطيع التفاهم مع أحد، كنتُ أتمشى في فناء البيت الخارجي المطلّ على الشارع عبر سياج، وأحاول بالإِشارات أن أشرح للمارة والجيران أنني في مشكلة، ولكن أحداً لم يكن يفهمني. فكرتُ عدة مرات في الهروب والذهاب إلى الشرطة، لكنني كنت أتذكر ما قالوه لي عن أن عناصر الجيش التركي أشرار، ولن يساعدوني.
لم يكونوا يسمحون لي بالخروج وحدي، لكنني خرجتُ عدة مرات برفقة ابنته. كنتُ أحاولُ بالإشارة أيضاً أن أشرح للناس أنني في ورطة، لكن أحداً لم يفهم. لم يكن أحدٌ يأتي لزيارتهم، ولم أعرف ما الذي كانوا يقولونه عني للجيران والأقارب. لكنني كنتُ متأكدة أن الجيران يعرفون أن هناك مشكلةً ما».
كانت رواية حلا لما عاشته في بيت الرجل العجوز بالغة الصعوبة، وقد ارتبكت كثيراً عندما كانت تتحدث عن محاولة الرجل وابنته الاعتداء على جسدها. كان مصدرُ ارتباكها الأساسي أنها خشيت ألّا نصدّقها، وخاصةً فيما يتعلق بتحرش ابنة الرجل بها. قالت أكثر من مرة: «يمكن ما تصدقوني، بس هاد شي أنا عشتو»:
«في أحد الأيام جاء عدد كبير من أقاربه لزيارته، وكانت تلك المرة الأولى التي يأتي فيها ضيوفٌ إلى البيت، ثم دخلت إحدى جاراته ومعها امرأة أخرى وأشارت صوبي. كنتُ أعرفُ أن جزءً من الحديث يدور عني، لكنني لم أفهم.
بعدها بثلاثة أيام، في الصباح، قالت لي ابنته إنها ستذبحني بسكين كبير كان في يدها إذا لم أفعلها مع والدها اليوم. بعدها، في العاشرة صباحاً، جاءت سيدتان لا أعرفهما. لم يكن العجوز في البيت، وسمحت ابنته لهما بالدخول.
لم أعرف عن ماذا كانوا يتحدثون، ولكن قامت واحدة منهما بإلهاء ابنته، والأخرى أخذتني إلى غرفة ثانية، وكان معها كتابٌ فيه رسوم. وضعَت إصبعها على رسم يُظهِرُ عملية ضرب، وعندها فهمتُ أنها تسألني إذا كنتُ أُضرب، فأجبتها بنعم، وراحت تسألني أسئلة أخرى مماثلة بالاعتماد على الرسوم، ثم أشارت لي برقم أربعة بأصابع يدها. فهمتُ أنهم سيأتون لأخذي بعد أربعة أيام، ولذلك خفتُ كثيراً، كنت أعتقدُ أن ابنته ستذبحني في المساء، ولم أعتقد أنني سأعيش أربعة أيام.
بعد الظهر كانت ابنته خارج البيت، وهو كان جالساً عند الباب. جاءت جارته نفسها، التي أشارت إليَّ قبل ثلاثة أيام، وفهمتُ أنها كانت تريد أن تأخذني معها، لكنه رَفَضَ وطَرَدَها. وفي الساعة الرابعة اقتحمَ رجالٌ مسلحون البيت، كان معهم مسدسات وأجهزة اتصال لاسلكي، كانوا من الشرطة. خفتُ كثيراً في البداية، ولكني سمعت كلمة (سوري)، فعرفتُ أنهم جاءوا من أجلي، وعرفتُ أن المقصود كان الساعة الرابعة، وليس بعد أربعة أيام.
أحد عناصر الشرطة كان يتحدث العربية، وقال لي إنهم جاءوا كي ينقذوني، وطلبَ مني أن أذهب معه، وعندها طلبتُ منه أن أدخل إلى الغرفة كي آخذ معي أغلى شيء على قلبي، الشيء الوحيد الذي أحضرته من سورية، صورة صديقة طفولتي في الحسكة، التي لم أرها منذ سنوات. عندما دخلتُ إلى الغرفة، حاول العجوز مهاجمتي، لكنهم منعوه، ثم أخذوني إلى السيارة ونقلوني إلى قسم الشرطة.
هناك في القسم جاء طبيبٌ نفسي وتحدثَّ إليَّ قليلاً، سألني بمساعدة المترجم إذا ما كنتُ قد أصبحتُ مجنونة بسبب الضرب والتعذيب، فقلتُ إنني لا أعرف، لم أعرف إذا ما كنتُ مجنونة بالنسبة لهم أم لا. قال لي: لا تخافي، أنت بأمان، وسنتحدثُ لاحقاً.
بعد قليل سمعتُ صوت ابنة الرجل العجوز في قسم الشرطة، فخفتُ جداً ورحتُ أرتجف واختبأتُ تحت الطاولة، وعندما أدخلوها إلى الغرفة، جاء الشرطي الذي يتحدث العربية وجعلني أقفُ في مواجهتها تماماً، وقال لي: لا تخافي بعد اليوم حتى لو كانت أمامك مباشرةً، لم تعد تستطيع أن تمسَّ شعرةً من رأسك.
جاءوا لي بالطعام والشراب، ثم رجعنا بسيارة الشرطة إلى بيت الرجل العجوز. خفتُ كثيراً عندما اقتربنا، لكن الشرطي طمأنني مجدداً. هناك عند البيت أنزلوا العجوز من سيارة أخرى كي يفتح لهم الباب، جعلوني أراه مقيداً من داخل السيارة التي كنتُ فيها، أما هو فلم يشاهدني لأن الوقت كان قد صار مساءً، وهم أطفأوا أضواء السيارتين.
كان شعوري رائعاً عندما شاهدتُه في تلك الحال، حتى أنني ضحكت. ضحكتُ لأنني تذكرتُ أغنيةً عراقية كنتُ أغنيها دائماً في سرّي عندما كنتُ في بيته:
لذكّرَك باللي حكيته
وبكيّك كل دمعي اللي بكيته».
عندما قالت حلا هذا المقطع من الأغنية ضَحِكَت، وظهرَ مرحٌ طفوليٌ صافٍ في عينيها، أما أنا فدمعت عيناي رغماً عني:
«أعادوه إلى السيارة الثانية، أما أنا فأنزلوني إلى البيت لأصِفَ لهم كل ما كان يحدث، صوروا غرف البيت والأثاث، وأخذوا دفتر العائلة الخاص بي، وبعدها أخذوني إلى المستشفى.
في المستشفى فحصوني، وبعد عدة ساعات قال لي الطبيب إنني لا زلتُ بنتاً. عندها فرحتُ جداً، وهجمتُ على الطبيب وقبّلتُ يده. لم أكن أعرفُ كيف تصبح البنت امرأةً، كنتُ أعتقدُ أنني أصبحتُ امرأةً بمجرد الزواج، حتى أنني ظننتُ أني قد أكون حاملاً بسبب انتفاخٍ في بطني، لكن الطبيب شرحَ لي أنه ناتجٌ عن احتباس سوائل الجسم بسبب الخوف والقلق.
بعد المستشفى أخذوني إلى قسم الشرطة، وبقينا من الساعة الثانية عشرة ليلاً حتى الخامسة صباحاً نتحدث. رويتُ لهم حكايتي كلها بالتفصيل، ووصفتُ لهم التاجر أبو صلاح، فرسموه بناءً على أوصافي. قلتُ لهم أثناء التحقيق إنني ضربتُ ابنة الرجل العجوز أثناء عراكنا المتكرر، وإنهم يستطيعون سجني مثلها ومثل والدها إذا أرادوا، لكن الشرطي قال لي إنني كنتُ أدافع عن نفسي، وهذا من حقي.
بعد التحقيق أعطوني صورة صديقتي التي كانت أمانةً عندهم، ثم نقلوني إلى ملجأ للنساء. كان الملجأ آمناً ونظيفاً، والمسؤولون فيه لطفاء جداً، ولكنه كان مملاً لأنني كنتُ الوحيدة التي تتحدث العربية فيه، أما بقية النساء فكنَّ تركيات وكرديات.
بعد عدة أشهر جاء شرطيٌ يقول إن هناك شخصاً في الخارج يريد رؤيتي، إنها أمي. أُصبتُ بانهيار عصبي، وبدأت بالبكاء والصراخ، وقلتُ إنني لا أريدُ رؤيتها. مديرة المركز قالت إن هذا من حقي، أعطوني إبرةً مهدئة، ونمت. لم أكن أريد رؤيتها، وخفتُ أن يجبروني على الذهاب معها.
بعدها بأيام نقلوني إلى مركزٍ كبيرٍ لدعم النساء في مدينة أورفة، هناك التقيتُ بفتاة من الحسكة، عمرها مثل عمري، وقصتها مثل قصتي، حتى أن التاجر الكبير كان نفسه، أبو صلاح، الذي عرفتُ أن الشرطة التركية تطارده، وأعتقدُ أنهم لم يلقوا عليه القبض حتى الآن.
عند وصولي إلى مركز أورفة، أصبتُ بحالة نفسية غريبة، أصبحت يداي معقودتان معاً، ولا أستطيع فكّهما عن بعضهما مهما فعلت. قال الطبيب النفسي إن هذا بسبب الخوف، وبقيتُ على هذه الحالة عشرين يوماً. كانت الفتيات في الملجأ يساعدنني على الطعام والاغتسال، واعتنت بي سيدةٌ اسمها زينب كثيراً. كانت سيدةً رائعةً مقيمةً معنا في المركز، وقد علّمتني أشياء كثيرة».
تشعرُ حلا بالامتنان الشديد لكثيرين ساعدوها، وخاصة في مركز أورفا، وعند حديثها عن صورة صديقتها التي لا تزال تحتفظ بها من الحسكة، قالت إن لديها الآن صور كثير من الناس الطيبين الذين صاروا أصدقاء لها، وليس صورة صديقة طفولتها فقط:
«بعدها تحسّنت حالتي، وعشتُ أجمل أيام حياتي في مركز أورفة، تمرُّ أيامه في ذاكرتي كأنها حلمٌ جميل الآن. تعلمتُ الأشغال اليدوية كالخرز وغيره، والموسيقى والرسم. أصبحتُ أتحدثُ التركية بطلاقة أيضاً، وعندما سجلوا اسمي كي أبدأ تعلم القراءة والكتابة في المدرسة، حدثَ تحوّلٌ جديدٌ في حياتي.
قال لي المسؤولون في المركز إن أمي وبعض أخوتي وأخواتي جاءوا من أجلي إلى تركيا، وإنهم يريدون رؤيتي، واقترحوا عليَّ أن أعطيهم فرصة. كان ذلك بعد مرور عامين على إقامتي في مركز أورفة. وافقتُ على رؤيتهم، وعندما التقينا في المركز بعد كل هذا الغياب، كانت مشاعري غريبة. لم أعانقهم، لم أكن مشتاقةً لهم. طلبوا مني أن أنتقلَ للعيش معهم، وأن أعطيهم فرصةً أخرى. كنتُ أريدُ البقاء في المركز، خاصةً أنني كنتُ سأبدأ الذهاب إلى المدرسة، لكنني وافقتُ بعد أن أقنعتني أمي أنهم مشتاقون لي ويريدون أن أعيش معهم.
وافقتُ في النهاية، لكنني قلتُ لهم إنني لم أعد كما كنت، لستُ ضعيفةً ولا خائفة، ولن أسمح لهم أن يفرضوا عليَّ شيئاً مجدداً، وهم أكدّوا أنهم لن يجبروني على أي شيء بعد الآن.
ذَهبَ أشخاصٌ من إدارة الملجأ لمعاينة مكان سكن عائلتي، كان دكاناً صغيراً، فقالوا لهم إن عليهم استئجار بيتٍ مناسب، وأن يثبتوا أنهم قادرون على الإنفاق عليّ، قبل أن يسمحوا لهم بأن يأخذوني للعيش معهم. وبعد بضعة أشهر، قَدَّمت عائلتي ما يثبت قدرتها على تأمين حياة لائقة لي، فسمحوا لهم أن يأخذوني.
انتقلتُ إلى بيت العائلة الجديد في هذه المدينة الصغيرة، وفي الفترة الأولى كان كل شيءٍ مريحاً، لكن بعدها بدأت مصاعب الحياة. تنقلتُ مع عائلتي بين عدة مدن تركية بحثاً عن العمل، وعملتُ في أشغال عديدة، لكنني أصبحت أقوى ولم أعد مستعدة لاحتمال إي إهانة أو إذلال، وقد تركتُ أكثر من عملٍ لأنني تعرضتُ لمعاملة غير لائقة.
تفرَّقَ أفراد عائلتي بسبب ظروف العمل، كل واحد من إخوتي أصبح يعمل في مدينة، ووالدتي أيضاً في مدينة أخرى بعيدة، وأنا عدتُ بالباص وحدي إلى هنا، إلى بيت أحد أفراد عائلتي. ولأنني أتحدّثُ التركية بطلاقة، نجحتُ في الحصول على عملٍ كمترجمة للسوريين أثناء مراجعتهم لدوائر الدولة والمراكز الصحية، لكنني لم أستطع الاستمرار في العمل لأنني لا أجيد القراءة والكتابة.
بدأتُ البحث عن عمل مجدداً دون جدوى، لكن هذا ليس مشكلة كبيرة، لأن مصروفي الشخصي صغيرٌ جداً، وهكذا حتى التقيتُ بالصدفة بنساءٍ يعملن في مركزٍ لدعم المرأة هنا في المدينة.
قالوا لي إنه ليس لديهم عمل، ولكنهم يستطيعون تعليمي الأشغال اليدوية وتأمين المواد الأولية اللازمة لذلك، وإن لديهم طبيبةً نفسيةً أيضاً، وهذا أكثر ما كنتُ أحتاجه. الآن أقوم بتصنيع الأقراط والحقائب الصغيرة والقلائد، وما يتم بيعه أقتسم ثمنه مناصفةً مع المركز. الطبيبة النفسية تساعدني كثيراً، حتى أنني سألتها رأيها قبل أن آتي إليكم، وقد شجّعتني. بدأتُ أيضاً بتعلم القراءة والكتابة بالتركية في المركز، والموسيقى والرسم والرياضة. أستطيع العزف قليلاً على الغيتار الآن، وأعرفُ كيف أقرأ نوتة موسيقية.
أذهبُ إلى المركز كل يوم عدا السبت والأحد منذ ثلاثة أشهر، وهناك أشعر أنني أصيرُ أكبرَ وأقوى».
تقول حلا إنها لم تروِ تفاصيل قصتها لأحدٍ سوى للشرطة والأطباء النفسيين، وعندما سألناها عن سبب ثقتها بنا، قالت للصديقة التي جَمَعَتنا إنها أحبّتها ووثقت بها، وإنها متأكدةٌ أن شعورها هذا في محلّه. وهي تقول إنها فرحت جداً عندما عرفت أن هناك صحفياً يمكن أن يكتب قصتها، لأنها تريد لحكايتها أن تنتشر كي لا تقع بنات سوريا في خطأها نفسه، خطأ الضعف والاستسلام. تقول إنها كانت ضعيفة في سوريا لأنها لم تكن تعرف أنها قادرة على المقاومة، ولأنها كانت تستمع إلى كلام الناس، ولأنها لم تكن تشعر أن هناك يداً ستمتد إليها لتساعدها إذا سقطت، أما هنا فهي متأكدةٌ أن هناك من سيساعدها إذا واجهتها أي مشكلة.
تقول حلا إنها ستفتح صفحةً جديدةً مع أهلها ومع الدنيا كلها، وتُشرِقُ عيناها عندما تتحدث عن مركز الدعم الذي تذهب إليه. تقول إن شعار المركز على شكل كرة أرضية، فوقها امرأة ترفع يديها نحو فراشةٍ في السماء. رفعت حلا يديها إلى الأعلى وهي تصف لنا شعار المركز، وقالت إنها تشعر اليوم أنها مثل تلك المرأة، يداها نحو السماء، وعيناها إلى الأمام والأعلى.
موقع الجمهورية