صفحات الثقافة

قصة قصيرة لحائزة بولتيزر للراوية أليس ووكر “روزالي”


رفضت الروائية والشاعرة الأميركية أليس ووكر أن يصار إلى إعادة طبع روايتها الحائزة بولتيزر والتي تحمل عنوان “لون الأرجوان” في إسرائيل. وعللت هذه الكاتبة التي دعمت مباشرة حملات سفن الحرية إلى غزة رفضها بالاحتجاج على سياسة التمييز العنصري بل اضطهاد الشعب الفلسطيني من قبل دولة إسرائيل. وهي حسبما كتبت إلى مدير دار النشر التابعة لصحيفة “يديعوت أحرونوت” يهمها مطالعة الناشطين من أجل الحرية والسلام، اليهود والفلسطينيين، لكتبها.

في “روزليلي” تكتب ووكر القصة مستعينة بمونولوغ داخلي من وجهة نظر الشخصية روزليلي وذلك وسط شرود وتداعي أفكارها إبان حفل زفافها. تروي القصة ضمن كسور للجُمل تجربة زفاف روزالي والماضي الذي أوصلها إلى هنا. الفكرة الرئيسية في القصة هي محاولة روزالي الهروب من الأسر، أسر وضعها، وهذا أمر يبدو أنها غير قادرة على فعله، سواء تعلق الأمر بفقرها، بحياتها الريفية الجنوبية وتجاربها كامرأة سوداء في هذا العالم. هي تقرر الزواج بمسلم من الشمال يعدها بالخلاص من أغلال تجارب الجنوب، ولا سيما منطقة المسيسيبي، وبإعطائها الراحة. إلا أنها لا تنسى أنها تدخل عبر زواجها إلى تقييدات من نوع آخر (الحجاب والثوب الشرعي، فضلاً عن ملازمتها المنزل). بالمحصلة نرى روزليلي تقامر بعدم الإفلات من الأسر لتوفق ربما بإيجاد ظروف أفضل لأسرها.

تبدأ القصة مع الكلمة الافتتاحية لحفل زفاف تقليدي “أحبائي”. هذه الكلمة الموضوعة ضمن مزدوجين تعلو بل تبدو معلقة فوق فقرة من النثر، دون توضيح من أي نوع. بعد انتهاء الفقرة ترد أيضاً كلمات أخرى من مراسم الزواج “نجتمع هنا”. وتالياً القصة الموجزة مرتبة على هذه الطريقة مع توالي الأسطر. فقرة أو اثنتان من النثر تتبعها شقفة من كلمات كاهن الزفاف حتى تكتمل جملتا الزفاف: “أيها الأحبة،/ نجتمع هنا/ تحت أنظار الرب/ لجمع هذا الرجل وهذه المرأة/ ضمن رباط الزواج المقدس” و”إذا كان هنا أي شخص لديه سبب/ يحول دون جمع هذين الاثنين/ بعضهما مع بعض،/ فليتكلم/ أو فليصمت/ إلى الأبد”.

المقاطع النثرية الإحدى عشر منطوقة بصيغة الشخص الثالث من قبل راوٍ يستطيع الولوج إلى عقل روزالي. كل مقطع يسجل ما تفكر فيه وتلاحظه روزالي وهي توشك أن تتزوج. ليس هناك من حوار ولا أحداث حقيقية، بل الأفكار الشاردة للشخصية الأساسية. تنفتح القصة على روزالي تمارس أحلام اليقظة وسط حفلة زفافها، وترى نفسها في ثوب زفاف والدتها. في الحال يبدو أن هذه ليست قصة يوم زفاف فرح. تقام الحفلة على الشرفة الأمامية لمنزل روزالي، أما اسم الرجل الذي ستتزوجه فلا يؤتى على ذكره.

روزليلي

“أحبائي”،

تحلم وهي تنتقل متثاقلة عبر العالم. تتخيل نفسها رافلة في فستان وطرحة زفاف والدتها الأبيضين خلال ما تتخيله سيراً حذراً في ما يشبه الرمال المتحركة ترفع الركبة عالياً حتى الخصر. الرجل الذي يقف بجانبها هو ضد هذا الوقوف على الشرفة الأمامية لمنزلها الذي هو جار الأصوات المزعجة للسيارات التي توزّ على الطريق السريع 61.

“نجتمع هنا”

أشبه بالقطن الذي يعد لكي يوزن. أناملها منشغلة في آخر دقيقة بإزالة الأوراق الجافة والأماليد. تدرك أنها عملية إزالة سطحية. هي تعلم أنه يعزو سبب هز الرجال رؤوسهم في الباحة بطريقة متسمة بالاحترام إلى منطقة المسيسيبي، فيما تقف النساء منتظرات، واسعات الدراية، أما أولادهن فرُدّ عنهم الأذى الذي تسببه تعاليم الإله الخطأ. يحملق في ما وراء هؤلاء باتجاه راكبي السيارات المارة، وجوه بيضاء متشبثة بعهود أو وعود تتجاوز زفافاً في الريف، وأنوفاً مندفعة إلى الأمام أشبه بتلك التي ككلاب تتفحص أثراً بالنسبة إليه هؤلاء بسياراتهم يغتصبون جو العرس.

“تحت أنظار الرب”

نعم، منزل مفتوح أمام الجميع. هذا ما يحبه أهل الريف السود. تحلم أنها لم ترزق بعد بأولادها الثلاثة. ضغط منها على الأزهار التي في يديها يخنق مخلوقات بعمر ثلاث وأربع وخمس سنوات. تشعر في الحال بالخجل والخوف من وسواسها هذا. تتطلع للمرة الأولى في الكاهن، مستحضرة مسحة من التواضع في عينيها، وكأنها تصدق أنه حقاً من رجال الله الأتقياء. بمقدورها تخيل الرب، صبي أسود صغير، يشد بحياء طرف معطف الكاهن.

“لجمع هذا الرجل وهذه المرأة”

تفكر في الحبال، السلاسل، الأصفاد، تفكر بدينه. مكان عبادته. تفكر في المكان حيث سيطلب منها الجلوس فيه منفردة مع حجاب على الرأس. في مدينة شيكاغو، كلمة تسمعها أثناء تفكيرها بالدخان، انطلاقاً من وصفه هو لما يشكل جمرة، وهذا ليس موجوداً عندهم في “بانثر بيرون”. ترى ذرراً سوداء تحوم فوق رؤوس الجيران النظيفين أمام باحتها الأمامية؛ من ثم ترى الذرر تتساقط من السماء ملتصقة بعضها ببعض. لكن في شيكاغو الاحترام، فرصة للبناء. أولادها في النهاية يرتفعون من تحت ربأة العجلة المؤذية. فرصة ليكونوا من الأعلى وليس من الأسفل. يا لها من راحة، تقول لنفسها. يا لها من رؤية، مشهد من الأعالي.

“ضمن رباط الزواج المقدس”

طفلها الرابع تخلت عنه لوالده لامتلاك هذا الأخير بعض المال. لا شك بأن لديه وظيفة جيدة. درس الرجل في هارفرد. كان رجلاً صالحاً لكنه ضعيف، كون اللغة الجيدة عنت له الكثير، ما جعله غير قادر على العيش مع روزليلي. لم يكن يتحمل التلفزيون في غرفة الجلوس، وخمس أسرة نوم في غرف ثلاث، وليس من “باخ” سوى بين الرابعة والسادسة من بعد ظهر الآحاد. ليس من شطرنج مطلقاً. لم تنس القلق على ابنها وهو بين أهل والده. تساءلت إذا كان طقس منطقة نيوإنغلند يلائمه. تساءلت إذا كان سيقصد منطقة المسيسيبي، كما فعل والده، ليحاول تصويب أخطاء البلاد. تتساءل عما إذا كان سيغدو أقوى من والده. دأب والده على التنصل أولاً ومن ثم الوفاء من جديد بالوعود التي قطعها خلال حملها. وهزل جسده حتى بات مجرد جلد على عظم. عانى الكوابيس، متجشئاً وساقطاً من ثم عن السرير. وأكثر من ذلك حاول قتل نفسه. أخبر زوجته أنه توصل إلى أخلاق الصبي الصالح بالتحادث مع أصحابه. أخذ يعدد الصفات التي ستشكل شخصيته.

ليس من طبعها اللجوء إلى اللوم. وبالمقابل ليست من النوع الذي يشكر دون حساب. هي تفترض أن منطقة نيوإنغلند، الشمالية، مختلفة تماماً عما ألفته هي. بدا أنه أمر صحيح بطريقة من الطرق أن الناس الذين ينتقلون للعيش هنا يعودون إلى ديارهم متغيرين كلياً. تفكر في الهواء، الدخان، قبسات الجمر. تتخيل تلك القبسات بحجم حبات البرد؛ ثقيلة، وازنة فوق رؤوس الناس. تتساءل كيف يجد هذا الضغط دربه إلى الشرايين، ماطاً نوابض الضحك.

“إذا كان هنا أي شخص لديه سبب”

لكنهم يعرفون بالطبع عدم وجود سبب أبعد مما توصلوا يومياً لمعرفته. تفكر بالرجل الذي سيغدو زوجها، تشعر بأنها قصية عنه بسبب القسوة المتمادية لبدلته السوداء الصرف. بسبب عمر من الأسود والأبيض. بسبب رؤوس مغطاة بالحجاب، بدا الأمر كأن أولادها قد انسلخوا عنها. ليسوا موتى، بل أشبه بتماثيل فوق قاعدة، بل كأنهم سويقات لا جذور لها. تتساءل عن كيفية صنع جذور جديدة. الأمر يتخطى مقدرتها. تتساءل ماذا يمكن أن يفعله المرء بذكريات في حياة من طراز جديد مختلف. بدا هذا سهلاً للوهلة الأولى إلى أن بدأت التفكير فيه. “الأسباب التي تجعل… الناس الذين”… تقول لنفسها دون أن تتساءل من أين أتت الفكرة.

“يحول دون جمع هذين الاثنين”

تفكر في والدتها، الميتة الآن. ميتة لكنها لم تزل أمها. المنجمعة. لا شك بأن هذا أمر محير. تفكر بوالدها. عجوز أشيب اعتاد بيع فرو حيوان المينك والأرنب كما فرو الثعلب لمحال “سيرز روباك”. يقف في الباحة مثل رجل ينتظر القطار. شقيقاتها الأصغر سناً يقفن خلفها وقد ارتدين فساتين خضراء ناعمة مع وجود أزهار في أيديهن وفي شعرهن؛ إنهن يقهقهن، فيما هي تحاول تلمس عبثية بل سخف حفلة الزفاف. الشقيقات مستعدات لشيء جديد. تقول لنفسها إن الرجل الواقف بجانبها يجب أن يتزوج إحداهن. تشعر بأنها غدت عجوزاً. أسيرة نيرها. يبدو لها أن ذراعاً تمتد من خلفها وتخطف باحتها الخلفية. تفكر بالمدافن وبالنوم المتطاول لأجدادها المجبولين بالتراب. تعتقد أنها تؤمن بالأشباح. بالتربة التي تجود بما تأخذه.

“إلى بعضهما”،

في المدينة، يراها بطريقة جديدة. هذا أمر تعرفه وهي ممتنة. ولكن هل تلك الطريقة جديدة كفاية؟ لا يمكنها أن تكون دائماً عروساً وعذراء، ترتدي الأثواب والحجاب. حتى في هذه اللحظات الآن يتحرق جسدها ليتحرر من الساتان والفوال، القماش الشفاف الأورغاندي، وحتى من زنبق الوادي. تتحطم الذكريات عند تفحصها. ذكريات أن تكون عارية بوجه الشمس. تتساءل كيف قد يبدو الأمر. ألا تضطر للذهاب إلى العمل. ألا تعمل داخل معمل للخياطة. ألا تقلق بخصوص تعلم خياطة درزات مستقيمة في بلدة شغل وجينز والسراويل الخاصة بالعمل. مكانها سيكون البيت، حسبما قال هو مكرراً، وواعداً إياها بالراحة التي تضرعت لنيلها. لكنها تتساءل الآن. حين ترتاح، ما الذي ستفعله؟ سينجبان أطفالاً. تفكر جديا وعمليا بجسدها الجميل السمرة، وبجسده القوي الأسود، سيكون زواجاً محتوماً. ستكون يداها مليئتين. مليئتين بماذا؟ مليئتين بالأطفال. هذا لا يريحها.

“فليتكلم”،

تتمنى لو أنها سألته أن يشرح أكثر ما قصده. لكن كان قد عيل صبرها. عيل صبرها من الخياطة. من فعل كل شيء للأبناء الثلاثة، بمفردها. عيل صبرها من ترك الصبايا اللواتي عرفتهن منذ الطفولة، فيما أولادهن يكبرون وأزواجهن يحومون حولها وقد طالهم التقدم في العمر كما تعب السنين. لم تر فيهم شيئاً تريده أو تحتاجه. عيل صبرها من آباء أولادها وهم يمرون بها بسياراتهم، بعضهم ملوحاً، والبعض غير ملوح، المذكرين بأوقات سرعان ما ستنساها. عيل صبرها من رؤية “الجانب الغربي”، حيث سيعيشون ويبنون ويحترمون الآخرين ويكونون محترمين وأحراراً. زوجها سيحررها. إسكات رومانسي. طلب يد. وعود. حياة جديدة! تستدعي الاحترام، الاستحضار، التجدد. حرة هي. لكن في الرداء الطويل والحجاب.

“أو فليلتزم”

هي لا تعرف حتى إذا كانت تحبه. هي تحب بقاءه صاحياً. رفضه الغناء لمجرد معرفته اللحن. هي تحب كبرياءه. تحب لونه الأسود وسيارته الرمادية. تحب تفهمه لحالتها. تعتقد أنها تحب الجهد الذي سيبذله لإعادة صياغتها كما يريد حقاً. حبه لها يجعلها مدركة تماماً كم كانت غير محبوبة قبلاً. هذا أمر يجب أن يسجل في مصلحته. لكن هذا يجعلها من ناحية أخرى حزينة بشكل لا يطاق. يا لها من كآبة. تطرف عينيها. تتذكر أنها صارت متزوجة أخيراً مثل الفتيات، بل النساء الأخريات؟ شيء ما يضغط في أعلى خلف عينيها. تفكر في هذا الشيء لما بمثابة جرذ عالق، محاصر، يعدو روحة وجيئة داخل رأسها، محدقاً عبر شبابيك عينيها. تريد العيش ولو لمرة. لكنها لا تدري بالتحديد معنى ذلك. تتساءل إذا كانت فعلت ذلك قبلاً. إذا كانت ستحقق ذلك لاحقاً. الكاهن بغيض بالنسبة لها. تريد دفعه بعيداً من دربها، بعيداً عن ناظريها، وذلك بقفا يدها يبدو لها أنه لطالما كان واقفاً أمامها، ساداً دربها.

“الصمت إلى الأبد”

لم تسمع بقية الكلام. تشعر بقبلة شغوفة، مثيرة ضمن أجواء الجلبة العامة. راحت السيارات تسير مطلقة زماميرها. انطلقت المفرقعات النارية. وقدمت كلاب من تحت المنزل وراحت تعوي وتنبح. زوجها أشبه بمقبض بوابة حديدية. الناس راحوا يهنئون. أولادها أخذوا يلتصقون بها. نظروا إلى والدهم الجديد برهبة ممزوجة بالأمل. بدا أنه يقف، وبشكل يدعو للتعجب، على حدة، رغم اصطفاف الناس للسلام عليه. كان يبتسم لهم لكن عينيه بدتا وكأنهما منقلبتين إلى الداخل. هو يعلم أنهم لا يستطيعون أن يفهموا أنه ليس مسيحياً. لن يقوم بشرح وضعه لهم. يشعر بأنه مختلف، هو يرى ذلك بأم عينه. النساء العجائز حسبنه واحداً من أبنائهن، سوى أنه ابتعد بطريقة ما عنهم. لم يزل ابناً، ليس ابناً. تغير. تفكر قائلة كيف سنعيد الأمر لاحقاً ليلاً داخل السيارة الرمادية بل الفضية اللون. كيف سيغزلان سوياً عبر ظلام منطقة المسيسيبي وصباحاً في شيكاغو. إلينوي. تفكر بلينكولن، الرئيس. هذا كل ما تعرفه عن المكان. تشعر أنها جاهلة، متخلفة. تضغط أصابعها المتوترة على راحة يده. هو واقف أمامها. وسط تدافع الناس المتمنين لهما التوفيق، لا يكترث للالتفات إلى الخلف.

ترجمة وتقديم: فوزي محيدلي

عنوان القصة القصيرة: Roselily

اسم الكاتبة: Alice Walker

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى