قصص اللجوء السوري في أوروبا
روزا ياسين حسن
طابور طويل ذاك الذي كان يُشكّله طالبو اللجوء على باب مركز اللاجئين في مدينة هامبورغ بألمانيا. أجساد متتالية لنساء ورجال، صراخ لأطفال، نقاشات محتدمة وهمهمات خفيضة، عربات ملونة بموازاة أمتعة، حقائب، أكياس، أوراق، وتعب يفيض من العيون.
الأسئلة المتلاحقة القلقة التي يوجهها المصطفون إلى بعضهم البعض تنبئ بأن القسم الأكبر منهم سوريون. يستطيع المراقب التقاط اللهجات المختلفة تتصاعد منهم في الفضاء المحيط بالطابور الذي يتنامى كل حين. صباح صقيعي في أواخر شهر آذار 2013، يكاد يقصم الأجساد التي تتقافز لتصيب شيئاً من الدفء. وحدهم الأطفال لا يشعرون بالبرد، يتراكضون والبخار يتصاعد من أفواههم الصغيرة!
يزعق صوت حاد لسيارة إسعاف، فيقفز معظم المنتظرين هلعاً! من الصعب أن يتخلّص السوريون من شبح الرعب حتى لو غدوا، بين ليلة وضحاها، في أمان أوروبا! لكن ثمة شيء وحيد استطاعوا التخلّص منه هنا، إنه الخوف من الكلمات! تتصاعد القصص وتتوالى في الطابور، امرأة تحكي حكايتها لامرأة، رجل يتحدّث بما حصل معه لرجال، عائلات تسرّ لعائلات، قصص وقصص تتوالد، كأن الجميع كانوا ينتظرون تلك اللحظات ليبوحوا بأسرار احتفظت أرواحهم بها حتى وصلوا هنا، وربما هي أشبه ببروفا لمحاكمات اللجوء القادمة بعد ساعات الانتظار.
(د) شاب عشريني حليق الشعر، وحيد إلا من حقيبة قماشية حمراء اللون لا تفارق كتفه. بعد ساعتين من الانتظار راح يحدّث كهلاً سورياً واقفاً أمامه، مع ابنه وكنّته الحامل اللذين هربا من مدينة حلب، بأنه كان في الجيش النظامي حين قرر الهرب. كانت الأوامر قد وصلت إلى كتيبة الدبابات، التي يقضي خدمته الإلزامية فيها، أن تتجه إلى مدينة حمص، ولم يكن (د) قد انخرط بعد في القتال الدائر، فلا هو اضطر إلى إطلاق النار على أحد، ولا تعرّض إلى هجوم من أحد، فكتيبته حتى ذلك الوقت كانت ماتزال على أهبة الاستعداد في “دمشق”. رأى (د) الموت بعينيه، تخيّل نفسه وهو يطلق قذائف الدبابة على الناس، كما تخيّل قذيفة تسقط على دبابته فتحترق ويحترق معها.
– “خيار صعب كان يا عمي، إما أن تَقتُل أو تُقتَل!”
هزّ الكهل رأسه متحسّراً.
لكن (د) كان قد قرر الهرب، استطاع التسلل بأعجوبة إلى الحدود مع لبنان، وهناك ساعده بعض المعارضين للوصول حتى بيروت، ثم استطاع العثور على مجموعة من المهربين أمّنوا له الوصول إلى ألمانيا بفيزا وصل سعرها إلى أربعة ألاف يورو.
– “لكن أخي مازال عالقاً في بيروت.. لم يستطع تأمين فيزا فقد طلبوا منه عشر آلاف دولار ثمناً لها!!”.
– …
– “هناك الآلاف مثلي لكنهم مساكين لا يقدرون على الانشقاق.. عوائلهم مازالت في سوريا!! حظي كان جيداً!!”
في ذلك الوقت كان هناك شاب كردي سوري يتحدث إلى مجموعة من الشباب في نهايات طابور المنتظرين. هو كذلك تحدّث بحرية وجلاء كأن سنوات القمع لم توقف سيل الكلمات بداخله. كان (ك) شاباً جامعياً من مدينة القامشلي، عمل في تقديم المساعدات والإغاثة للعائلات التي نزحت في السنة الأخيرة من الرقة ودير الزور والمناطق المحيطة إلى القامشلي التي كانت ما تزال آمنة نسبياً. لكن قوات النظام السوري، التي أضحت ضعيفة القبضة في تلك المناطق، خلّفت وراءها مجموعات كردية أخرى عملت على قمع الناشطين المعارضين، أو المختلفين سياسياً وإيديولوجياً، وأولهم عناصر من حزب الــ”ب.ي.د”. في ليلة داهم عناصر منهم بيته، كانوا يريدون اعتقاله، لولا أن استطاع والده تهريبه من شباك المطبخ، وركض لا يلوي على شيء. بعد أيام لاقاه الأب في بيت صديقه ودسّ في يده مبلغاً من المال، ثم قال له اهرب يا ابني والله يحميك. وإلى تركيا عبرَ الحدود بشكل غير شرعي، وهناك تعرّف على مجموعة من المهرّبين دفع لهم المال فدسّوه في مقطورة ملحقة بشاحنة لنقل المواد الغذائية. في تلك المقصورة / المخبأ بقي (ك) ثمانية أيام بلياليها في الطريق إلى أوروبا، برفقة ثلاثة من الناشطين السوريين.
“كانت المساحة لا تتعدى المتر المربع نندسّ فيها نحن الأربعة، المهرّب يلقي لنا بالطعام والشراب من بين صناديق الأغذية التي ينقلونها ونقضي حاجتنا في علب بلاستيكية!”
_ همس (ك)، ثم أردف: “انقسمنا على بعضنا كما انقسمت سوريا.. والله يا شباب نجح النظام في جعلنا نقاتل بعضنا بدل أن نقاتله!!”.
حين انفتح الباب الزجاجي الكبير إيذاناً ببدء دخول طالبي اللجوء إلى المركز كان (أ)، وهو رجل أربعيني من دير الزور، ينهي قصته التي يحكيها إلى عائلة من ريف دمشق. كان من الشباب الأوائل الذين حملوا السلاح في المدينة. قُتل ابنا عمه في قصف النظام فقرر مع أخوته خوض غمار القتال ضد طغيانه. ترك عمله في التعهدات، وترك أطفاله الستة بدون معين، وانخرط في حربه.
أول أخوته الذين استشهدوا سقط بقذيفة من قبل النظام، ثاني أخوته سقط برصاصة قناص “مجهول”، حسبما عبّر (أ)، أما ثالث أخوته فقد كان قائداً لكتيبة من الثوار، قال (أ) بأنه متأكد من أن رفاقه هم من سلّموه ليقبضوا ثمن رأسه.
– لمن سلّموه؟!”
يسأله المستمع باهتمام. يقلب (أ) شفتيه ويقول: “سلّموه إلى جهات أخرى لا تريد مقاتلاً نظيفاً لا يقبل بفرض الشروط لإعطاء المال والسلاح!”.
أجاب (أ) ملغّزاً كلامه.
– “ثم قررت ترك القتال.. اقتنعت بأن عدداً كبيراً من المقاتلين حولي يقاتلون لمنفعتهم وغاياتهم وليس لإسقاط النظام!!”
– “يعني لا يخلو الأمر من منافقين لكن ليس كلهم!”
– “مع من كنت أحارب؟ ولأجل ماذا!”.
– “لأجل التخلص من النظام الغاشم”.
أجاب الرجل بانفعال!
– “طبعاً يا أخي أنت تحدّث رجلاً فقد أخوته الثلاثة في سبيل إسقاط النظام… لكن فقدت إيماني بأولئك المقاتلين، ولم أعد آمن على نفسي منهم!”.
– “لم لم تذهب إلى كتائب أخرى؟! كتائب الجيش الحر مثلاً!”.
– “لم يكن ذلك سهلاً.. ثم كانوا سيقتلونني ربما لو فعلت!”.
– …!
– “خرجت إلى تركيا ومن هناك استطعت الحصول على فيزا بعشرة آلاف دولار أتيت بها إلى هنا.. سأقدم اللجوء كي أستطيع جلب أطفالي الذين ينتظرونني الآن في بيروت”.
بدأ جمع طالبي اللجوء بالتقدم لدخول المبنى. كل منهم يشهر جواز سفره وأوراقه أو هوية الإقامة. يندسون بين الأجساد المتراكمة في البهو، عيونهم معلّقة بعناصر الشرطة الذين ينادون على الأسماء، وقلوبهم معلّقة بمقابلة قادمة قد تحدّد مصيرهم في العمر القادم. مئات الأجساد تحمل أرواحها مئات القصص المختلفة والمتباينة، لكنها قصص تجتمع في النهاية على جرح واحد اسمه سوريا.
موقع 24