صفحات سوريةميشيل كيلو

قصص واقعية من عالم الأشباح!


ميشيل كيلو

كتم معلومات

كان في زاوية المهجع، قرب النافذة التي تطل على الممر الفاصل بين عنابر الطابق العلوي من سجن المزة العسكري، وقد ألصق على الحائط الذي وراءه صورتين: واحدة لوردة حمراء تتوسطها صورة فيروز، وأخرى لحافظ الأسد.

عندما دخلت المهجع لأول مرة حرت في أمر سجين يضع صورة سجانه فوق رأسه. حين سألت أحد السجناء إن كان مخبرا ومحبا للأسد، نفى ذلك بصورة قطعية، وقال: إنه كان ضابطا متميزا أبدى قدرا من الشجاعة خلال حرب «تشرين» أهله لنيل أرفع وسام تمنحه الدولة للشجعان من جيشها، وامتدح طيبته وتواضعه. بعد حين، لاحظت أن لون عينيه يكاد يكون أحمر، وأنه يبكي ويئن معظم الليل، بمجرد أن يغطي رأسه بالبطانية ويطفأ الضوء في الحادية عشرة ليلا، بعد مرور مساعد الشرطة العسكرية لإسماع المساجين جملة يكررها كل ليلة: «ناموا يا صراصير ناموا. أكل وأكلتوا وشرب وشربتوا، شو بدكن أحسن من هيك. والله لولا رحمة السيد الرئيس لقتلناكم بالـ(دي تي تي) لأنكم صراصير».

روى أحمد لي قصته فقال: أمرني قائد لوائي بالذهاب من القطيفة، حيث ثكنتنا، إلى لواء مدرع يعسكر في قطنا لإحضار دبابة. وصلت إلى هناك، فأخبرني الضابط المسؤول عن الصيانة أن الدبابة ليست جاهزة بعد، واقترح علي الانتظار في مطعم اللواء، ريثما يحين وقت تسلمها. توجهت إلى المطعم، وجلست وحيدا في ركن بعيد، لأنني لم أكن أعرف أحدا من ضباطه وجنوده، ثم وضعت سماعة الموسيقى التي تلازمني دوما في أذني وأخذت أستمتع بصوت فيروز، معشوقتي التي سميت دبابتي باسمها. كان هناك عدد من الأشخاص في الركن البعيد عني، لكنني لم أهتم بهم أو أسمع ما كانوا يقولونه، فقد كانت أذناي مليئتين بأغاني فيروز. بعد ساعات جاء جندي ليخبرني أن الدبابة صارت جاهزة، فأخذتها على حاملة وذهبت إلى لوائي، على بعد قرابة سبعين كيلومترا من قطنا. بعد يومين تم اعتقالي بتهمة كتم معلومات. سألني المحقق عما سمعته من أقوال المجموعة التي كانت في المطعم، فقلت إنني لم أسمع شيئا لأنني كنت أستمع إلى فيروز، استشاط غضبا وصفعني وركلني وشتمني، وأخيرا وضعني في الدولاب وكهربني ثم شبحني حتى تقطعت أعصاب يدي، بحجة أنني أرفض الإفصاح عما كان المتآمرون يقولونه. فهمت من خلال الأسئلة أن الذين كانوا في الندوة تحدثوا باستخفاف عن أمر سمعوا أنه سيصدر إليهم بالتوجه إلى حدود العراق، للدفاع عن سد الفرات ضد هجوم عراقي يستهدف احتلاله، وأن أحدهم تساءل عندما بلغه الخبر: ليش العدو الإسرائيلي اللي قدامنا ما بيكفينا حتى صار بدنا عدو عربي ورانا؟ صمت قليلا ثم قال: هؤلاء هم المتآمرون، إنهم سبعة ضباط ثلاثة منهم مثلي: أبطال جمهورية، وواحد معه وسام الشرف من مرتبة فارس، هو الوحيد الذي يحمل هذين الوسامين في الجيش، وهم يجددون كل عام طباعة مقابلة أجرتها جريدة «البعث» معه بعد انتهاء حرب تشرين، تقدمه للرأي العام كبطل يفاخر الحزب ببطولاته، مع أنه في السجن منذ ستة أعوام. مد يده إلى حقيبة كانت فوق رأسه وأخرج نسخ المقابلة الست، قبل أن يضيف: لم يشفع لي ما شهد به «المتآمرون» حول عدم معرفتهم باسمي وهويتي ومن أكون، وتأكيدهم خلال التحقيق معهم أنهم سخروا مني كضابط «مخنث» يضيع وقته في الاستماع إلى الموسيقى. اعتبرني الأمن العسكري كاتم معلومات وأسرار المؤامرة وزجني معهم في السجن، بعد تعذيب استمر ثلاثة أشهر كاملة. لم أسأله عن صورة حافظ الأسد. انتبه هو إليها كأنه يراها لأول مرة وقال: رحمته هي حبل نجاتي الوحيد. أنا الآن في الثالثة والثلاثين، فإن عفا عني استأنفت حياتي، عملت سائقا أو فلاحا وتزوجت وأنجبت أطفالا وربما بنيت بيتا ونعمت بشيء من السعادة، ونسيت مع الزمن الظلم وهذه السنوات الطويلة المضنية، لذلك يراودني منذ ستة أعوام الأمل في أن يكتب أحد السجناء أو رجال الشرطة العسكرية تقريرا يقول إني أضع صورة السيد الرئيس فوق رأسي، فربما غيروا رأيهم بي واعتبروني مواليا وأخرجوني من السجن. إنني أكاد أموت من القهر، ولا أستطيع النوم من الحزن والبكاء على حالي. ذات ليلة ونحن وسط لعبة شطرنج، سألني فجأة وبصوت تقصد أن يسمعه الآخرون: أليس وحشا ومجرما وابن زنا الرئيس الذي يسجن شخصا حتى الموت، مع أنه كان يستطيع إبداء الرحمة حياله والأمر بإعدامه؟ لم يرحمه الرئيس، الذي لم يرحم أحدا، ولم يخرجه من السجن إلا بعد سبعة عشر عاما وشهرين، كان قد تحول خلالها إلى ركام إنسان، وصار شبه أعمى من البكاء. لم يتزوج بعد خروجه من السجن، ولم ينجب أبناء أو يبني بيتا، ولم يعرف طعم السعادة، ولم يعمل سائقا أو فلاحا، بل انزوى في غرفة على سطح بيت أهله، لم يغادرها إلا للضرورات القصوى. عندما توفي بعد عامين، أخبرني أخوه أنه لم يذهب من منطقة كفرسوسة إلى دمشق غير مرة واحدة، وأنه كان يرفض في نهاية أيامه تناول الطعام رغم إلحاح وبكاء والدته.

القميص

كان في الثلاثين، اسمه علي، ويعمل مدرسا في مدرسة قريبة من قريته في ريف حماه الغربي. اعتقلوه وعذبوه طيلة أشهر بتهمة تلقي قميص من أحد عملاء العراق. قال: إنه لم يتلق شيئا، وإنه بعثي ويحب الرئيس، فشتموه وأمعنوا في تعذيبه، لأنه يلوث اسم السيد الرئيس بفمه القذر، الذي يمنع على كلب مثله النطق باسمه. بعد شهور من التعذيب، اعترف بالعمالة للعراق، ونقل إلى سجن المزة، حيث التقى بمعتقل أفهمه ما حدث له: قال ابن قريته عادل، وهو شاب صغير السن يدرس الهندسة: إنه زار باريس بطلب من شقيقه الذي سافر إلى العراق للمشاركة في نهضة بلاد الرافدين العلمية، بعد أن قرأ إعلانا في جريدة فرنسية يدعو العلماء العرب للذهاب إلى هناك. في باريس، اشترى الشقيق، وهو بالمناسبة عالم ذرة، قمصانا لثلاثة من أصدقاء طفولته، الذين لم يرهم منذ ستة عشر عاما، منهم علي. بعد عودته من باريس، وفي الطريق إلى بيت علي، الذي لم يعرف أن العالم سأل عنه وأهداه قميصا، التقى عادل بصديق له اسمه جميل أقنعه بإعطائه القميص، مقابل وعد بأن يكتم الأمر كي لا يعرف علي بالأمر. لكن المخبر جميل أبلغ الأمن أن قميصا كان في الطريق من العالم النووي إلى معلم الابتدائي في القرية، فألقي القبض عليه. خلال التحقيق، كانوا يقولون له: والقميص، تحدث عن القميص، فكان يسألهم باستغراب: أي قميص، والله لا أعرف أي شيء عن أي قميص. عندئذ، كانوا ينهالون بالضرب عليه، لاعتقادهم أنه يسخر منهم حين يسألهم: هل تقصدون قميص عثمان، والله لا أعرف أي شيء عنه؟

بعد مرور اثني عشر عاما في سجن لا نهاية له، نسي علي معظم ما كان يربطه بالعالم الخارجي، وفقد أي أمل في نيل حريته، وعاش في عالم خاص كان يغرقه أكثر فأكثر في صمت يدوم معظم ساعات النهار والليل، جعله ينصرف إلى صنع المسابح والعقود من بذور حبات الزيتون، التي يريد إهداءها إلى أحبائه، لأن خروجه من السجن غدا وشيكا، بعد أن اقتنع من كان يسميهم «الإخوة المسؤولين» أنه ليس على علاقة مع القميص. ذات يوم، عاد علي من الزيارة ووجهه بين يديه ودموعه تنبجس من بين أصابعه. لقد مات «الأخ المسؤول» الذي كان يتلقى المال من أهله بحجة أنه يدفعه لكبار القوم في العاصمة كي يخرجه من السجن، ومات معه أمله في الحرية. توقف علي عن العمل لفترة طويلة أطلق خلالها لحيته وأقلع تماما عن الكلام. لكنه نهض ذات ليل في الساعة الرابعة وأخذ يحطم ما كان يخزنه من مسابح وعقود في صندوق كرتوني صنعه من لب الخبز والسكر المذاب، بينما كانت ضحكاته وصرخاته ترج المهجع، معلنة لبقية السجناء أن علي إبراهيم: المعلم الهادئ والودود قد فقد عقله.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى