قصيدة النثر والتراث العربي… ملاحظات متفرّقة في المنهج والمقاربة/ هدى فخر الدين
إن أكثر ما كُتب في قصيدة النثر قد وصل إلى طريق مسدود. لا مبالغة في القول إن النقد العربي فشل في تناول قصيدة النثر. فكل الكتابات النقدية فيها كتابات في المطلق تتطرق إلى ما هو زائد على الأدب، ما هو محيط به أو مجاور له. والمقاربة النقدية لقصيدة النثر مقاربة يبدو وكأن الجهد الأكبر فيها هو جهد لتفادي الشعر ولتلافي مواجهة النصوص. إذ يكتفي النقاد على الأغلب بوصف موضوعات قصيدة النثر، وبالتالي أخذها ذريعة للكلام على قضايا مجردة عامة كالحرية والقيود، العلاقة مع الآخر والعلاقة مع العالم وآدابه، العروبة والإرث الثقافي العربي أو الإسلامي… وكل هذه قضايا قد تكون مهمة ولكنها لا تقدم سبلاً لقراءة الشعر ولا للدخول في عالم النص الشعري. ومثال واحد على هذا هو كتاب الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي بعنوان «قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء» الذي لا يذكر فيه حجازي أي شاعر من شعراء قصيدة النثر ولا يحاول النظر في نص من نصوصها، إلا أنه يرفضها مبدئياً. فقارئ حجازي ينتهي إلى أن الكاتب ليس مقتنعاً بقصيدة النثر لا نظرياً ولا عملياً ولا حتى فرضياً، ولكنه لا يتعلم أي شيء عن القصيدة موضوع الكتاب.
لذلك يصعب الحكم على تجربة قصيدة النثر، وإنْ مرَّ ما يقارب الخمسين عاماً على انطلاقتها. كما يصعب الحديث عن إنجاز شعري لمشروع قصيدة النثر، ولكن تسهل الإشارة إلى أسئلة نقدية كثيرة طرحها النقاد حول قصيدة النثر: أسئلة متعلقة بطبيعة الشعر وشروطه وحدوده. فنحن لا نملك معايير للحكم عليها ولا منهجاً فنياً واضحاً لا لمهاجمتها ولا للانتصار لها. ما زال شكل قصيدة النثر أو ما زالت أشكالها خارج نطاق النقد، إذ يكتفي المدافع أو المهاجم بالإشارة إلى غياب الوزن، وكأن في ذلك تحديداً كافياً للشكل الشعري الجديد. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الجدل الدائر حول قصيدة النثر والوزن قد ظلم التراث الشعري العربي واختصره بالوزن. فكأن امرأ القيس كالفرزدق وعنترة كأبي تمام وابن الرومي كالحلاج، كلهم شعراء وزن على اختلاف أساليبهم ولغاتهم الشعرية!
هذه المقاربة السطحية لقصيدة النثر وللتراث العربي معاً لها أسباب في المنهج التاريخي في دراسة الأدب، وهو الذي يجزّئ ويفصّل ويسلسل ولا يملك القدرة على الترفّع فوق هذا كله لتناول جماليات النص وقيمه الفنية.
ثنائية الحديث والقديم
يبدو أن دراسة قصيدة النثر والتراث العربي محاولة للجمع بين نقيضين، ذلك لأننا اعتدنا على فهم الأشكال الشعرية الحديثة ولا سيما قصيدة النثر على أنها في جوهرها تنافر مع التراث العربي أو وسيلة للخلاص منه. وهذا الخلل في مقاربة التراث العربي بشكل عام ناتج عن المقاربة التاريخية أو التاريخانية للأدب العربي التي تفترض أنه تراث بائد لا تبعات له ولا لدراسته. وهذه المقاربة ليست حكراً على المستشرقين وورثتهم ولكنها مقاربة للتراث العربي ورثها العرب. ينظرون إلى تراثهم الأدبي الشعري فلا يرون إلا تاريخاً ماضياً ما عليهم إلا الخروج منه ليحققوا الحداثة. وهذه المقاربة هي التي أورثتنا الفصل الحادّ بين ما هو قديم وما هو حديث. إذ باتت دراسة الأدب العربي إما بحثاً في تراث عتيق بائد أو تخطياً لهذا التراث وتغلّباً عليه سعياً وراء حداثة مرتجاة. وكأن الحداثة في جوهرها ليست بناء على التراث أو تجاوزاً له، بل تغلب عليه أو شفاء منه.
يروي الدكتور ياروسلاف ستتكيفيتش، أستاذ الشعر الجاهلي الذي قضى سنوات طويلة مدرّساً في جامعة شيكاغو، عن حالة متكررة كان يواجهها، وهي ناتجة عن هذا الفهم السطحي للحداثة والتراث معاً. إذ كان يقصده طلاب من العرب وغير العرب للتخصّص في الأدب الجاهلي، فكان يبادر الواحد منهم بالسؤال الآتي: ما هو آخر أو أحدث ما قرأته في الشعر العربي؟ وغالباً ما كان يأتي الجواب: لا اهتمام عندي بالشعر الحديث، أنا مهتم بالجاهلي فقط. هذا، يعلق ستتكيفيتش، مثل مَن يجهد في حفر بئر عميق آملاً أن يجد في قاعه ما هو ثمين، ولكنه يجد نفسه في نهاية الأمر في قاع الحفرة من دون وسيلة للخروج منها، ولا لإخراج ما وجده فيها. لا يمكنك أن تقدر الثمين في قاع البئر ولا أن تخبر عنه ما لم تتزوّد، في طريقك إليه، بالتحولات والتطورات التي لحقته ونمت منه، مهما تكن قد ابتعدت عنه. فهي الطريق للوصول إليه وهي الطريق للعودة منه أو معه إلى هذه اللحظة التي نحن فيها الآن. أن تعلن اهتماماً بالشعر القديم من دون أن تقيم علاقة مع الشعر الحديث، هو أن تقفز في بئر من دون أن تأخذ معك سلماً أو حبلاً يصلك بالسطح، وكذلك أن تدّعي اهتماماً بالحديث من دون غيره، فكأنك تحاول الوقوف في فوهة البئر معلقاً في الهواء.
نحن إذاً نفتقر في نظرتنا إلى التراث الأدبي العربي إلى مشروع نقدي قادر على النفاذ إلى فنيات النص الشعري أو النثري، نفتقر إلى منهج نقدي ينطلق من التحليل والتفصيل ويتجاوزهما ليتعامل مع العمل الفني كوحدة قائمة بذاتها. علينا أن نتخلّص من النظرة التاريخانية لنخرج الأدب العربي من زنزانات العصور والحقب، وأن نتذكر أن الزمن من منظور نقدي أدبي ليس إلا مجرد ظروف طارئة على الأدب، ملابسات خارجية ليست في جوهر الأدب المكتفي بذاته.
أين قصيدة النثر في التراث العربي؟
من هذا المنطلق ليس مكتوباً على دراسة في قصيدة النثر والتراث العربي أن تكون دراسة متناقضات بالضرورة. إلا أن العودة إلى التراث العربي بحثاً عن قصيدة النثر أو عن أصول لها ليس رحلة سهلة النتائج. فإذا بدأنا ببعض الأسماء التي يشير إليها منظرو قصيدة النثر كمراجع لما يكتبون، لن تنجلي حيرتنا تجاه شكل قصيدة النثر وطرحها الشعري بل ستزداد وتتعقد. فالنفري مثلاً وهو أحد الذين تكثر الاشارة إليهم كمرجع لقصيدة النثر في التراث العربي، ذو لغة شعرية، وما كتبه من نثر هو نثر مميز، ولكن هل قصد إلى كتابة شيء غير النثر؟ هل قصد إلى تنظيم النثر أو وضعه في نظام شكلي بنائي مختلف، كما تفيد كلمة «قصيدة»؟
سأتوقف هنا عند المصطلح «قصيدة» انطلاقاً من عبارة لأنسي الحاج في مقدمة «لن»:
«أما القصيدة فهي أصعب مع نفسها من الشعر مع نفسه…. القصيدة، لا الشعر، هي العالم الذي يسعى الشاعر، بشعره، إلى خلقه… فالقصيدة، العالم المستقل الكامل المكتفي بنفسه، هي الصعبة البناء على تراب النثر، وهو المنفلش والمنفتح والمرسل، وليس الشعر ما يتعذر على النثر تقديمه».
القصيدة إذاً نظام، بناء، عالم مستقل بذاته، ترتيب للغة لا يوجد خارج القصيدة. وقد يكون الوزن أحد سبل الترتيب والتنظيم ولكنه ليس بالضرورة السبيل الوحيد، إلا أن المهم هو أن يدرك الشاعر إذا أراد بناء قصيدة، ما هو عنصره المنظّم أو ما هي عناصره المنظّمة. لا بد للشعر من شيء من التدبير ليسكن قصيدة. وإلا فهو موجود، لا في النثر فقط، بل في كل شيء.
بناء على هذا الفهم للقصيدة يمكن أن نجد الكثير مما قد نسمح لأنفسنا بتسميته قصائد نثر في ما كتبه النفري في «المواقف والمخاطبات» أو في ما كتبه التوحيدي في «المقابسات» مثلاً. وقد يصحّ القول في المقابل إنه لا قصيدةَ نثر في التراث العربي، بل أمثلة كثيرة على النثر الشعري أو الفني. لا جدوى إذاً من البحث في التراث العربي عن قصيدة النثر، لأن كل سابقة لها هي افتراض جدلي. وأنا أميل إلى القول إن ما يذكره البعض من تاريخ عربي لها، هو تاريخ متخيّل لاحق بها، يحبّ من خلاله منظرو قصيدة النثر تصويرها نتيجة تجارب طويلة في أشكال الشعر الأخرى ولا سيما الموزونة منها، إلا أننا في الحقيقة لا نجد أدلة على هذا في تجارب شعرائها. فمعظمهم، لم تكن لهم تجارب تُذكر في الشعر الموزون.
فكأن الشعر الموزون (مختصراً بهذا العنصر الوحيد: الوزن) ضرورة جدلية نظرية لتسويغ قصيدة النثر أو لجعل الحاجة إليها أكثر إلحاحاً. كما أن هذا التاريخ المتخيَّل محاولة لإضفاء شيء من الشرعية على شكل شعري طارئ. الأجدى نقدياً في رأيي هو البحث في أصولها الغربية، والتعمّق في إقامة علاقة نقدية معها تتجاوز قضية الوزن. فقراءة قصيدة النثر في ضوء قضية الوزن قراءة سلبية، لأن القضية هنا ليست قضية وزن بل قضية شعر، واللاحق أوسع بكثير من السابق. والشعر هنا ليس مناقضاً للنثر بل محتضناً له. «فنثر الشعر شعر»، كما يقول الشاعر والروائي عباس بيضون. «وهو نثر مختلف عن نثر النثر أو نثر الرواية»، لأنه اختراق وتركيز ويؤدي إلى ما يصفه بيضون بالحدث الشعري. ومادة هذا الحدث، بحسب بيضون، هي الإيقاع والمعنى. فهو يعود بنا إذاً إلى البعد البلاغي الذي يبدو أن فيه يكمن ذاك السر الذي يحوّل اللغة العادية إلى حدث أو اختراق أو تجاوز… أو شعر.
وقد يُعيننا في بحثنا عن قراءة إيجابية لقصيدة النثر فهمٌ جمالي بلاغي لما كتبه بودلير ورامبو ومالارميه وويتمان وستيفنز وتراكل وغيرهم. وهذه قضية لم يولِها النقاد والشعراء العرب الاهتمام الكافي. فقصيدة النثر العربية قائمة، كما يبدو في ما يكتب فيها وعنها، على مناقضتها لما هو موزون، ولم يستطع النقد الذي تناولها أن ينفذ إلى طرح شعري أو مشروع بلاغي أعمق من ذلك.
ما الفائدة إذاً من دراسة قصيدة النثر في ضوء التراث؟
يمكن أن تكون لهذا التاريخ المتخيَّل قيمة نقدية، لأنه يوفر لغة نقدية مناسبة للكلام على قصيدة النثر أو على إمكانيتها على الأقل. وقد قدّم لنا التراث النقدي مفاهيم قادرة على تجاوز قضية الوزن إلى ما هو أكثر اتصالاً بجوهر النظرة الشعرية إلى العالم أو إلى «اللغة الشعرية» القادرة على خلق المعاني. أذكر في هذا السياق نظرية «النظم» عند عبد القاهر الجرجاني مثلاً. فالنقد العربي القديم، وإن بدا مُصرّاً على الوزن كعنصر أساسي في تعريف الشعر، كان أكثر تساهلاً فيه مما يُخيّل إلينا اليوم. إذ يسارع كثيرون من النقاد المعتمدين على الوزن لتعريف الشعر إلى تأكيد أنه وحده لا يكفي لتحقيق الشعر.
فقدامة بن جعفر مثلاً، بعد تحديد عناصر الشعر الأربعة، يشدّد على أهمية المؤالفة أو التآلف بين العناصر المختلفة. هذه القدرة على إيجاد التناسب بين العناصر المختلفة تفوق، بأهميتها في تحقيق الشعر، أهمية أي من العناصر وحده، إذ يقول: «إن الشاعر هو الذي يشعر من معاني القول وإصابة الوصف بما لا يشعر به غيره… فكل من كان خارجاً عن هذا الوصف ليس بشاعر وإن أتى بكلام موزون مقفّى».
والتوحيدي، مثلاً، يشير إلى أن الوزن قد يكون عاملاً في إفساد الشعر أحياناً، إذا لم يكن طبيعة لدى الشاعر. الوزن المتكلّف قيد يُدخل الشعر في «حصار العروض». ويتابع التوحيدي فيفرّق بين الأوزان والألحان التي هي أوسع وأرحب منها. ويُدخل مصطلح الإيقاع في المعادلة، ويتكلم على إيقاع للشــعر وإيقاع للنثر، ثم ينتهي إلى القول إن «أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم».
إن العودة إلى التراث النقدي العربي قد تغني اللغة النقدية الحديثة وتخفف من وطأة الوزن على ما نسمّيه قديماً أو تراثياً. والانطلاق في دراسة قصيدة النثر من التراث الشعري، ومن تجاوز الحواجز التاريخية النافلة، يوفر إمكانيةً لتحرير الشعر العربي قديماً وحديثاً من المقاربات النقدية القاصرة، التي تغرق في تركيزها على الجزئيات كالوزن، وتفقد قدرتها على التعامل مع العمل الفني كوحدة متكاملة. الوزن وحده ما عاد مدخلاً صالحاً للحديث عن الشعر لا قديماً ولا حديثاً، ولعل البعد البلاغي الذي شهد إنجازات وتطوّرات هائلة في التراث العربي، قد يصلح مدخلاً جامعاً، يمكن النفاذ منه إلى جوهر شعري تشترك فيه التجارب الشعرية، سواء كانت تستعين بالوزن أو تتحرر منه.
في محاضرة ألقاها أمام جمع من المستعربين أو المستشرقين في أكسفورد العام 1966، يطرح الدكتور ستتكيفيتش على مستمعيه سؤالاً، يجد فيه معياراً للحكم على مدى نجاح الدراسات التي تتناول الأدب العربي في اللغات الأخرى، مدى نجاحها في تقديم شيء ذي قيمة خارج دوائر المتخصصين الضيقة. يقول ستتكيفيتش يجب أن نسأل أنفسنا: «هل نستطيع أن نحث شاعراً ناشئاً في اللغة الانكليزية على أن يجد قرابة إبداعية مع امرئ القيس أو المتنبي؟». آمل أن نتمكن نحن، دارسو الأدب ومحبوه من أبناء اللغة العربية، من حث شاعر ناشئ في اللغة العربية، ناقم على الوزن، أن يجد قرابة إبداعية مع الشاعرين نفسيهما. عندها نكون قد خرجنا من قاع البئر ووجدنا أرضاً صلبة لنقد شعري عربي متصالح مع نفسه.
السفير