قصيدتان للشاعر الفرنسي زينو بيانو
كاظم جهاد
زينو بيانو Zéno BIANU شاعر فرنسيّ ولد بباريس في 1950 من أب رومانيّ كان لاجئاً سياسيّاً، وأمّ فرنسيّة. يعتبَر من أهمّ شعراء جيله، وإلى ترجماته العديدة من الهنغارية وإشرافه على إعداد منتخبات متميّزة من الشعر الهنديّ والصينيّ واليابانيّ، أصدر مجموعات شعريّة عديدة منها “وهَن الضّوء” Fatigue de la lumière (1991) و”السّماء الجوّانيّة” Le Ciel intérieur (1999) و”بالغ القُرب” Infiniment proche (2000)، و”من الأعمَق أنا آتٍ” Je viens du plus profond (2005) و”تنويعات حول آرتو” Variations Artaud (2009) و”اليأس لا وجود له” Le désespoir n”existe pas (2010). في الكثير من أشعاره، وكما يرى القارئ في الأبيات التالية، يستنطق زينو بيانو تجارب شعراء ورسّامين وموسيقيّين ومغامرين روحانيّين، عاملاً على أن يستخلص منها فلسفة كيانيّة أو قاعدةَ وجودٍ شعريّة منفتحة ورافضة للتمذهب والانكماش. نترجم هنا قصيدتين له على أن نتبعهما بقصائد أخرى لاحقاً. والشّعراء والفنّانون الذين يذكرهم هنا هم أشهر من أن يتوجّب التعريف بهم، كما أنّ الأبيات نفسها تلقي على تجاربهم ما يكفي من الوضوح.
1ـ إيمان
بالحياةِ أؤمن
وبالموت
بالحبّ العظيم يُعطى
أو يُجتاز
بالصّرامةِ العادلةِ أؤمن
وبحنوٍّ لا يَرحم
بقلب اللّيل
بقلبِ المطَر
أؤمن
أؤمن
بأنّنا ينبغي أن نموت
ومن ثمّ نحيا
أن نموت قبلَ أن نموت
لكي لا نرغب في الموت
بالتّصادي أؤمن
بالشفافية المتناهية
وباقتيادِ الأشياء
إلى البداهة
أؤمن
بأنّني أبداً لن أعرف
كراهيةَ ما أفعل
بالنّظرةِ المنصعقةِ أؤمن
وأؤمن
بأنّ للكلّ أن يخرجَ من هنا حيّاً يُرزَق
بالملمومِ في ذاته أؤمن
وبالمنفتح
بما يبزغُ أؤمن
بالمرتجف
وببعضِ أجزاءِ حَسرة
أؤمن
بأنّ كلّ لفظٍ صائب
إنّما هو آتٍ من جوفِ السّماء
وبأنّ هذه السّماء تنفتلُ في
أعمقِ أعماقِ كلٍّ منّا
بالحميّة المتدفّقة أؤمن
وأؤمن
بضرورةِ مُلاشاةِ الشيء
ليزدادَ بُهرة
بآرتوArtaud أؤمن
عندما اجتازَ معرضَ فان غوغ Van Gogh
بخطواتِ عدّاء
ليتأمّلها بأفضلِ صورة
ويصفَها بأكمل ما يكون
بألبرت آيلرAlbert Ayler أؤمن
عندما شرعَ بالعزف أثناءَ دفنِ كولْترَيْن Coltrane
في اشتعالاتٍ متشظّية
ثائرة
عندَ أفقِ الطّوفان
على شاكلةِ كونراد Conrad في “قلب الظّلام”
أؤمن
بأنّ على المرء أن يتقدّم
في غياهبه الخاصّة
ليرى فيها بأكثر وضوحاً
أؤمن بأنّ ارتجافةَ الكيان
لن تنبثقَ أبداً
حيثما كان الخزي
والحقد
والخوف
بقتامة المتوحّدين أؤمن
وباللّحظة الخالصة للّيلِ البهيم
هناك حيث يلتقي المرء جرحَه الحقّ
ليصغيَ إلى لسعته الحقيقيّة
أؤمن بهذه الطّرُق
التي يقطعُها الجسدُ في الفكر
والتي نرتطمُ فيها
بهديرِ أعماقِ الكون
من خلالِ هذه المآقي
التي بِها بكى اللّيلُ فينا
هذه المآقي
التي نظّفتْها فينا الحياة
على شاكلةِ تراكل Trakl أؤمن
بأنّ في مقدورنا أن نكرعَ صمتَ الإله
أؤمن
بأنّه ينبغي الإقامة في الضوء
من أجلِ تساؤلٍ طويل
بلا إجابة
بزوران موزيش Zoran Mušič أؤمن
راسماً جُثَثَه الحطبيّة
على أردأ ورقٍ
مُواصِلاً التقاطَ الحياة
في عمقِ ما هو متفكّك
مُعَزِّم
شاقوليّ
كذلكَ هوَ
بتكسّراتِ الحمّى أؤمن
وبانتفاضات اللّيل
ووقفات الأعصاب
أؤمن
بأنّنا ينبغي أن نتوكّأ
على الرّيح
أن نجثوَ على ركَبنا وسطَ البحر
ناذرينَ أنفسَنا
للاّ نهاية
أؤمن
بأنّنا ينبغي أن نفكّر
كما يسقط حجرٌ من كبدِ السّماء
وكما تبكي نجمةٌ هيَ أمُّ نجومٍ عديدة
أؤمن
بأنّ على المرء
أن يعيَ عميقاً كارثتَه
ليبدأ
بالابتسام حقّاً
ويغامر
في الزُّرقةِ الأشدّ زُرقة
2ـ من أجل أبديّة مُتراخية
(انطلاقاً من بيت شِعر للوران غاسبار Lorand Gaspar))
غِناء
في عضلاتِ الغناء
بلا كلل
تصغي أنت
إلى المستودع الهائل هذا من الأفواه
في الهامشِ من كلّ شيء
النّفحة الأولى هذه
اللاّ تنضب
تسمع كيف تهدرُ في الجسد كلّه
خلالَ الجسدِ كلّه
وكيف تتفاقم
كيف تجتاز الزّمان
على نحوٍ آخر
غناء
في عضلات الغناء
النبض يعلو أقوى فأقوى
نبرة طويلة فوجيزة
نبرة طويلة فوجيزة
انقباضة فانبساطة
ترتيبُ الأصواتِ ترتيبُ حياة
إنّه منفاخُ القلب
ينزلُ في اللّيل
عميقاً
عميقاً جدّاً
في كلّ الّليالي
غناء
في عضلات الغناء
ثيلونيوس مونْك Thelonius Monk
حالِماً بأن يملأ الكون
بِسَيلٍ صوتيّ
من لغةٍ كهوفيّة
تسفيتاييفا Tsvetaïeva
شَعرها الملتهب
عندما تقرأ مسرحيّاتها الأولى
على الممثلّين الشبّان
في مسرح موسكو
غناء
في عضلات الغناء
بلازما من كلمات
صوتٌ في الصّوت
ذكاءٌ تنفّسيّ
يجتذب
العالمَ كلّه
إلى جوفِ كلمة
غناء
في عضلات الغناء
لماذا نختشي الموت
لماذا نخترعُ آلافَ المذاهب
للتمويه عليه
ثقباً أسوَد
أو ليلةً موشّاةً بالأنجم
فلننسينّ سيرورةَ الزّمن
يقول لنا تشوانغ-تشو Tchouang-tseu
ولنعتصمنّ باللاّ نهاية
غناء
في عضلات الغناء
في غضارة العُدول
أو في
صقيع الفجر
أو في
الوثبة المفاجئة للفكر هذه
لا هنا ولا هناك
أو في
ما تريدون
أو
ما تهوَون
غناء
في عضلات الغناء
حتّى الاستشعار الأساسيّ
بلا قواعدَ ولا معتقدات
هناك حيثُ يتشكّل ويتحلّل الكلّ
شساعة
مبلّلة حتّى النّخاع
غناء
في عضلات الغناء
غناء
يسكنُ غناءَ
لغاتٍ محترقة
من أجلِ أن تقوِّلَ الكلمات
ما لا تقدر أن تقولَه
الآنَ أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى
(عن الفرنسيّة: كاظم جهاد، باريس)