قصّة موت معلن
عمر قدور
ما تسرّب، أو ربما سُرِّب، عن قول أحد رؤساء الأجهزة الأمنية باستعداده لقتل مليون سوري قبل ذهابه إلى المحاكمة في لاهاي؛ هذا القول فظيع لا لجهة مجرّد التفكير بالمليون ضحية المفترضة، وإنما أيضاً لجهة التفكير بقتل هؤلاء الضحايا مجاناً، وبلا أي مكاسب سياسية. ما يضمره التصريح من تعهد بجريمة كبرى، وقيل إنه قُدّم إلى رأس النظام منذ بدء الثورة، يذهب مباشرة إلى الإقرار بحتمية سقوط النظام في النهاية، وإلى أن كل ما اقترفه من قتل وتنكيل طوال سنة ونصف لم يكن قتلاً سياسياً، إن كان للسياسة بأقذر مستوياتها أن تبرر هذا القدر من الوحشية.
النية المبيتة لقتل مليون سوري، على يد رئيس جهاز أمني واحد فقط، تفنّد المزاعم والادّعاءات عن نجاح النظام في جرّ الثورة إلى العسكرة، واتخاذ ذلك ذريعة من أجل الزج بقواته والبطش بالثوار. مثل هذه التحليلات المبسّطة يبرئ النظام من مسؤوليته الكاملة، وينسب قسطاً منها إلى أولئك الذين وقعوا ضحية مكر النظام، فتصبح الضحية مقتولة بغفلتها أو بغبائها قبل أن تنال نصيبها من الجلاد؛ ذلك فضلاً عن الإقرار النهائي بالعجز التام أمام الوحش الذي ينبغي ملاطفته وتهدئة خاطره. في أحسن الأحوال يتناسى منتقدو الضحية إقدام النظام على قتل عشرات الآلاف، جلّهم من المدنيين قبل ثلاثة عقود، حين لم يكن النظام يواجه ثورة شعبية على هذا القدر من الانتشار، ولا يخفى على أي متابع أنه مصمم على تجاوز تجربته السابقة بنجاح ساحق، بل بدمار ساحق.
ربما هو نوع من الانتقام الاستباقي، فالنظام يدرك استحالة استمراره، وعلى ذلك يثأر من أولئك الباقين، أو يثأر من فكرة البقاء نفسها عبر تعميم الموت والخراب بكل ما أوتي من أسلحة. يعطي القادة أوامرهم للقناصة في المناطق المنكوبة باستهداف كل «ما» يتحرك، وفي بعض الأحيان كما حصل في مدينة «دوما» أُنذر السكان بذلك عبر مكبرات الصوت، أما وضع الـ»ما» في هذا النص بين قوسين فليس للتدليل على خطأ لغوي باستبدالها بـ»مَنْ»؛ الأوامر الصارمة هنا تقضي حقاً بالقضاء على كافة مظاهر الحركة بوصفها مؤشر حياة، وليس بعيداً في الذاكرة استهداف قوات النظام للحمير فيما عُرف آنذاك بمجزرة الحمير. إن جرف مزارع الصبّار في دمشق وإحراق الغابات في «سلمى» وجوارها، على سبيل المثال فقط، يدلان على مدى حقد رجالات النظام على الحياة برمتها؛ هؤلاء الذين لا يرون نفسهم، بحكم جرائمهم، سوى قتلى مؤجلين ينتقمون قبل رحيلهم من الحياة.
في حي «قاضي عسكر» في حلب تقصف الطائرة مخبزاً وتُحدث مجزرة في طابور الساعين وراء رغيف خبز ليس إلا، وفي حي الميدان في حلب أيضاً تخطئ الطائرة المخبزَ فتقصف بناية مجاورة له وتتسبب بدمارها، الجدير بالذكر أن المخبزين هما حكوميان، وأن استهداف رغيف الخبز لم يتوقف عندهما. وإذا أمكن ردُّ هذا إلى سياسة قذرة غايتها التجويع، فإن الملفت في الشهر الأخير استهداف المباني الحكومية الخدمية من قبل قوات النظام، ففي مدينة حلب، ودائماً على سبيل المثال فقط، تم قصف المحكمة المدنية، وتم قصف شبكات الكهرباء في أكثر من منطقة، في الوقت الذي كان بوسع النظام الاكتفاء بقطع الكهرباء كما يفعل يومياً. في الواقع يرتكب النظام كل ما من شأنه أن يعدم احتمالات بقائه، فلو كان يفكر جدياً بالبقاء لما وصل إلى حد تدمير المنشآت العامة؛ مرة أخرى هو الانتقام ليس إلا.
لن يحكم هذا النظام ثانية، هي بالأحرى قناعة النظام نفسه، وإذا جهدنا في اقتفاء الاحتمالات المتلاشية لبقائه، فسيكون من الصعب تصور إقامة حكم على الأنقاض بالمعنى الحرفي للكلمة. لا يستقيم مع النية في الحكم، في أشد الحالات وضاعة، أن تُهلك السلطة مقومات الحياة للبلاد كافة، وفي بلد كسوريا اعتاشت السلطة فيه على تضخم وهيمنة القطاع الحكومي لا يعني تدمير الممتلكات العامة سوى استحالة بقاء النظام. بحسب التقديرات الأولية يزيد ما أنفقه النظام خلال سنة ونصف، في محاولة قمع الثورة، على الميزانية المعتادة في الأوقات الطبيعية، أي أنه استدان الكثير من حلفائه لتغطية نفقات حربه العبثية، وعندما يضيف إلى ذلك الخرابَ الذي تلحقه قواته بالممتلكات فإن الفاتورة الإجمالية باهظة بما يفوق كثيراً قدرة أي حكم منبوذ على التحمل؛ لم يحدث أن حكم طاغية، مهما بلغ من الجبروت، بالتشبيح وحده.
في الأصل، أنه نظام قاتل مع وقف التنفيذ، وفقط حيث استتبت له السيطرة المطلقة من دون قتل مادي مباشر، وقد أتت الثورة لتكشف عن الجوهر الذي يتحلى بإكسسوارات الدولة. يذهب السينمائي السوري أسامة محمد إلى القول بأن القتل هو طريقة تفكير للنظام، لذا ليس التصريح المُشار إليه في مستهل النص سوى تعبير فج عن جوهر سلطته، وعن المدى الأقرب الذي بوسعها الوصول إليه إن لم تلقَ رادعاً قوياً، أو بالأحرى إن لم تلقَ قوة رادعة. ليس مجازاً أو مصادفة أن يسمع كاتب هذه السطور في هذه اللحظات أصوات القصف المروحي على الجوار القريب جداً، فهذا هو النظام الذي يقتحم أي احتمال آخر عنه ليثبت أنه يفكر بواسطة القذائف، وهذا ما يحاول إفهامه لكل من تسول له تسويغ أفعاله بشيء من السياسة؛ السياسة التي لا تقطع في أدنى درجاتها مع الحس الإنساني. ولعله من الإنساني تماماً أننا، بعد استنفاذ آفاق التحليل، قد نضطر إلى العودة إلى لغة الهجاء السياسي، إن أسعفتنا اللغة في إيجاد النعوت المناسبة!.
على صفحتها تصفه الناشطة «خولة دنيا» بأنه قاتل تسلسلي، ورغم أنه يصعب تصور نظام مهووس بقتل شعبه، إلا أن هذا الوصف ينطبق تماماً على المجازر المتتابعة التي تشهدها سوريا. مجزرة «داريّا» المروعة لم تكن الأولى وليست الأخيرة، وفي كل مرة بصمة القاتل مكشوفة؛ قصف لعدة أيام يرافقه حصار كامل وقطع لوسائل الحياة والاتصالات، بعد تدمير المنطقة المستهدَفة تدخل قوات النظام ويبدأ الفصل الأكثر ترويعاً، إذ يتم إعدام ما تصادفه من مظاهر الحياة. لكن لا ينبغي لنا أن نبخس القاتل حقه، ففي «داريّا» كان مسرح الجريمة أفضل إعداداً من الجرائم السابقة، وكانت كاميرا النظام ومذيعته ترافقان بعض الضحايا لتنتقم منهم حتى الرمق الأخير، كان النظام يقدّم متعة بصرية بديلة لشبيحته الذين لم تُتح لهم المشاركة في المجزرة، ويُنذر الضحايا المؤجّلين بموت يصلح للتشفي.
في «قصة موت معلن» لماركيز، يستعرض الأخوان سلاحهما ونيتهما في القتل أمام البلدة كلها، عسى أن يقوم أحد بتحذير الضحية أو أن يتولى أحد ردعهما عن الجريمة، غير أن اللامبالاة العامة تتغلب فيذهب القاتلان إلى جريمتهما التي بات ينتظرها الجميع. في «قصة موت معلن» للنظام السوري، يراهن الأخير على أن أحداً لن يردعه، بل قد يجد البعض من الضحايا المقبلين مسوّغات لعدم استثارة الوحش، وكأنه قابل حقاً للتوقف عن طبيعته. «قصة موت معلن» للنظام السوري هي الطبعة الأكثر رواجاً اليوم، ما يَعِد مذيعة النظام بفرص إضافية من الشهرة والنجاح في مجازر قادمة!.
المستقبل