قضايا صغيرة!
ميشيل كيلو
خلال العقود الخمسة الماضية، مر المواطن العربي في حقبة قسم خلالها قضاياه إلى صغيرة، فهي دون أهمية، وكبيرة مهمة. وقدم تعريفا لنمطي القضايا هذين يقوم على قربها وبعدها من أهدافه الاستراتيجية الكبرى، فالقضية القومية كبيرة، وكذلك قضية الحرية والعدالة الاجتماعية، أما القضايا الصغيرة فهي تلك التي لا تنتمي إلى هدف عظيم أو يمكن أن تحول دون بلوغه، كقضايا الأقليات بالنسبة إلى القضية القومية. وفي حين رأى من غير الجائز تجاهل القضايا الكبرى، أعتقد أنه يجوز للمعنيين، أفرادا كانوا أم جماعة أم حزبا أم دولة، التغاضي عن القضايا الصغيرة وعدم التوقف عندها لتكريس جهوده لها، وإلا أضاع وقت الأمة وضيع أهدافها، وفوت عليها فرص تحقيق ما تصبو إليه من حلول لقضاياها الرئيسة، التي يبدل وجودها حياة العرب من أساسها، بينما لا تحتل القضايا الصغيرة أية مكانة مشابهة أو موازية، ومن الحكمة والصواب تأجيل البحث عن حلول لها إلى فترة تلي بلوغ الأهداف الكبيرة، التي لا يحق لأحد تأجيل العمل في سبيل تحويلها إلى واقع ملموس يجسد طموح المواطنين وتطلعهم إلى حياة أفضل.
ساد خلال فترة طويلة جدا الميل إلى الاستهانة بالمسائل التي لا تنتمي إلى الأهداف السياسية والاجتماعية الكبرى، وساد بالمثل ميل إلى قبول أخطاء أصحاب المشاريع والأهداف الكبيرة باعتبارها هنات هينات ليس من الحكمة التوقف عندها أو انتقادها، كي لا يتم إرباك مسيرة من يتفرغون لجلائل الأعمال وسامي المقاصد.
هكذا، تم اعتبار الفساد الذي مارسه أصحاب القضايا الكبيرة أمرا قليل الأهمية، وكذلك خروجهم على القانون واستهتارهم به وبالقضاء، بل إن هناك من رأى في هذه القضايا الصغيرة مفرزات طبيعية لحقبة التاريخ العظمى التي يجتازها الوطن، حتى إن كاتبا سوريا وضع دراسة يمتدح فيها الفساد باعتباره نوعا من تراكم رأسمالي أولي يسبق في العادة التنمية البشرية والاقتصادية الشاملة، واعتبره مرحلة إجبارية لا سبيل إلى القفز فوقها أو تجاهلها، ومن غير الطبيعي والحكيم التصدي لها أو الاعتراض على آلياتها ونتائجها؛ لأنها ستكون لصالح المجتمع، وستذهب عوائدها إلى الشعب.
في هذه الحقبة، سادت فكرة رأت في انتهاك القانون ثورية حميدة، وطريقا مختصرة تقود بسرعة إلى الأهداف الكبرى، فلا يجوز التوقف عندها أو الإحجام عن السير فيها، وإلا كان في الأمر ما لا تحمد عقباه، وألهتنا القضايا الصغيرة وضاع وقت الشعب ومصالح الأمة، في حقبة يجب تخطيها إلى بديل أكثر قدرة على تلبية طموحات ومطالب الناس. كم هلل الخلق لانتهاك القوانين والأعراف الناظمة لحياة الجماعة الوطنية، التي اعتبروها مصدر بؤسهم وهزائمهم وظنوا أن بقاءها ضار بهم ومخالف لمصالحهم الحقيقية، فما العيب في هجرها ورميها على مزابل التاريخ، وهل يجوز الامتناع عن التصفيق لمن يدوسونها بأقدامهم، وكيف لا نشجعهم على انتهاك النظام العام والقانون والحكم الرشيد والسلوك الأخلاقي والتعاطي معها بكل احتقار باعتبارها إرثا تركه لنا ماض بغيض يتوقف تقدمنا على التخلص منه، كي نصل إلى الحاضر السعيد.
بمرور الوقت، ذابت الأهداف الكبرى أو انقلبت إلى نقيضها، وتبين أن ما كنا نظنه قضايا صغيرة وتافهة هو من جملة قضايانا الكبرى والحقيقية، وأن تلك الأخطاء التي تراكمت وتضخمت وتفاقمت حتى لم يبق غيرها في حياتنا، ثم اعتمدت نهجا في السلوك والعمل أبطل كل سلوك وعمل صحيح أو نبيل، فحل الفساد كـ«قضية صغيرة» محل التنمية كـ«مسألة كبرى» كاذبة، وتحول انتهاك القانون إلى انتهاك لكرامة وحقوق ووجود كل مواطن، وإبطال لوجود الدولة والمجتمع، ولم يبق في حقول الشأن العام المختلفة غير الفاسدين والمرتشين وباعة ضميرهم وأرواحهم لشيطان المال والجاه، ومنتهكي القانون والخارجين عليه، الذين تحكموا بكل شيء من موقعهم في قيادة الدولة، ووجهوه نحو ما أدمنوا على ممارسته: الإفساد العام والشامل، الذي اخترق جميع أوجه الحياة وصار قضية كبرى بين قضايا كبرى مماثلة أرهقت المجتمع، بينما تلاشى كل ما عداها من مسائل لطالما قدمت للشعب باعتبارها مسائله الحقيقية الوحيدة، ثم تبين أنها لم تكن مسائل أو حقيقية، بل كانت درب الحاكمين إلى أهدافهم النجسة، التي تذرعوا بها ريثما يتمكنون من الأمر، وقبل أن يسفروا عن وجوههم الحقيقية ويظهر أنهم أبعد خلق الله عن ما رفعوه من شعارات عن العدالة والحرية والوحدة العربية، ويتأكد أن برنامجهم الحقيقي عكس برنامجهم المعلن، وإلا من يستطيع أن يفسر كيف تحولت وحدة العرب إلى طائفية وتكسير للمجتمع الوطني؟ وكيف انقلبت الحرية إلى سجون ومعتقلات منتشرة في كل مكان، والعدالة إلى نهب جامح لفقراء الشعب المساكين وإثراء لقلة متناقصة من اللصوص الحاكمين؟ ولماذا ملأت النقمة صدور الناس على ما كان في الماضي محل تأييد وحماسة معظمهم، ولماذا لم يبق في قلوب وعقول هؤلاء غير الخيبة وفقدان الأمل؟
بذوبان القضايا الكبيرة والمهمة، تبين أن القضايا التي كانت تعتبر صغيرة هي التي فرضت نفسها على السياسة وفي الحياة، وأنه لم يبق أية قضايا أخرى غيرها، ولم يعد هناك إلا أحد خيارين: العيش الذليل والحياة البائسة الكئيبة، أو التمرد والثورة واستعادة قضايا البشر الحقيقية التي كانت قد اختفت من الوجود على أيدي السلطويين، والتعامل معها كقضايا مترابطة – متكاملة، فلا هي كبيرة أو صغيرة، وإنما هي مسائل تهم الناس وستقرر في نهاية الأمر مصيرهم، ولا بد من التصدي لحلها بكل ما في نفوسهم من حب لوطنهم وشعبهم، ومن احترام للحقيقة، وتمسك بالصواب وتحاش للخطأ، كي لا تتكرر في بداية المشروع التغييري الذي يقفون على أعتابه الآن أخطاء الماضي، ويقع من جديد فرز قضايا الناس إلى أصناف ذات أحجام متباينة، ويتم إهمال بعضها بحجة أنها صغيرة أو ليست ذات أولوية، وأن الاهتمام بها يعرقل السير نحو المستقبل، بينما يثبت واقعنا أنها لا تقل أهمية عن غيرها، وأنه كان لها دورها الحاسم في فشل أهداف الشعب: بغض النظر عن طابعها!
هل تعلم العربي العادي الدرس؟ وهل فهم أن الخروج من حالة العصيبة سيكون غير ممكن إذا ما استهان من جديد بقضايا مركزية وحاسمة تبدو له صغيرة وقليلة الأهمية، يهملها فتكبر وتتضخم حتى تلتهم كل القضايا الأخرى، خاصة الكبيرة منها، وتقع المأساة؟
الشرق الأوسط