قطةٌ في نافذةٍ/ تشارلز سيميك
اللامرئيّ
1
كان أبداً هنا.
رعبُه المهول مُستتِرٌ
في لبوسِ زُمرةٍ
من أزهارٍ وطيورٍ
وأولادٍ يلعبون في الحديقة.
وحدها الأوراقُ تقولُ الحقيقةَ.
إنها تخشخشُ في شجنٍ،
ثمّ تسّاقطُ ساكتةً بينما تُصغي
إلى اليعسوبِ
الذي قد يعرف الكثيرَ عنِ اللامرئيّ،
وإلاّ فَلِمَ تغدو أجنحتُه
شفيفةً جدّاً في الضّوء،
رشيقةً حين يطيرُ،
بالكادِ يلحظُ المرءُ
أنها كانت هنا ثم تلاشتْ.
2
أليسَتْ تدري الظّلالُ عنه شيئاً؟
الطريقة التي بها، أيضاً، يأتي ويَرُوْح
كأنه في زيارةٍ إلى ذلك العالَمِ الآخَر
حيث يفعلُ ما يشاء
قبلَ أن يسرعَ عائداً إلينا.
اليومَ بالضّبط كنتُ أعْجَبُ لظلٍّ طَرَحْتُهُ
وأنا أسيرُ وحيداً في الشّارع
وكنتُ موشِكاً على الانخراطِ في حديثٍ
عنِ الأمرِ ذاته
حين انسحبَ من أمامي على حين غرَّةٍ.
أيها الظّلُّ، قلتُ، ما الرّسالةُ
التي ستعودُ إليَّ بها،
وهل ستكونُ حافلةً بالتباساتٍ عَصِيَّةٍ
لا يسعني حتى أن أتصوّرها
وأنا أشقُّ الطّريقَ وئيداً
تحت شمسِ الظّهيرة؟
3
لعلّه يختبئ وراءَ بابِ
مكتبٍ في بناءٍ ما،
هناك حيثُ وجدتَ نفسَك
بعد ساعاتٍ
وليس مَن يدلّك على الطّريق،
مُحاطاً بمئاتِ الأبوابِ
التي أغفلتْ صنفَ العملِ،
صنفَ الكدحِ الذي يدور
داخلَ الغرفِ الضّيّقة، شحيحةِ الضّوء.
أثمّة وكالة تَحَرٍّ
ستعثرُ على الله مقابل أجرٍ زهيد؟
أم شركة مستعدّة لأن تمنحك تأميناً،
لا ريبَ يوماً ما،
رغم بشائرِ كاهنِ أبرشيّتك،
ستمثُلُ في الجحيم؟
ينتهي الرّواق الطويلُ بنافذةٍ
وهناكَ حتّى ضوء النّهارِ الآفل
يلوحُ عتيقاً ومغبرّاً.
إنه يعي ماذا يعني الانتظارُ،
وإذ أدركَ كُنْهَ ذلك
سيلُوْحُ كمن بوغتَ برؤيتك هنا.
4
لحظةَ أطفأتَ الضّوء،
التقيتَهما من جديد،
الآدميَين الميتَين
اللذين تدعوهما والدَين.
قد داعبَكَ أملُ أن ترى الليلةَ
الفتاةَ التي أحببتَها ذات يوم،
وتلك الأخرى التي تركتْكَ
تدسُّ يدَك تحت تنّورتها.
بدلاً من ذلك، ههنا في صحنِ الفراطة ذاك المفتاحُ
الذي لن يفتحَ أيَّ قفل،
والواقي الذّكريّ الذي عثرتَ عليه في الكنيسة،
والغراب الأعرج الذي ربّاهُ جيرانُك.
ههنا الذّبابةُ التي نَكَّلْتَ بها،
والصّخرة التي رميتَ بها صديقَك الأقرب،
والخنزير الذي نَدَتْ عنه زعقةٌ
والسِّكِّينُ تحزُّ حنجرته.
5
لا يزالُ الناسُ هنا يروون حكاياتٍ
عن عجوزٍ أعمى
كان يدحرجُ النّرْدَ على الرّصيف
وينفحُ الأولادَ
من أهلِ الحيِّ
لكي يقولوا له الرّقمَ الذي ظهر.
وعندما يكونون في المدرسة،
سيطلبُ ذلك من أيّ عابرٍ
يسمعُ وقعَ خُطاه،
من ساعي البريد أثناء جولاته،
من متعهّدي الدّفن وهم يرفعون تابوتاً إلى عربة الدّفن،
ومنك أنتَ، أيضاً، أيّها السّيّد،
فهلاّ تفضّلتَ بالمساعدة.
6
مساءاتٌ داكنة، سُكّانٌ عُجَّزٌ شِيبٌ،
قطةٌ في نافذةٍ،
رجلٌ هَرِمٌ يتناولُ عشاءَه في أخرى.
والآخرون قد تواروا عن المشهد،
كمِثلِ ذلك الذي ينتظرُ المغطسَ
حتى يمتلئَ بالماء السّاخنِ
ريثما تتعرّى هي أمام مرآةٍ
قد بدأ البُخارُ يغشاها.
مِلْكَةُ الخيالِ، نائبةُ إبليس،
سنحتْ لي بأن أُلقي نظرةً خاطفةً إلى ثدييها
بينما أسرعتُ ووجهيَ مُغَطَّىً بياقتي،
لأنَّ الرّيحَ زمهرير.
7
عزيزتي الآنسة رَسْلْ:
في الليالي التي صحبتِني فيها في جولاتٍ سريّةٍ
إلى مكتبةِ البلدةِ المقفرة،
بالكادِ استطعتُ تمالُكَ نفسي
حين كنتِ تتواثبين أمام صفوفِ الكتب،
تهمسين أسماءَها،
تُشيرين إلى التيّ ينبغي عليَّ أن أقرأَها،
ثم تتناسين وجودي،
تُطفِئين الضّوء
وتتركيني في العتمة
أتلمّسُ كتاباً
وسطَ الرّفوف،
الكتاب الخطأ بكل تأكيد،
كما علمتُ بعد هنيهةٍ
عند طاولةِ البائعِ
تحت أنظارِك المُشفقة
التي لاحقتني حتى الشّارع
حيثُ لم أجرؤْ على التّوقّف
لأرى ما الذي حملتُه في يدي
إلى أنِ انعطفتُ عند النّاصية.
8
مفتاحٌ صدِئٌ في علبة سيجارٍ ملأى بالمفاتيح
في دُكَّانِ خردةٍ على جانب الطريق.
المفتاح الذي احتفظتُ به زمناً طويلاً
قبل أن أتركه ينزلقُ
من بين أصابعي.
لا بدَّ، عندما كان قيدَ الاستعمال،
أنّ المؤَلِّفَ المُتَنَسِّكَ لـ “حجابُ القسِّ الأسودُ[1]”
كان لا يزال رهينَ
بيتِ أمّه في سِيْلِمْ.
فتحَ درجاً صغيراً
يحتوي كومةً رسائل مصفرّة
في خزانة ذات مرآةٍ
عكستْ وجهاً شاحباً
بعينين محمومتين
في غرفةٍ تطلُّ
على أشجارٍ سوداء عارية
وغيومٍ قرمزية تتراكضُ نحو المغيب،
هناك سرعان ما ذُرِفتْ دموعٌ
سبّبتِ الصدأَ على المفتاح.
9
آهٍ يا بيرسيفون، أصحيحٌ ما يقولون،
بأنّ كلَّ ما هو جميل،
ولو للحظةٍ عابرة،
ينتقلُ إليك، ولا سبيل إلى رَدِّه؟
خيّاطٌ يُدَبِّسُ فستاناً أحمر في نافذة متجر،
عجوزٌ يجولُ بكلبِكَ الهرِمِ البائس،
حتى أنتم أيّها الأولادُ الصّغار الممسكون بأيدي بعضكم
وأنتم تعبرون الشارع برفقة معلِّمِكم،
ماذا لديكم من أملٍ لأجلِنا هذا اليوم؟
مع هذه السّماء التي تكفهرُّ سريعاً،
أولى طلائعِ نُدَفِ الثّلج،
تتساقط هنا وهناك، ثم في كلّ مكان.
10
اللامرئيُّ، يتأمّلُ الثّلجَ
عبر نافذة مغبشةٍ
من نسقِ نوافذ مضببة للمدرسة،
ليتأكّدَ أنّ رقائق الثلج تسقطُ
ضمن نسقٍ منضبطٍ
حيث قُدِّرَ لها أن تسقطَ
في الباحة الرّمادية،
ثم تسكن لحظة السّقوط.
يومئ الغرابُ برأسه
وهو يدرج في المكان
لا ريب أنه أستاذ جامعي في الفلسفة
في حياةٍ سابقة
الذي رغم تبدُّلِ الظروف
لا يزال يفتح منقارَه
من حين لآخر
كأنه يُخاطبُ طلابَه الهائمين به،
وليس يرى سوى الثلج،
يرفع نظَرَه محتاراً
إلى واحدةٍ من النوافذ المغبشة.
11
أيّها الطائرُ وأنتَ تواسي البائسين
بأغنيتِك،
ثمّة الشخصُ أو الاثنان المتمدّدان يقظَينِ
في الهجوعِ الشاملِ
للبلدة الصغيرة وأهلِ الرّيف،
اللذان لا يعلمُ أحدهما عن الآخر شيئاً
بينما يصغيان بكلّ جوارحهما
لكُلِّ سقسقةٍ
وَجِلَينِ من أن يقوما بحركةٍ
تجعلُه يصمت.
في الضّوءِ المُبتَرِدِ، الفضيّ،
يبدو إطارُ النافذة للعيان،
بعضُ أشجارٍ في الحديقةِ
توشكُ أن تتحلّلَ من الليل،
والأُخرياتُ لسنَ على عجلةٍ من أمرهن.
ومَن أنتَ، يا سيدي؟
أنا مجرَّدُ عجوزٍ متثاقلٍ،
أتكلّمُ بَاطنيَّاً
في سبيلِ إلهٍ
لم يُكلّمني قطّ.
إلهٌ بعينيّ ماعزٍ
يرعى وحيداً
على مرْجٍ فوق سفحِ جبلٍ شاهق
في الغسق الصيفيّ الطويل.
8- قصة قصيرة للكاتب الأميركي ناثانيل هوثورن (1804-1864) نُشرت للمرة الأولى في عام 1836
المترجم: ترجمة أحمد م. أحمد
ضفة ثالثة